حسام المقدم - الخاتم..

صوتٌ غريبٌ في المقابر. خَرفَشة واضحة، مصحوبة بطَقْطَقة تُشبه عِظامًا تَتكَسَّر.
يقف يَتَسمَّعُ، وهو يخطو في هذه الساعة الفَجريّة.
صَفير الكروان يتدرَّج صاعِدا من مكانٍ ما. نصف قمر في السماء، ينشر نوره الشحيح، يُظهِر شوارع ضيقة، على جانبيها مدافن مُسوّرة، تحكمها بوّابات ولوحات رخام بأسماء العائلات. هنا وهناك تتوزّع مقابر واطئة، بلا شواهد أو كتابة.
يعود الصوت يتحدّد، كأنّ أحدهم يَدُوس بإصرار على ورق شجَر ناشف. يُميل رأسه قليلا، ربّما قطة أو كلب.
منذ سنوات يُداوم على التّجوُّل بجوار الأموات. يُكلِّم الأرواح العزيزة التي غادَرتْ، يستفتيهم في مشَاكله: قَلبٌ يتقلَّب في الأفكار بلا معنى أو يقين، وظيفة مُعلَّقَة في الهواء، بعَقْد يتجدّد كل سَنة، تبعًا لمِزاج مُدير ليس له عزيز. هنا، في البعد الكامل عن كل شيء، يُعطي قَلبه فُرصة صُلح مع السّكون وأثير الأرواح. يعرف ما يُقال عن "حُرمَة" المقابر في ساعات الليل، وعن حُرّاسها غير المنظورين، الواقفين بالمرصاد لمَنْ يتجرّأ على غَزو العالم المُنطوي على أسراره. يتذكّر ذلك في كل زيارة، والآن يُوقن أنّ أحدا يقف خلفه. لا يلتفت، رقبته لا تُطاوعه، يحتاج لأن يستدير بجسده كله كأنّ مفاصله تصَلَّبتْ.
مدَّ رِجلَه خُطوة، اثنتين. توقَّفَ.
إلى قدميه ينظر، إلى حيطان المقابر اللابدة في قلب الغيطان بعيدا عن البلدة، إلى فُروع الصبّار المنتشر في كل مكان، إلى أشجار الفيكس المتطاولة، إلا إلى الوراء لم ينظر. الأنفاس تقترب، ارتعدَ لخاطر أن ينهشه كلب أو ذئب، كَوَّرَ قبضتيه وفي لمحة استدارَ، رآه..
رجُل مُكوَّم جنب جِدار مقبرة، ملفوف في هيئة تُوحي بكل الاحتمالات.
ارتخت أصابعه المشدودة، ارتاحت عيناه من انفتاحهما المُرهِق. أتاه الصوت الضّعيف:
"تأخَّرتَ اليوم".
هذا الوجه غريب. لم يره من قبل.
"هل تعرفني؟"
"لم تأتِ من ثلاثة أيام، واليوم جئتَ مُتأخِّرا".
تَلَوَّت أمامه أبخِرة الحيرة.
"مَن أنتَ؟"
"تعال معي".
"انتظر، لن أتحرّك خطوة، مَن أنت؟"
"يا أخي تعال، أَلقِ السّلام على أموات المسلمين وتعال".
تحرّكَ الجسد الضئيل، ملموما في عباءة غامقة. مضى خطوات، ثم حاد إلى اليمين. مشى وتوَغَّلَ. من خلفه تتنقَّلُ رِجلان بِحَذَر. توقّفَ أمام بوابة خضراء كبيرة، مكتوب عليها بالأبيض: "مدفن عائلة السَّوالم". دفعها، علا أزيز مفاجئ تسبَّبَ في رعشة خاطفة. نادى: "يا أهل الدّار". جاء الرّدّ فوريّا: "معك أحد؟ ادخل". رجُلان يرتكنان إلى عَمود، تحتهما حصيرة بلاستيك، وفي الجوار مَنقَد مُنطفئ، وشيشة يلتف خرطومها حولها مثل ثعبان. في الجو تسرح بقايا رائحة. فَكَّر مبتسما: رائحة حشيش! دعاه الرجل أن يجلس. ألقى سلاما لائِقا: "صباح الفُل". ردَّ عليه فَم ثقيل: "صباح الرِّضا".
جلس مُقرفصا، دون أن يخلع صندله. لا يزال القمر الكليل قادرا على إظهار قميصه الأزرق المقلّم، وبنطلونه البيج. الوجوه الثلاثة غائرة منهوكة. قال أحدهم: "أي طَلَب عندنا. لا تقلق". أراحَ ظهره للوراء. نظر حوله وعرف أنه يستند على جدار مقبرة. استرجَعَ الكلمة: "طَلَب؟".. كيف لم ير هؤلاء الناس من قبل؟ فسَّرَ الأمر بأنّه لم يكن يدخل إلى الأعماق. يكتفي في جولاته بالدوران في المَمرّات القريبة من السّكة الزّراعية، المأنوسة في هذه الساعة بِكَركرة عجلات عربة كارو، لواحد أو اثنين من الفلاحين المُبكِّرين.
الرّجُل الذي أتى به تَدخَّلَ:
"الأستاذ ضيفنا، وليس له طلبات. كل فترة يأتي ليقرأ الفاتحة ويمشي. لكن صحيح، لماذا في الفجر؟ لماذا لا تأتي بعد العصر كما يفعل الجميع؟ ".
"هدوء الجو وخُلو المكان".
ضحكَ الثلاثة.
"هدوء؟ هنا أهدَأ مكان في عِز الظهر، لم يخرج مَيت واحد على حَدّ عِلمنا وتَعرَّض لأحد".
فرقعت ضحكات خَشنة من صُدور مشروخة. لم يترك لهم فرصة "قَفَشات" أخرى على شَرَف حُضوره، بادرَ بِجُرأة لم يعهدها في نفسه:
"قَعدة حَظ، أم شُغل؟".
تلاقَت سِت عُيون.
قام أحدهم وأحضر القوالح من الرُّكن، وبدأ يرصُّها في المَنْقَد. التقط زجاجة كبيرة وصبَّ منها الماء في كَنكَة سوداء. أشعلَ النار في الهَرم المرصوص، ووضع الكنكة على الحافّة.
"الشاي أولا".
هزَّ رأسه شاكرا. رنَّ تليفون أحدهم، أعادته النّغمات الحادّة إلى الزمن الحالي، ظنّ أنه انزلقَ إلى الوراء سنوات بعيدة.
على الطرف الآخر يقول المُتحدّث بصوت مسموع: "نعم، جُثّة كاملة، وتكون حديثة. لا تَنس، حديثة". أنهى الرجل المُكالمة بتطمين مُحدِّثه: "خير إن شاء الله". ساد صمت. مشى بعينيه في وجوههم. (بدأ ضباب الرؤيا ينزاح، تخرج منه رؤوس بملامح هياكل عَظميّة، على أجسادها أكفان ملفوفة. هياكل كثيرة تمشي مُصطفّة). أفاق من كابوس يقظته على يد معروقة ممدودة بكوب شاي: "خُذ يا أستاذ، لا تسرح، صباح الفُل". تناولَ الكوب، وأمام فَمه، تفاجَأ بخُرطوم الشيشة. ردَّه بِكفِّه: "لا شكرا". تدفّقت الأنفاس على إيقاع بَقلَلَة الماء. عاد للوجوه الثلاثة يتفَرَّسها. ليسوا من البلد، ومَن يدري.. الناس لم تعد تعرف بعضها، في قرية تكبُر كل يوم، وتكاد بيوتها أن تلتحم مع القُرى المجاورة. في عقله ترن كلمة "جُثّة"، آه، جُثّة حديثة يا مَن تبحث عن الهدوء والسَّكينة، في أبعد مكان عن العالم. "يا عَم لا تخَف". نزلت يد على كتفه. مرة أخرى يفيق: "خفتَ من كلمة الجُثّة. ليس شغلنا كله في الجُثث. نفعل الخير والله ساعات كثيرة. ناس من الذين تعرفهم في بلدكم، مُتعلّمون وفلاحون ومن كل المِلل، يأتون بأعمالهم وسِحرهم ليدفنوها قُدام أي تُرْبَة. نحفر ونُخرِج أشياء كثيرة: ورق فيه طلاسِم مكتوبة، خصلات شَعر معقودة، مناديل وهدوم قديمة. نفُكّها ونرشُّها بالماء والملح. في مرة أخرجنا كيس كبير فيه مَعِدة جَمَل بحالها"! (الهياكل العّظميَّة خلعتْ أكفانها. تجمّعوا في السّاحة الممتدة خلف المقابر. انقسموا إلى فريقين، وبدأوا في اللعب. الكُرة جُمجمة، جُمجمة صغيرة وسريعة بين أقدامهم. يحضنون بعضهم، ويفرحون بالأهداف المُسجّلة، يُقطّبون عِظام وجوههم في حال الخسارة). "ليكن في عِلمك يا أستاذ. لا نعمل إلا مع ناس ثِقَة. الجُثة كاملة لها سِعر، والأجزاء لها سِعر". (هَيكَل منهم جلس وحيدا على باب قَبر. أقبلوا والتفّوا حوله. لم يوافق على الرّجوع للَّعِب). علَتْ نغمات التّليفون المزعجة: "واحدة، طيب. عندنا جُثّة مدفونة المّغربيّة". (الهياكل تركت اللعب وبدأت تتشكّل في صُفوف). "تعرف يا أستاذ. في مرّة فتحنا على جُثّة، وإذا بثُعبان أسود طوله ثلاثة أمتار على الأقل. لسانه المشقوق يُطرقع الشّرَر. سددنا القبر ولم نقترب منه. عرفنا أنها امرأة كانت تعمل الأعمال ولها في مَوّال السِّحر والجِن". "ساعات نجد الجثة ناقصة ذراع أو رأس أو رِجل. عرفنا ان آخرين يشتغلون هنا بدون عِلمنا". يتمالك خواطره ويسأل: "لماذا تحكون لي أسرار شُغلكم؟ مُمكن أن أُبَلّغ الشُّرطَة مثلا!". انفجرت الضحكات أعلى وأكثر خُشونة: "الشُّرطة؟ أنت غلبان يا أستاذ. تعتقد أننا لا نعمل حسابنا؟ لو جئتَ غدا لن تجدنا هنا. لا تُتعِب نفسك. أنتَ رجل طَيّب، وفكَّرنا في احتمال أنكَ تحتاجنا في شيء.. فَكّ عَمَل أو إخراج سِحر مدفون. وعلى أي حال نحن في خِدمتك". حاول أن يتكلّم. لسانه لاصق في سقف فَمه. أغمضَ عينيه. رائحة الحشيش سرى مفعولها. أسندَ رأسه إلى الجدار. (يرى موكب الهياكل العَظميّة، في طريقها إلى أعماق الحقول الغافية. موكب منتظم، يُلازمه صوت خلخلة عِظام تُوشك على التّفكّك. نفس الصوت الذي سمعه لحظة قُدومه من ساعة تقريبا).
النّهار شقشقَ. نور أزرق يَنسَلُّ كاشفا. عيناه مغلقتان على لسعات حارقة. دماغه ينبض، تحت أُذنيه ضربات مُوجِعة. هؤلاء البشر في ألسنتهم تُروس جهنميّة لا تتوقف عن طحن الكلام. ليس مُجبَرا على البقاء، والاستماع إلى هذه الأشياء التي لم يتخيل أن يُقابلها خارج دائرة الحكايات. يُحس برجليه مُسمَّرتين في الأرض. يواصلون صَبّ الفحيح على مسامعه: "في مرة أخرى أخرجنا جُثّة سَيِّدة. كانت يدها فيها خاتم ذهب. سحبناه من إصبعها، وبعناه وأخرجنا ثَمنه لله". (مسيرة الهياكل مستمرّة، وتبدو بلا نهاية). يرفع رأسه بمجهود يفوق رفع صخرة. يسألهم عن قصة الخاتم. قالوا إن الموضوع من سنتين أو ثلاثة، تحوَّلت دقّات قلبه إلى مطارق من حديد، انقلبتْ عيناه نحو السماء، خُرطوم الشيشة ثعبان كبير يتلوَّى حول رقبته، "بِعنا جُثة السيِّدة بعشرين ألف جنيه". فارتْ مَعدته، سمعها تتقلقل وتزغُر، مالَ على جنب، وأخرجَ ما في بطنه. اخترق أذنه صوت ثقيل: "أنتَ خفيف يا أستاذ. اجمَد يا رجُل". رأى وجوههم تستطيل وتتدلى منها ألسنة حمراء، كُلّ شيء يتلاشى خلف غيمة كبرى، غَثَيان يُوشك أن يهبط به إلى سابع أرض، شفتاه تَقذفان الرَّذاذ مع الكلمات المُتكسِّرة: "الأب هو مَن صَمَّم على تلبيسها الخاتم بعد تغسيلها، رأى بناتها تَتَقاتلنَ عليه، حَلفَ بالله أن يذهب معها، دَخلتْ قَبرها بالخاتم، بعد ساعة شَدَّتها الكلاب، أبي صَمَّمَ على تَلبيسها الخاتم، شَدَّتْها الكِلاب هي والخاتم".
****
حسام المقدم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى