د. أحمد الحطاب - شبكات التواصل الاجتماعية: هل هي نِعمة أم نِقمة؟

ما يمكن قولُه وبدون تردُّد هو أن هذه الشبكات سيف ذو حدين. إذا استفدتَ من الحد الأول، فاحدر الحد الآخر، الذي قد تكون عواقب استعماله كارثية أو مُميتة.

فعلاً، لا أحد يُنكِر الفوائدَ الهائلة التي يجنيها القارئ والباحِثُ والدارِسُ والراغِبُ في التَّسلية وفي إغناءِ رصيدِه المعرفي والمُثقَّفُ والفنانُ وغيرُهم من المُستفيدين من ما تنشُرُه شبكاتُ التَّواصل الاجتماعي من معلومات عامة ومتخصِّصة ومن أخبارٍ وصورٍ وفيديوهات. لكن، لا أحدَ يُنكِرُ كذلك أن هذه الشبكات هي، في نفس الوقت، مصدرٌ للمصائب والانحرافات بشتَّى أشكالِها وتداعياتِها. مصائبٌ لها انعكاسات اجتماعية وأخلاقية تضربُ عرضَ الحائط كلَّ القيم الإنسانية.

وانطلاقا من هذه التوضيحات، يمكنني أن أُصنِّفَ مستعملي شبكات التواصل الاجتماعية إلى فئتين. فئةٌ واعيةٌ وخلوقة ومتعطشة للتثقيف من خلال نقاش مسؤول ومحفوف باللياقة والاحترام المتبادل سعياً إلى إغناء هذا النقاش وجعله مصدراً إضافيا للتفكير والتنوير. بل إن هذه الفئة تُدرك ما معنى التعايش والتساكن عن قرب أو عن بعد.

فئة ثانية، قد تكون طاغية من حيث العدد، لا تعرف للِّياقة والاحترام المتبادل سبيلاً. بل إن أفرادَ هذه الفئة ينصِّبون أنفسَهم في خانة أسياد العارفين وهم بالكاد يتقنون الكتابةَ والقراءة. هذا النوع من مستعملي شبكات التواصل الاجتماعية، يظنون، وبإلحاح و بغرابة، أنهم مثقفون بينما هم بالكاد أنصاف وأرباع المثقفين بدليل أن ما ينشرونه أو يناقشونه يصب، بامتياز، في قمة التفاهة، وأحيانا، في عالم الميوعة والحَطِّ من القيم الأخلاقية. بل يُحِسُّ القارئ أن لهم آذانا منفصلة عن الدماغ والمربوطة مباشرةً باليد. حينها، يُصبح تصرُّفُهم وسلوكُهم خاضعين لأهوائهم إن لم نقل إلى غريزتهم. وحينما يناقشون إحدى المنشورات، تغلب عليهم هذه الأهواء والغريزة بعيدا كل البعد عن العقل والتعقل والفكر البناء.

فلا جذوى أن تُفتحَ معهم النقاشات لنتبادلَ الأفكارَ والآراء. هاجسهُم الوحيد هو تغليبُ جهلهم وفرضه على الآخرين، في غالب الأحيان، بأسلوب غير لائق وبعجرفة. وذلك لسبب بسيط هو أنه ينطبق عليهم قولُ : "جعبتهم خاوية الوفاض" وليس لهم أدنى رصيد من المعرفة إلا القيل والقال والأفكار الجاهزة المنمَّطة المتداولة. ولو حاولتَ أن تردَّهم إلى الصّواب، يواجهونَك ليس بالفكر ولكن بثقافة "طارتْ معزة".

أفراد هذا النوع من مستعملي شبكات التواصل الاجتماعية يُسممِّون الأجواء عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ، ويريدون دائما أن يغيِّروا مسار النقاش إلى ما يُناسب أهواءَهم.

وما يُستغربُ له، هو أن غالبيةً عظمى من أفراد الفئة الثانية من مستعملي شبكات التواصل الاجتماعية ينشرون من أجل النشر دون أن يقولوا للقارئ، على الأقل، لماذا ينشرون وما هي الفكرة التي يريدون تبليغَها للآخرين حتى تكون الاستفادة عامةً. لا شيءَ من هذا يحدثُ. إن هذه الطريقة في النشر تفرض نفسَها على القارئ ولا تترك مجالاً للتبصُّر والعقل.

وما يزيد في الطين بلَّةً هو أن شبكات التواصل الاجتماعية تعُجُّ بالصور والفيديوهات وخصوصا تلك التي تُنشرُ على منصَّة tik tok والتي غالبا ما تكون خادشةً للحياء ومُخِلةً بالأخلاق.

ثم لماذا هذا الزخم من الصور والفيديوهات التي، جلُّها، ليستْ من إنتاج من ينشرها؟ ما الفائدة من النشر إذا لم ينطلق من هدف معين، من نظرة حول موضوع ما، من قضية تستحق النقاش؟ من... يجب أن لا نكونَ عبيدا لما ينشره الآخرون بدون تدبر وتبصر. حينها، نكون قد فقدنا حرية تفكيرنا وأصبحنا مُسَيْطَراً علينا من طرف الغير الذي لا نعرف عنه شيئا ما عدا أنه هو يريد أن يسيطر على فكرنا. وقد ينجح فعلا في ذلك إذ أن فئةً عريضة من الناس أصبحوا يتنافسون في نشر الصور والفيديوهات التي نشرها وينشرها هذا الغير الذي لا نعرف ما هي نواياه. مع العلم أنه كان من الأجدى أن تُستعملَ هذه الشبكات لأشياء مفيدة جدا ومن صُنع وإنتاج مَن ينشر!

وما يجب التنبيهُ إليه هو أن القارئَ العاقلَ والرَّصينَ يجب أن لا يُصدِّقَ كل ما يُنشر على شبكات التواصل الاجتماعي التي لا رقيبَ عليها وهي مفتوحة لمَن هب ودب. فهناك مَن يلجأ إليها للتضليل والتحريف والنَّصب والسرقة المؤدبة والاحتيال… وهناك مَن يستعملها لاستبلاد واستحمار الناس وإفراغ عقولهم من كل تفكير. وهناك مَن يستعملها للكسب غير المشروع. وهناك مَن يستعملها لضربِ في الصميم الأخلاق والقيم الآنسانية والاجتماعية. وهناك مَن يستعملها لأغراض سياسوية وانتهازية. وهناك مَن يستعملها للمتاجرة بالدين وبمآسي الناس… واللائحة طويلة.

وفضلا عن كل هذه الأشياء، إن الغالبية العظمى من الناشرين على شبكات التواصل الاجتماعية لهم، كما يُقال بالدارجة "صنطيحة عريضة" تجعلهم يتطاولون على ما ليس لهم به علمٌ. وإن حاولتَ أن تُناقشَهم حول ما ينشرون، فإنك تجد نفسَك أمام منهجيتي "تخراج العينين" و "طارت معزة" علما أنه من السهل جدا أن تُقنِع عاقلا متفقِّها ومن الصعب جدا أن تُقنِعَ جاهلا. يقول المثل المغربي : "الزين يحشم على زينو والخايب غير الا هداه الله". وإذا أردنا أن نُقَلِّدَ هذا المثل، سنقول : "مَن له أخلاق عالية ويحترمُ نفسَه ويحترمونَه النّاس ويحترمهم، سيتصرَّف برزانةٍ وتبصُّرٍ، ومَن لا أخلاق له، فسوء أخلاقه هي الخيط الناظم في سلوكه بل في حياته".

انطلاقا من الاعتبارات السابقة وجوابا على عنوان هذه المقالة، شبكات التواصل الاجتماعية سيف ذو حدين، أي أنها نِعمةٌ عندما يُحسن استعمالُها ونِقمةٌ عندما يُساء استعمالُها. غير أنه، في أيامنا هذه، أصبحت النِّقمةُ تطغى على النِّعمة إذ أن هذه الشبكات تحوَّلت إلى مصادر للرعونة وسوء الأخلاق والميوعة والكذب والنفاق والتضليل والاسترزاق غير المشروع والتفاهة والمتاجرة بالدين… وباختصار، إنها آفةٌ اجتماعيةٌ مثلها مثل الأمية والجهل. بل عاملٌ من عوامل تفاقم هذه الأمية وهذا الجهل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى