داود سلمان الشويلي - في قلبي فراشة

(ما أجمل أن نبقى أطفالا.)

تقرفصت في سريري الخشبي الصغير، حيث الفراش البارد، واسندت ظهري إلى حائط الغرفة الخالي من كل شيء سوى البرودة، وأنا أحدق في الظلمة التي تحيط بي من كل جانب بعينين جاحظتين توشكان على الخروج من محجريهما دون ان أرى شيئا تحت ضوء الفانوس الأصفر الشاحب كوجهي الذابل من الخوف وقتها، والمركون في زاوية الغرفة. .
شيئًا فشيئًا كان النور في عيني يسطع كضوء الشمس في ظهيرة يوم صيفي، توهج أكثر إمتلأت به الغرفة، عندها لم تعد عيناي في الظلمة الكحلية، إذ قفز قلبي ذو الأحد عشر عاما من مكانه من شدة الخوف، والاستيحاش. كان خوفي قد استفحل عليّ ولم استطع الصراخ حتى، فقد التصقت شفتاي ببعضهما. كان الجميع نائما في فراشه الدافيء الوثير، فيما كانت السماء تمطر بردا، وكل الغرف المغلقة تتنفّسُ الصمت الظلامي وهي تقطر سوادا بسواد.
فجأت خرج طنطل ضخم من مكان ما في الغرفة، أو ما يشبه الطنطل الذي أهدَّدُ به دائما عندما أشاغب أهلي. تساءلت مع نفسي الخائفة: لو كان هو لاختلف النور عن لون الفانوس الشاحب، وصار بلون النار، والحديد الحامي، ولامتلأ فضاء الغرفة برائحة الدخان "المتشعوط". ومن بين حركة ارتجافي الخائفة جائني صوته ناعما حنونا، وهو يقول:
- لا تخف يا صغيري المسكين. كلنا مساكين، ولكن جئتُ لأساعدك.
أضطرب قلبي، وأخذ يخفق سريعا، استطعت من إخراج صوتي الواهن، والمضطرب، مثل الصياح الأول لديكِ لم يزل كتكوتا صغيرا بعد. سألت بإرتجاف الخائف:
- من أنت؟ هل أنت روح من العالم الآخر؟
- لا يا صغيري المسكين.
ودوت ضحكته في الغرفة شبه المظلمة، والتي يوهجها هو بنوره الساطع. قال من بين شفتين ضاحكتين:
- سأصنع المزيد من النور. لا تخف. لن يحدث شيئا لك، هدّيء من روعك.
أجبت متلعثما بـ "نعم". وأغمضت عينيّ كليا. أعدت السؤال مرة أخرى بصوت عالي النبرة:
- من أنت؟
قال بهدوء:
- يمكنك أن تفتحهما على وسعهما.
فتحت عينا واحدة أوّل مرة، وعندما تيقنت بالأمان فتحت الأخرى. كانت الغرفة مضاءة بنورٍ هادئ، ولطيف، حتى إنني حسبت نفسي ميتا، وقد بُعثتُ في جنة غناء.
سمعت صوته هادئا:
- انظر اليّ. قال ثم أكمل: بإمكانك أن تقرأ الثقة في عينيّ.
سألت محدثي:
- أين أنت؟
- هنا، أقف عند طرف سريرك.
ذعرت لما رايته. كنت خائفا إلى الدرجة التي أصابتني رجفة قوية هزتني من رأسي حتى أخمص قدميّ، وقد ضمتهما يدياي الى صدري الذي يخفق فيه قلبي بسرعة، وقد اضطرب.
- إذا خفت مني فإنا سأعود من حيث أتيت دون أن أقدم لك يد المساعدة.
بالكاد خرج صوتي:
- انك طنطل!
- وماذا في ذلك؟
- ولكن، ألم يكن بإمكانك أن تكون غير ذلك؟
ضحك، وقال:
- أتقصد قطا مثلا؟ أو غزالا؟
- ان القطط جميلة وهادئة. والغزلان أيضا جميلة جدا عندما تركض بسرعة فانها تقفز برشاقة عاليا.
- المعذرة، ولكنني لست سوى طنطل مسكين. وإذا كان هذا لا يُعجبك، فسأتركك وأرحل.
كان الطنطل الضخم حزينا جدا، ومتأثرا إلى درجة يوشك معها أن يبكي. وقد هدأت قليلا بسبب مسكنته. فأنا أتأثر عندما أرى شخصا يوشك أن يبكي أمامي.
تغيّر موقفي الخائف منه، ربّما؛ بسبب لمعان عينيه الناعم، شعاع هادئ ينبعث منهما. خاطبته بنبرة احترام وتقدير.
- ما اسمك؟
حك راسه قليلا. وأجابني:
- طنطول.
- طنطول ماذا ؟
- طنطول فقط. طنطول الطنطل، فليس لدي لقب عائلي مثلك أعرف به.
سألته بهدوء:
- هل تصير فراشة ؟ أنا أحب الفراشات.
أومأ برأسه موافقا في إحباط، وقال بجدية أكثر:
- جئتُ لأساعدك. سأساعدك لتدافع عن نفسك ضد كل شيء في الحياة. ولن تعاني بهذا الشكل من كونك طفلًا وحيدا... سأساعدك أيضا على تعلم العزف على العود.
اندهشت كثيرا لمعرفة طنطول، الطنطل، بتعلمي العزف على العود، كنت اتعلم العزف على العود.
- اتصدقني. قال. فأجبته:
- بلى. إني أصدقك. فقد كان عندي في ما مضى عصفورا في صدري، يغني معي أجمل الأغاني.
- وأين هو؟
- لقد طار بعيدًا.
- هذا يعني أن لديك مكانا فارغا تُخبئني فيه.
تشوّشت أفكار رأسي. هل كنتُ أحلم؟ كان صدري أجوفا كالطبل. فكيف يسع طنطلا ضخما كهذا الذي أمامي؟
- سأصير فراشة كما تريد وأدخل في قلبك الصغير.
تردّدت كثيرا، فراح يشرح لي ما يفعله:
- إذا قبلت بي صديقا، فسوف يسهل كلّ شيء بالنسبة لك ولي. أريد أن أدخلك حياة جديدة، وأعلمك كيف تحمي نفسك من كل ما هو سيء، وخبيث، وكيف تنزع حجاب الحزن هذا الذي يلاحقك أينما ذهبت.
- هل ترى الأمر ضروري حقا؟
-عندما أدخل قلبك، وأسكن فيه، سينفتح أمامك عالما جديدا. وستلاحظ تغييرا كبيرا في حياتك أيها الصغير.
شعرت بأننا صديقان منذ زمان مضى، فرحت أسأله:
- ماذا يمكنني أن أفعل لتشاركني قلبي؟
- لا شيء تفعله، أنا الذي سيفعل كل شيء، وعليك أن تكون شجاعا لأدخل في صدرك.
- أتدخل عبر فمي؟
- كلا، عليك أن تغمض عينيك.
- إلا يؤلمني ذلك؟
- كلا. سينزل على عينيك نعاسًا ثقيلا.
مرر يده أمام عينيّ فصرت نائما كأصحاب الكهف، وأنا أسند ظهري الى الحائط الذي سرت برودته الى عظامي.
كبرت يد الفراشة التي كانت هو، وصارت بحجم يدي، تماسكنا قويا، كانت ناعمة، وطرية.
قلت:
- ان ما يزعجني هو أن أقضي عمري، وأنا اتمرن على النوتة الموسيقية. هل تساعدني على ترك تعلم العود ؟
ردّ قائلا:
.- لا يمكنني حقا أن أعدك بهذا، ولكني قد أجد طريقة لتخفيف معاناتك أثناء ذلك.
قلت له:
- هذا جيد.
نظر في ساعة يده المشعة اخضرارا، ثم نظر نحوي بلين، قلت له:
- ماذا أفعل الآن؟
- اترك اللحاف ينزل على الأرض، واحملني اليك.
فعلت ما طلبه مني، حملت الطنطل الضخم، كان بخفة الفراشة، وهي تطير.
- هل سيؤلمني ذلك؟ سألته:
- كلا.
- هل تأكل قلبي؟
- سأكون، وقلبك شيئا واحدا.
- أريد أن أرى كل ما يحدث.
- يجب أن تكون نائما؟
- سأتابع ما يحدث لي بشكل جيد.
- إذن، سأجعلك تسمع موسيقى جميلة جدا.
- هل يمكنني أن أختار؟
- نعم، يمكنك ذلك.
- أريد أن أسمع موسيقى اغنية يا حوته يا منحوته هدي قمرنا العالي.
- على العود ؟
- نعم، على العود.
قال باسما:
- أنك لا تكره العود إلى هذا الحد..
- نعم، في بعض الأحيان أجده جميلا.
- هل نذهب؟
- فلنذهب.
امتلأ المكان بموسيقى يا حوته. جثى طنطول على صدري.
وكان كل شيء تفعله الفراشة ناعما مثل النسيم.
رأيته، وهو يضع فمه على صدري ويشرع في النفاذ إلى داخله. حقا، لم يكذب طنطول. إذ لم أشعر بألم في صدري. وقد انتهت عملية الدخول سريعا. بل خلال لحظات قليلة، ثم مررت يدي على صدري وأنا مستلقُ تحت اللحاف الدافيء، كانت المنطقة ملساء تمامًا. ومع ذلك، كان قلبي ينبض في قلق.
سألت:
- طنطول، هل أنت نائم؟
- لا، لماذا؟
كانت إجابته بعيدة جدا، حتى إنني سمعتها بصعوبة كتأوه شخص في فراشه يحتضر. كنت أنا قد سلبني النوم كل ارادة لي فلم يعد بمقدوري مقاومته. بعد فترة ليست بالقصيرة سمعت صوته يأتيني واهنا وكأنه يصدر من بعيد، وهو يقول:
- ما أجمل أن نبقى أطفالا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى