مزمل الباقر - بحر الحاصل

مثل إلتقاء النيلين في المقرن إلتقينا، كنت كالنيل الأزرق منفعل ومزعج، كنت كالنيل الأبيض وقورة وهادئة. بوجه (بوكيموني) صغير، له لون النسكافيه، حاجباه الأزجان يلتقيان خلسة عند مفترق طرق نحو أنف صغير، تنتبه لجماله من الوهلة الأولى. تشير أرنبته إلى فم صغير تتوارى بعض من شفته العليا أوقات الخجل والضيق. نمش يقبل عظمة الوجنة اليمنى تارة على اليمين وأخرى جهة اليسار وثالثة مفقود!. أقسم إنها المرة الأولى التي أرى فيها نمشاً يمنح الوجه بعداً جمالياَ كما يفعل خالك الذي يتوسد عظمة ترقوتك اليسرى.

كانت فكرة الذهاب إلى عمارة أبو العلا الجديدة – حيث مكاتب صحيفة الأيام – في ذلك النهار الساخن فكرة مجنونة، ولتنفيذها احتاج الأمر إلى رجل مجنون مثلي، وشيئاً من التوسل لإمرأة تسكنها الطيبة مثلك.

ترجلنا عن الحافلة عند مدخل (مركز الثقافة الإنجيلي)، وكان شارع القصر مطيتنا لمكاتب الصحيفة. أمسكت بيدي طفلة صغيرة تسألني مالاً، قلت لها: ((صاحبتي دي عندها قروش كتيييييرة خلاص)). فأمسكت بطرف ( بلوزة ) صاحبتي، وتركتني غير آسفة. لو كنت مكان سيزيف وحملت تلك الصخرة اللعينة على كتفي، لبدأ الأمر أكثر سهولة من إنتزاع يد الصبية المتشبتثة ببلوزتك. ليس لقوة أنامل الصبية ولكن استيائك من مزحتي تلك، عزز حزني القديم وعجزت عن إنتزاع أنامل الصبية من الوهلة الأولى. ولم يفارق صاحبتي إستيائها رغم بوحي لها بحبي ونحن نستقل الحافلة في طريق العودة.

عصر ذلك اليوم وددت لو وقفت بميدان سان جيمس، في منتصف الميدان تماماً، وصحت ملء جنجرتي:

أنا بدونك لن أكون سوى
غريق
يزداد غرقاً كلما زج
الرمال
يزداد ... ضيق
أنا بدونك لكن أكون
سوى
حجراً قميئاً ,, ملقاً
بقارعة .. الطريق

غير أني تريثت لبعض الوقت، أرقب مغفرتك في صباح الغد مستجدياً. وماغفرت لي البتة. شيئاً فشيئاً ملأت (الدبرسة).. الفراغ الذي نجم عن عدم إكتراثك بي. وأمطر القنوط. ففشلت في أن أعيد علاقتي بك لسابق عهدها، رافضاً فكرة الصداقة التي إقترحتيها ذات نهار يائس. وفشلت في اللحاق بمعسكر الخدمة الوطنية، ومن ثم الحصول على عملٍ يجعلني جديراً بك. كما فشلت في إرتياد المحافل الثقافية ومتابعة فعالياتها فالتفكير في مصيري بدونك اقعدني. ولازمني الفشل كظلي تماماً حينما أردت ممارسة هواية التسكع في أزقة المدن الثلاث. وقد شلني حزني على فقد حب إمرأة تسكن بحري.

وتباغتني حلول ذكرى ميلادك في الغد، وما أعددت لها عدتي ولا هداياي، مما زاد بؤسي وضاعف من أحزاني وحسرتي. أحزاني أحزان العطبراويين على مدينتهم كانت .. ثم .. صارت. وكنت .. ثم .. صرت .. وحسرتي عليك حسرة أهل كوستي وأعشاب النيل تتبعهم أينما ثقفوا.

أمدرمان أراها فاتنة في الصباح الباكر، والخرطوم تبدو عند المساء فاتنة. أما الخرطوم بحري فتكون أكثر فتنة ساعة الأصيل.. وأنت – دائماً – تدهش فتنتك ساعات يومي.
( إيه القيافة دي! الليلة انت ماشة علي وين؟)
تجيبيني بسرعةٍ وكأني بك قد توقعت هذا السؤال، فأعددت إجابتك مسبقاً: ( أنا دايماً قيافة؟)
إستدرك كما المعتذر: ( أنا عارف! ما الكلام علي الشماعة. بس جد الليلة انت قيافة!).

فتبسمين في إمتعاضٍ كإبتسامة زينب، وتردين علي بضحكٍ ساخرٍ كضحك زينب، فيصير الزمان زينب ويصير المكان زينب . والدنيا كلها أسمعها تنادي: زينب زينب زينب زينب ززززز....

وذكراك – ياويحي – أذرع أخطبوط تمسك بخناق أيامي شيئاً شيئاً، فأموت خنقاً وحنقاً أو أكاد. وممارستي للشهيق والزفير أضحت بقدرة قادر تندرج تحت بند الأماني. كل شيء يذكرني بك، الشبابيك القديمة لبيتي تواطأت معك أخشابها واتفقت على تشكيل الحرف الأول من إسمك بالإنجليزية. أريد أن أطالع بريدي الإلكتروني فأجدني مرغماً على كتابة تاريخ ميلادك حتى أنفذ إليه. أتحاشى أحياناً قراءة رسائل الأصدقاء فبعضهم يسألونني عنك وآخرون وهم الغالبية تذكرني خطاباتهم بك، رغم أن فيهم من لا يعرفونك ولا تعرفينهم. ويطاردني عطر شعرك الجميل في الطرقات، ويزاحمني في غرف البيت، ويتوسد وسادتي التي تشتهيك مثلي. أغمض عيناي فتصر عيناك أن تبقيهما مفتوحتين بالكامل، وعلى نقطة كثب عيني لا أجدك. فأنا هنا من دونك ولست هناك معك.

أقلب قصاصات كتاباتي ضجراً، لقد صارت مملة مثل أفكاري، مبتورة أبداً، هائمة على وجهها دون هدف. وتطل مسودة مقالتك برأسها من بين أوراقي متحدية.ا فكيف – بربك – الهروب من ذكرياتك؟ وأنى لي أن أخلفها ورائي وأذهب – هكذا – وقد تقمصتني كما الروح تماماً.

أردت أن اتحدى عقلك بقلبي، وذاكرتك المثقوبة بعطر ذكرياتنا الفواحة كيما أملأ ثقوبها. أردت أن أتحدى بحبك فتاة الأحلام التي رسمتها مخيلتي – منذ أيام المراهقة – قبل أن تراك. لقد تمنتك فتاة أمدرمانية ولم تكوني كذلك، أرادتك فارعة القوام ولست كذلك. كانت تريدك محترفة للسياسة، ومارستها من منازلهم!. رغبتك ناشرةً للشعر والقصة، وإكتفيت بكتابة المقال الصحفي. ورسمتك مخيلتي إمرأةً هادرة كالسيل، فباغتها برقة النسيم. وليت الرضا أصابك آخر الأمر. لكنك سخرت من فتاة أحلامي تلك، قبل أن تلقيها للنيل جاعلة منها طعاماً لتماسيحه.

تحديت بحبك فارق العمر بيننا، الذي أزعجك كثيراً ولم أحفل به، وإن ألقى بظلال الخوف القاتمة اللون، على رمل قلبي ناصع البياض. خفت أن يغلب إزعاجك حبي لك، فأجدني مجدداً في الشارع العام، أحتسي القهوة وأدخن التبغ على طاولات مقاهي المدن الغريبة، بعد أن سكنت حجرات قلبك في غفلة من ترصد الزمن.

• ( عليك الله ما تزعل مني!!)
• ( أنا ما زعلان منك. أنا زعلان من روحي، عشان حاسي إنها بتتعابط فيك! حاسي إني زي.. ضيف ثقيل الظل!!)
• ( دا شنو الكلام البايخ البتقول فيهو دا؟!)
• ( ما دي الحقيقة!)
• ( لا حقيقة .. ولا حاجة!)
• ( طيب .. شنو؟؟)

تزمين شفتيك الصغيرتين قبل أن تردين في ضيق مكتوم: ( ما عارفة!!) وتمسحين شارع محمد نجيب عبر نافذة الحافلة بنظراتٍ حزينةٍ. أردتك حرزاً من غائلة الدنيا، فإستعديت أركانها الخمس علي مجدداً، ووقفت غير بعيد تنظرين باسمةً. لا أدري عن فرح شامت أم عن مجاملة ساذجةٍ. فيغريني سلك الكهرباء الذي تجرد عن ثيابه على حائط حجرتي وتعرى أمام عيني دون خجلٍ، أن اتحد معه حتى الموت. غير أنني أتراجع قبل كل محاولة ممسكاً بتلابيب حبك، لقد كنا نتقاسم كوب الشاي الأحمر وساندوتش الطعمية بالجبن، لا عن فقر ولكن عن حب. وتحاصرني ذكرياتك فاستعصم، ثم أرضخ مستسلماً بعد أن دكت سحنتي وإحتلت مسامي وأرخت سدولها على شبابيك عيون الشقية.

كنت تجلسين – ذلك المساء – خلفي، بين النافذة وصديقنا، همست باسمك وسألتك إن كنت مصغية
• ( أآي !! )
• ( إنتي اروع زولة في العالم!!!)
• ( دي منو دي؟!)
• ( إنتي ! )

أجبتك بيأس متحسر، فعقبتي بطول صمتٍ، ثم صمت كل ركاب الحافلة، حتى أدركنا المحطة. وصمت الليل من حولنا، حتى خلته قد نام خارج ردهات المدينة، أو على كتفك. لكن الليل كان يصغي لذاكرتي, وعلى ضوء مصابيح الحافلة، قرأت ما كتب على مؤخرة حافلة أخرى، كانت تسير أمامنا في شارع الحرية. فكدت أقسم أن عبارة: ( أنزف يا جرح مادام علاجك مافي ) المكتوبة في مؤخرة تلك الحافلة، إنما خطها ( ود حلال ) تعزية لي.

ترتفع ( دميرة ) حبك في ساعات مدك، فأراك أبدع ما صنع الله، وأتوجك سيدة نساء الدنيا. ويهبط ( محل ) تهاونك في حبي أيام جذرك، فأكتشف ذلك الفراغ الذي يملأ تلافيف دماغك. وأجدك تعيشين في أواخر قرون الدنيا، بعقلية أهل أول الزمان، أيام العصر الطباشيري. فأعجب لإمرأة مخضرمةٍ قدميها تلامس ثمالة القرن الحادي والعشرين، ورأسها يغيب في سلاف عصر إنساني سحيق. تتحدثين وسط رهط الأصدقاء والصديقات، فترقص أذناي طرباً، وتزداد روعتك كثيراً في بؤبؤ عيني، وأنت في حديث العالم ببواطن الأمور. وتارة أخرى تجر ذيول الخيبة أذناي، وتبهت روعتك كثيراً في إنسان عيني، وأنت في ثوب الجاهل لا ترين سوى رأس جبل جليد الأمر، غير آبه بحيثياته الغارقة في أعماق الحدث. وتعجزين فكري وأنت في دين العظام أحياناً، وبسلوك أطفال يسيل لعابهم بلاهة تارة أحياناً أخر.

أتذكرين ذلك الخميس الذي دعاني فيه صديقنا المشترك، لمشاطرته طعام الإفطار، وكنت حينها تجالسينه محتسية الشاي. كان صدري ساعتئذ يغلي على مرجل. فربت على كتفه قائلاً: ( يا محمد أنا بآكل مع الصحبان بس!!). ومضيت عنه محلفاً العبرة وقد (توهطت) حلقه، وإندهاشك الذي أفضى بك إلى تفسير الحادثة على محمل الدعابة ليس إلا. وعندما وجدتِ الأمر على غير ما رغبتِ، أعدت لي – في صباح السبت التالي – كتبي والهدايا، فعجبت لإمرأة تقامر بحبيبها في روليت صديقها، والخسارة مكتوبة على نردها.

أدركت ذلك اليوم أنك مفارقتي لا محالة، وقوافلك قد أزمعت الرحيل دون أوبه. لكنك ما علمت وأنت مفارقتي أنك ستخلفينني جثة بلا روح، لأنك كنت تلك الروح التي تسكنني. وبرحيلك عني ستغادرني كل نساء الأرض

( فاضلة ثواني.. وين تلقاهو .. تاني!!)

صدمتني كثيراً تلك الجملة التي كان ينادي بها – في آخر الليل – ذلك البائع الهرم على بضاعته الكاسدة امام إحدى الحوانيت المغلقة بـبرندات السوق العربي. ظننته يجاهرني بحقيقة ما إنتهت إليه حكايتي معك. وكنت قد فارقتك لأبد الآبدين .. قبل دقيقتين فقط بمحطة المواصلات التي تتراص الحافلات فيها غير بعيد من ضريح الشيخ أبو جنزير.

إحتجت فور سماعي لتلك العبارة أن اضع منديلاً على عيني، بين اللحظة والأخرى علني أخفي بصمات حزني قبل أن تبدو واضحة للسابلة. وما أن اتخذت حيزاً لجسدي المكدود في آخر مقاعد البص الفارغ الذي يعود في أبويته الآخيرة لميدان البوستة بأمدرمان حتى أفردت المنديل بطول وجهي، وأطلقت لحزني العنان.

مزمل الباقر
أمدرمان في 19 أكتوبر 2001م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى