هدى بوحمام - مع دقّة الثلاثين

لا أعرف ما الذي يميّز عمر الثلاثين، ولكنّ الكثير منّا ينتظره ويترقّب الوصول إليه. ربّما ينتظر أن يأتي بتغيير ما، بصحوة منيرة بعد سُبات مظلم، أو نضج مفاجئ بعد حالة طيش مديدة أو رحمة منقذة بعد قنوط قاتل أو تحرّر من سجن فكرة بليدة أو محيط تعيس.

عندما يجلس الواحد منّا لمراجعة حصيلة الثلاثين عاما من العيش فوق هذه الأرض، منذ نعومة الأظافر إلى شراستها، تغمره زوبعة خاصة به وحده من المشاعر التي تتشابك فيما بينها. يصبح الأمر فوق الطاقة الاستيعابية للعقل وللروح. يتذكر كيف تغيّر عبر السنين، يسترجع موجات الطلوع والنزول ويقف عند الأحداث التي كانت لها البصمة الأقوى في تكوّن شخصيته وتميّزها. ويتساءل كيف مرّت هذه الأحداث وكيف خرج منها سالما (إلى حدّ ما)، ويتساءل كيف استمر في الطريق دون انحراف، أو يتعجب كيف استقام وعاد إلى الرشد بعد الخضوع للانحراف.

كلّنا نتذكر الأحداث التي ربّت في داخلنا الشجاعة وحسّ التحدّي والمواقف التي صقلت في أنفسنا الصبر والرضا، والمواقف التي أذاقتنا مرارة الخيبة وكشفت لنا وجود الشرّ والغدر. وكذلك التجارب التي أضافت اللين في قلوبنا وعلّمتنا الرحمة والحِلم والتسامح. إنّ أيام العمر كريمة جدا ومعطاءة، فكل يوم يمرّ علينا يضيف لنا عبرة تتغيّر بها نظرتنا للحياة إلى الأبد. والحياة طبعا هي الرفيق الأوفى في كل مراحل نضوج تركيبتنا النفسية والشاهد الأول على تحوّلها من هشّة وساذجة إلى صلبة وحذرة وأشياء أخرى بعدد المواجهات ونوعيتها.

ولكنّني لا أتقبّل وضع عمر الثلاثين كحد فاصل لنقلة نوعية أو تحول جذري. أعتقد أنّنا نعطي الأرقام أكثر من حجمها، فليس هُناك سنّ معين ينتشل أحدًا من حياة إلى أخرى. ليست هناك قاعدة تقول إنّ نقطة التغيير ستحدث في سنّ الثلاثين بالضبط. ربّما لا ينضج الابن الطائش، ربّما لا تتزوج الأخت الكُبرى، ربّما لا تُنجب الكنّة الأولى، ربّما لا يتخرّج الطالب من كُليته وربّما لا يحصل الشاب الطموح على وظيفة أحلامه في هذا السنّ الذي كلّفناه أكثر من طاقته. ربّما لا يحدث أي تغيير عظيم في هذه الفترة العُمرية، على عكس ما يروج وعلى عكس ما نتوقع. إنّها تستوقفنا فقط من باب العرف والعادات التي تُقيّدنا دون أي موجب شرعي والتي تقتل اختلافنا عن بعضنا البعض. اعتدنا على استيقافه للناس وجعله محطّة فاصلة لحدوث أمر عظيم.

إن الموضوع يشبه خزعبلة قطار الحياة، الذي له في ذهن الناس محطات معينة بمواقيت محددة، إن لم تلتزم بها يفوتك هذا القطار وتنتهي الحياة. لا أفهم هذا الضيق الذي يعيش فيه الناس بينما نملك رحابة الزمان والمكان لنستثمر وننتج كيفما شئنا ومتى ما شئنا. إنّنا نتضرر بشدّة من هذا التفكير المحدود ونتدمر تدريجيا دون أن نشعر. لا أحد يستطيع أن يلبس حذاء الآخر ويمشي به كيلومترا لأنّ الاختلاف يُميزنا مهما حاولنا عكس ذلك.

لا أرفض تشبيه الحياة بالقطار لأنّ التشبيه منطقي، ولكنّي أرفض بشدة إلزام الركّاب بمحطات معينة ومواقيت مُحدّدة لا تتناسب مع توقيت الجميع وكأنّنا كلّنا نتخذ نفس الوجهة، لسنا قطيعا من الغنم. بل أنصح أي راكب غير مرتاح أن ينزل فورا من هذا القطار الافتراضي وأن يمشي براحة نحو وجهته.

يجب أن نسعى وراء الراحة وأن نعزز الأمان والسكينة في دواخلنا قدر المُستطاع لأن هذا العالم يهُزنا بما فيه الكفاية؛ تُزعزعنا الظروف وتُرعبنا الأحداث وتُتعبنا الآفات بما يكفي. لسنا في حاجة إلى المزيد من الضغط والتوتر، لا نحتاج ضغط عدد السنين ولا ضيق مقصورات القطار. لم تعد لدينا القدرة على التعامل مع عقم التفكير واستبداد العقول وإحباطها، نحن أُناس مُتعبون نبحث عن ظلّ شجرة رحيمة ونسيم من السلام، لا نرغب في التسابق ولم تعد تُغرينا لافتة الوصول، نريد فقط عيش رحلة الحياة كيفما كُتبت لنا بمؤهلاتنا وقدراتنا، لم نعد نقوى على المقارنات والمواجهات الحادة. نريد فقط أن نفرح بأنفسنا بطريقتنا، نريد الهدوء والهُدنة مع كل شيء، نريد استغلال طاقتنا فيما ينفع وتوظيف تركيزنا فيما يدفع إلى غد أفضل لنا ولمن حولنا.

أينما كنت في مسيرتك العُمرية، أتمنى أن تمشي في اتجاه يأخذك إلى السلام؛ سلام مع ذاتك ومع العالم المحيط، سلام مع الماضي والحاضر والمستقبل. أتمنى أن تكون مُمتلئا روحيا، وأن يغمرك الكثير من الايمان والتسليم لصاحب الشأن. آمل أن تكون في طريقك إلى التوازن في كل شيء، آمل أن تجد هدفك في هذه الحياة وأن تسعد به وتستشعر نوره في طريق اخترت السير فيها مع من تُحب بعيدا عن زحمة القطار.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى