أدب السجون المحامي محمد حسن - السجين

منذ سيق إلى هذا المكان استشعر نهايته، مكانته العلمية ودماسته وكذلك توجههه للعمل الخيري الذي أكسبه شعبية كبيرة أيقظت فطنة السلطات عليه؛ ولم يشفعوا له، لكن حبه للوحدة جعله يستمرئ الجدران التي حُشر بينها.
_ عدد من الأسئلة ونعود بك إلى بيتك أو مكتبك حسب رغبتك .
استرخى ملء قلبه بلا وعي، دفع كل ما يملك ووقع على كل الصكوك، في سبيل الحصول عليها،
لم تكن على مقاس أحلامه، لكنها أضيق بقليل، مساحتها متر بمترين وارتفاعها يجبره على الانحناء، هي أفضل له من ذلك الانحشار مع المئات من السجناء في قبو ضاقت رطوبته بهم وتغازر عليهم القمل وتقصف فيهم الكبرياء، وهرب منه ضوء النهار.
تصالح مع نفسه، وهو يشم تلك الروائح الكريهة التي هرب منها لينعم بحبسه الانفرادي، محتميا بصبره على نقاط الماء الهاربة من السقف وهذا الجدار المتشقق؛ والتي ماتزال تبعثر جسده شبه العاري، ويحاول الهروب منها، وينجح أحيانا دون أن يفك رداء الظلام .
لم تكن تلك التأوهات وهول الصراخ، والتوسلات التي تجلد خاطره تؤثر فيه؛ فقد اعتادها، ويحاول تجاهلها، وطرد كل دموعه عليها، لكنه يرسب في هذا الامتحان دائما وهو يواسي نفسه بخلاصها من ذاك الكابوس الذي عاشه عشرة سنوات ونيف ومايزال، وهو ينظر إلى تلك القروح والندوب ويحلم ويتمنى لها أن تندمل لا محال، فغوط زميله الذي أُجبر على دهن جسمه به وأكله، وهذا البول الذي غدا شرابه، كفيلان في إبراء كل الجروح المتقرحة وهتك عرض الألم.
حاول التماسك مع نفسه وكبح مر الذكريات، والإضفاء عليها ببعضٍ من ترف التمرد على سيافه، عندما كان يوهمه أحيانا أن يداه الاثنتين مربوطتان مع الحائط لكي يستطيع التقام بعضاً من فتات الخبز المتعفن، والمغمس بالوحل، المرمي بين الأحذية لعله يستمد بهما بعضاً من حيوية تبث به روح أملِ أحبّةٍ له خارج القضبان، قوة ربما تؤجل منيته، ويستطيع رؤية عائلته التي غيبت عنه، ويسترجعها في كل حلم ولو من بعيد، لكنه فطن أن عائلته قُطّعت أشلاءَ أمامه، ورميت طعاماً للكلاب أمام عينيه دون شفقة ولا رحمة، فينصهر مع تمنّي نهايته، لكي يلحق بهم، ويرتجي سجانه ليمن عليه بهذه المكرمة، ولكن هيهات أن يجد من يبتاع له الموت، حتى لا يسترجع شريط التهام الكلاب المسعورة أصابع ابنه الرضيع الناعمة، وجفاف نهر البكاء .
المكان غدا أكثر ظلمة، هناك طيف من شعاع يتنمر أحيانا على الظلام، يرسم بعضاً من شفق، الروائح الكريهة أخذت تستبدل جلدها، والصراخ الآتي من خلف الظلمات يجلد أطرافه مرات ومرات، ولكن بدأ يتلاشى مع الصدى، وقطرات الماء المتساقطة على رأسه، أشعرته بهذا الجسد المسجى فوقه، والذي شاركه الانفرادية وما زال ينزف، حاول تحريك يديه لمساعدته، على وقف النزف، وما برح يحاول وهو يستصرخ من ذاكرته ذاك السجين الذي فُجِّر رأسه ليسكت عن الصراخ، ويعود إلى أسماعه استجداء تلك النزيلة من مغتصبها وهي تقول له ..
_ يا بني أنت مثل ابني .. أرجوك ابتعد .
وتمتم السجان بكلمات دنيئة لا يتصورها عقل،
كان يحاول طرد غثيان ذاكرته بكم الأمل، وهو مازال يرفع يده، لكن أنين الكهل المنزوع الأظافر والمسلوخ الجلد يبعثر ركامه، ويفشل في استرجاع حتى غباره.
كان كلما ترتفع يديه لا تصل، والأجساد تتكوم فوقه وهو لم يعد يرتعد .
حاول مرات وكان كلما يمل منه الفشل؛ يحاول من جديد ويحاول ويحاول حتى وصلت يده المتيبسة إلى رأسه المتفجر .


المحامي محمد يوسف حسن
سوريه. حلب



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى