علي رياض - سيرة ناقصة أو مشوهة

(1)
ماذا يعرف الإنسان عن سيرته سوى الألم؟
عبر ضوء ساطع تتأرجح الخيوط، معلقة بمرآة السائق الغافل، الظهيرة تفرش جلبابها على الطريق، وقطرة العرق تقطع أياما على وجهي وتمضي بعيدا.. كان البستان قفرا من سواي، على غصني الفتي نمت براعم خضراء، وكانت جذوري تأكل في قسوة الأرض نفسها، لقد مضى زمن طويل على براعمي خضراء.
بجانب أبي؛ أنا الصورة الوسيمة من علته. وفي الغد القريب أراني؛ صورة من وجه أمي العجوز، متى بدأت ذراعها اليمنى بالتصدع، ونمت على سطح عظام ساقيها ثآليل الألم؟
يرى دوريان كراي في الحلم لوحته، تزين وجهها من خطاياه أمام مرآته الفضية، يراها يافعة مجددا ولا يصحو من النوم.

(2)
ماذا يعرف الإنسان عن سيرته سوى الألم؟
الأفق يعتم، غير بقعة حمراء كانفجار جامد في أوله، يصبغ بالدم أطراف الخيوط ويرمى الظلال على ما تبقى، سيجارة تحيي الشتاء في آخر أيار، كان التلفاز صغيرا، ووطأة الحلم على الرأس خفيفة، يخرج أبو الطيب من التلفاز ويدخل رأسي..
- المسدسات والبنادق..
- يا بني دع العروض، وتذكر: أنت الغريب كصالح في ثمود.
مذاك والورقة البيضاء تأخذني، بعيدا، كلما سقطت عيناي على الإنسان.
لا بستان بعد ذلك، فالكلمة أخت الكلم، وكلاهما ينزف ما يشاء على ما يشاء.

(3)
ماذا يعرف الإنسان عن سيرته سوى الألم؟
ينعطف السائق مخلّفا مخازن الذرة وراءه، الشارع خالٍ تماما من سيارات أخرى، والطريق طويلة كأن الجسر آخره في أول العالم الآخر.. تراقص الحمى يدي، على دفتر الرياضيات، تدون الكابوس تلو الآخر، قرب أستاذ سلام شبح يمحو ما يكتب على اللوح من أرقام، وبجانبي متنمر انتظره يسرق قلمي من يدي ولا يفعل.
يقول الطبيب صارح فتاتك التي تحب.. وعند الجسر كانت أسماؤهن تقفز في رأسي كقتلى الحرب أو شموع سنيني المطفأة.

(4)
ماذا يعرف الإنسان عن سيرته سوى الألم؟
في البيت أرى أصابع العازف تطلق نوتات جايكوفسكي عبر سماعه، تعرقت يداه، ويداي على لوحة المفاتيح تعرقتا أيضا، يهدأ البيانو بينما يُسحب القوس ببطء جارح على أوتار الكمان..
السعادات القديمة تؤلم حين تتأرجح في الرأس، كما الضوء ملكوت العين، الألم ملكوت الذكرى. أفكر في البندول في كل عودة ماذا يرى، يكرر اللحظة ولا يتعلم أن مكان الوقوف في الذهاب لا بالعودة..
في الأمس قال الصوفي للعارف: مفتاح القصيدة سيرة الشاعر، واليوم أبحث في كل الثنايا عن سيرة سوى الألم دون جدوى.. ثمة دمعة في مكان ما، وشهقة حتى اللحظة عصية على الكتابة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى