رندة عوض - على بعد ثلاث جثث فتاةٌ شقراء

ظلام دامس ومكان ضيق، رطوبته خانقة. أصوات بالكاد تسمع، وزغاريد تشق عنان الفضاء. إحداهن تقول: "زغردي يا أم ياسين للعريس".
ما هذا التخريف، ما الذي عجل بعرسي؟! من المفترض أنه الشهر القادم، أعانك الله يا والدي على هذه التكاليف المفاجئة. لن أشغل بالي بالأمور المادية... يدٌ صغيرة تدغدغ قلبي، واضح من نعومتها أنها يدٌ خطيبتي ياسمين، اهدئي قليلاً أيتها العروس، لا تستطيعين الصبر يا حلوتي شهراً آخر، وأنا مثلك غير قادر على الصبر.

صمت واجم وفراغ ونحيب وزغاريد ورصاص. من هذا المجنون الذي يطلق النار؟ والله عيب! انتابتني نشوة ممزوجة بشعور نادر، وبلحظة عشق وسمو تتخلل روحي وبنسيم بارد يثلج نار قلبي.
صه، عاد البكاء مختلطاً بكلمات أمي "الله يرحمك يا شهيد".

أفهم من ذلك أنني العريس والشهيد معاً، حظي وأعرفه. وهل لي أن أعترض على موتي؟ أحاول النهوض، جسدي أثقل من أن يستجيب، والمكان أضيق من أن أسند يديَّ عليه. إذا كان هذا مكاني الأبدي، فمن أنتِ لتدفني معي؟
"أنا حبة قمح منحتني الحياة، ومنحتك الخلود وفاءً لتضحيتك".
"عن أي تضحية تتحدثين؟".
"ألا تذكرني؟!".
*********

كل ما أذكره سحب رمادية ورائحة بارود احتلت رئتيَّ، وطابور بشري تحوّل لأشلاء عند المخبز. سرت بين القتلى وتعثرت بيد مقطوعة تحمل رغيف خبز مغموس بالدم، اتجهت خلف حائط الفرن لإسعاف الجرحى. على بعد ثلاث جثث، فتاة شقراء تلفظ أنفاسها، تدعوني أن أعيد لها يدها المقطوعة، التي تحمل ربطة خبز وبعض القمح. لم تكن تقوى على الحراك، جثوت بجانبها أبكي جمالها. بللتها دموعي فإذ بحبة قمح يشتد عودها، فتغدو كطفل يتشبث بالحياة معانقاً أمه.
"دموعك أحيتني، دعني أعانقك وأشكر صنيعك".
"أيتها المجنونة ماذا تفعلين؟!"
"لا أحد هنا سوانا"
تناثرت الجثث ممسكة بأرغفة الخبز فبدت كلوحة شعارها "أخر رمق لسد الحياة".

*********

اعتاد الناس الجمهرة عند طاقة الفرن لشراء الخبز. واعتاد الرغيف أن يجمع شملنا، نتبادله بشغف وحذر كتبادل الهدايا بين حبيبين وكشغف تجار الحرب لتبادل السلاح. في تلك الحارة الصغيرة كان "عبودي الحلبي" يحضر سندويشة الشطة، وسامي الحوراني سندويشة الزعتر، وأنا عروسة السكر... نعم عروسة السكر، التي ذكرها نزار قباني بقوله:
" أيا أمي أنا الولد الذي أبحر ولا زالت بخاطره تعيش عروسة السكر".
لم أحدثك عن نساء الحي اللاتي يعشقن الرغيف كعشقهن للحياة، يحملن ربطات الخبز الساخنة كما يحملن أطفالهن، وكلما صادفن طفلاً أعطينه نصف رغيف. تقاسمنا الخبز وكإخوة رضعنا الرغيف نفسه. وهذا ما ذكّرني بقول أرينا لزوجها في قصة الآباء والبنون "الابن كسرة مقطوعة من رغيف".

جلت بنظري وأنا أتمتم تلك الأشلاء المتناثرة كسرٌ مقطوعة من رغيف واحد. ضربت مخيلتي التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة أصواتنا ونحن صغار نجلس على الأرض حلقة دائرية، عبودي ينقر رؤوسنا بكوفية بيده وهو يردد "طاق طاق طاقية، فلسطين عربية ..."، أكملت النشيد بدل عبودي كمن يستلم راية بلاده كي تبقى شامخة "سورية عربية.... بدي رفيق". رفاق الرغيف أين أنتم؟

أصابتني نوبة ضحك على طريقة شر البلية... كيف تشابهت الأرغفة لتصبح بنكهة الدم ومذاق الموت؟ يا لسخرية الموقف. ضحكت الجثث بشكل هستيري، ثم عادت لسباتها. مؤكد أننا أنهينا تصوير مشهد مصاصي الدماء ببراعة هوليوودية لا مثيل لها، غير أن الموتى استمروا برقادهم.
*********

أذكر أننا قطعنا مسافات وأراض كي نجد تراباً يصلح للزرع، إلا أن الحرب أحرقت الأخضر واليابس، حتى نحن لم نسلم تحولنا لبذور بشرية جافة لا تصلح للزرع.
شقت حبة القمح طريقها من عتمة القبر إلى النور، منحها ياسين تربته فمنحته الخلود بقصة ستتداولها أجيال الحصاد القادم.

(كاتبة فلسطينية)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى