سلمى الخضراء الجيوسي - مقدمة للقص العربي القديم

لتقديم مختارات لغير المختصّين، لا بد لنا من وصف الأجناس المختلفة للقصِّ العربي القديم، تاريخها وآثارها‭.‬ وتبدأ هذه المختاراتُ في الشكل البسيط للخطاب، كما هو الحالُ في أيام العرب، وقصص الحب والمغامرة في الجاهلية والإسلام، ثمّ تشمل النوادر، فالشكل السردي الأكثر تعقيدا المتمثّل بالمقامات، وبكتابات كبار الكُتّاب العباسيين، مثل أبي العلاء المعري (363/973-449/1057) في رسالة الغفران‭.‬ هذه الأجناس المختلفةُ التي نجح فيها الكُتّابُ العرب في القرون الوسطى تتراوح أيضا بين الحكايات القصيرة، التي تكون أحيانا قصيرة جدا، كجنس الخبر، وبين السرد الأطول، إلى أن تصلَ إلى الرواية لدى الفيلسوف الأندلسي، ابن طفيل، في روايته الفلسفية المشهورة، حيّ بن يقظان‭.‬ والواقع أنّ دراسة تطوُّر القصِّ العربي القديم إنّما هي أيضاً دراسة لتغيّر اللغة والأسلوب في التاريخ الأدبي العربي‭.‬

في ترتيب هذه المختارات أخذتُ في الاعتبار الجانب الزمني وحده في البداية حيث رتّبتُ الحكايات الجاهلية في قسم خاصٍّ بها، ولكني لجأتُ فيما بعد إلى تقسيم يعتمد على الموضوع‭.‬ أمّا السبب وراء عرض ما تُعتبر حكاياتٍ جاهليةً بعيدا عن البقية فهو لإتاحة الفرصة للباحثين المهتمين بالقيام بفحص مقارن لإمكانية وجود اختلافات عن الحكايات التي رويت بعد ظهور الإسلام، ولتبيان ما إذا وُجد فيها ما يدل على تغير أساسي في الدوافع والنظرة إلى العالم حيث أن الفكرة السائدة في الجاهلية كانت وثنية عموما‭.‬ بيد أن على المرء أن لا ينسى أن بعض ما حُفظ، لا كلّه، من التقاليد الجاهلية لا بد أن يكون قد حُرِّف حين سُجلت المواد الجاهلية كتابةً في العصر الإسلامي، فأزيل منها ما ينقض النظرة التوحيدية للعالم‭.‬ يبقى السؤال حول ما إذا كان ظهور الإسلام على ضوء الدين الجديد قد أوجد تغييرا في تطور السرد، أكان خيالا أم حقيقة، مُحدثا، كما كان واضحاً في الشعر،[1] انفصاما في التطور الطبيعي للفن‭.‬
إن الشكوك التي تحيط بصحة هذه القصص، والجدل الحاد أحيانا الذي نتج عنها في محاولة توكيد أصولها الجاهلية أو دحضها بقيت غير مبتوت فيها في كتب التاريخ الأدبي‭.‬[2] غير أنه لا بد من النظر الجاد إلى وجود السرد القصصي قبل الإسلام‭.‬ فما من شعب دون تقاليد، وقد كان للعرب الجاهليين تجربة سردية غنية‭.‬ لا مكان هنا للاستفاضة حول هذه القضية، بالرغم من أهمية القول إن الزعم بعدم وجود نثر جاهليّ جيّد وخلاّق لا أساس له من الصحة‭.‬ فما ورد في القرآن الكريم من قصص عُرضت بشكل أخّاذ لم يأت من فراغ‭.‬ أضف إلى ذلك ضرورة النظر الدقيق في طبيعة القصص والأساطير الواردة في “كتاب التيجان في أخبار ملوك حِمْيَر” (ولعلّه أغنى مصدر للحكايات الجاهلية حتى اليوم)‭.‬ وتدحض إنكارَ الأصل الجاهلي لهذه العينات حقيقةُ أن القصص والأساطير والحكايات الخرافية التي تملأ صفحات هذا السفر الضخم تتماشى مع وصف التمثيل القصصي المبكّر المعروف في الثقافات الأخرى تمثيلا لا يحفل بالوحدانية الدينية: فهناك الكثرة من عناصر الحكايات التي تتخطى ما هو طبيعي: رجال يعيشون مئات السنين؛ جثث ملوك لا يصيبها التحلل؛ أفعال باهرة أعلى من قدرات البشر؛ خيال محلّق لا يخضع لحدود المعتقدات الدينية، إلى آخره‭.‬ ومن غير المحتمل أن تكون مثل هذه الكتابة قد أُبدعت في القرنين الإسلاميين الأوّلين فقط، وليس وراءها تاريخ لحكايات العجائب والخرافات والأحداث الخارجة على الطبيعة‭.‬ صحيح أن هناك تأكيدات على أن بعض الرواة في مطلع الإسلام رووا حكايات ذات طابع عجائبي كانت الغاية منها إبهار المستمعين، لكن ليس هناك سبب منطقي لافتراض أن هذه الحكايات قد ابتدعت كليا في الإسلام‭.‬

نثر مبكّر
ما انتشر في النصف الأول من القرن العشرين من فرضيات تشكّك في صحة الشعر والنثر العربيين المنسوبين إلى العصر الجاهليّ إنما يعكس قصوراً في فهم كيفية بدء الجنس الأدبي المزدهر ونموّه، وفي فهم الاحتمالات الأدبية، وتاريخ الأسلوب الأدبي أو الشعري ومنطق تطوره‭.‬ إني على علم بالانعطافات الإبداعية التي قد تظهر في الأدب فجأةً وعلى غير توقع؛ ولكنْ، ليس هناك شيء بلا جذور، أو حوافز على الأقلّ، تؤدي إلى تغيير جذري أو إلى ابتداعٍ جديد أساسي: كتأثير خارجي آتٍ من لغة أخرى لها أثر على فنّان ما أو على عصبة من الفنانين، أو الانبهار بالتغيير في عصر يُشيح عن القديم ويرحّب بالجديد والحديث، ولكن الأهمّ هو الإرهاق الجمالي، والحاجة النفسية والفنية المطلقة التي تتسلط على الروح الإبداعية فتدفعها إلى تعبير مختلف‭.‬ ولا يبدو أن هذا، أي الإرهاق الجمالي، كان قد اعترى الأدب العربي خلال القرون الإسلامية الأولى وقرر مصير التطور الذي أصاب الشعر والنثر العربيين‭.‬ فالشعر العربي الذي ورثه المسلمون الأوائل كان في ذروة إبداعه‭.‬ كذلك كان النثر متطورا جدا كما نرى في لغة القرآن الكريم التي نزلت على قوم عرفوا بلاغتها حالا وتأثّروا بجمالها الأخّاذ‭.‬


إن ما تركه لنا المسلمون الأوائل من مؤلفات ومحاورات جميلة تعبّر عن الأوضاع المتخلقة من الفتوحات، والأهمّ في الخطابات الموجزة الرائعة [3] التي ساعدت في بناء الإمبراطورية بسرعة فائقة‭.‬ أضف إلى ذلك أن القرنين الأوّلين بعد ظهور الإسلام كانا الفترة التي كان التزام الحقيقة فيها أمرا مقدسا في الأدب، والتي بدأ ينتشر فيها أحد أشكال القص، أعني الخبر، (راجع أدناه) انتشارا كبيرا في الرسائل العربية الموثقة بالإسنادات لإضفاء روح الصدق عليها‭.‬ وهذا القول يجب أن يشمل أيضا متطلبات التاريخ الأدبي والاحتمالات التطورية التي تقبلها (أو تدحضها) في جنس ناشئ‭.‬[4] وقد فسحت دراسات الأدب العربي، القديم منه والحديث، المجال لسيطرة نظريات كثيرة خاطئة، فتَقبّلها الكثيرون من غير أن يُمحصّها خبراء التاريخ الأدبي الذين باستطاعتهم تقدير الإمكانات الكامنة في النص الإبداعي، ومخاضات تجاربها، وحدود مغامراتها الممكنة‭.‬
ما تجب ملاحظته فورا في هذه الأجناس التي يقدمها “كتاب التيجان” هو بعدها الطبيعي عن النصوص التي يُفترض ابتداعها تحت جناحي فجر الإسلام حين كان مشاعا أن نصوص كتاب التيجان كُتبت فيها‭.‬[5] وكما قيل أعلاه، هذه هي الفترة التي كان فيها الإصرارُ على الصدق واسعَ الانتشار‭.‬ ويبدو معقولا أكثر أن يقال إنه ما كان لهذه الحكايات أن تُبتدَع، مهما يكن الأمر، في جوّ التديّن الإسلامي المبكر‭.‬ والنقطة الرئيسية هنا هي التوكيد على فكرة أن هناك دائما جذورا لظهور جنس أدبي؛ وأن جنساً ذا نظرة وثنية للعالم ابتُدِع بعد ظهور الإسلام لا بد له من أن يثير أسئلة حول جذوره‭.‬ أما ما يدعو إلى التأمل فهو أن اليمن في الجاهلية، حيث ظهر كتاب التيجان، لم تكن كلها جزءاً من الجزيرة العربية الوثنية‭.‬ ذلك أن المسيحية واليهودية كلاهما كانتا موجودتين هناك، وهو ما يشي بأن الكثرة من القصص ذات النظرة الوثنية في هذا السفر قد تكون قديمة جدا‭.‬ نستطيع أن نرى أيضا أن كتاب التيجان لم ينج من إضافات لاحقة كالإشارات الإسلامية في القصص‭.‬ بيد أن لبّ الكتاب وأصله، فيما أرى، هو جاهلي‭.‬
يرى المرء، إذ يراقب تطور القصة العربية القديمة، أنها، بالرغم من أن إصرار الإسلام مبكّرا على الصدق في الأدب قد تدخل في تطورها الطبيعي، استطاعت في زمن قصير أن تعود إلى حركتها الطبيعية، ماضية قدما صوب التعقيد، عاكسة فنا قصصيا نشيطا فاتنا‭.‬ لعل أهم ملاحظة في هذه العملية أن فنّ النثر الأدبي خرج عن خط الشعر في التركيز على طبقات المجتمع العليا، وتطّلع إلى عامة المجتمع الإسلامي الذي كان ينمو بقوّة في المدن، فصوّر أناسا تنتمي الكثرةُ منهم إلى الطبقات الدنيا من المجتمع: كالشحاذين أصحاب الحيل، والشطار والعيارين، والبهلوانات، وغيرهم، الذين مالوا إلى الخديعة لكي يؤمّنوا قوت يومهم‭.‬ وقد ظهر أضداد البطل في الفن القصصي العربي في وقت مبكر جدا‭.‬ فعكست تلك القصص، في القرن الثاني للهجرة، التاسع للميلاد،[6] عالما تعيش فيه شخصيات أُهملت ولم يُسمع بها في الفن القصصي العالمي، حسب معرفتي، إلا بعد زمن طويل، شخصياتٌ تتدفق بالحيوية وروح النكتة والنزعة إلى الحيلة، شخصياتٌ مارقةٌ في حضارة مزدهرة‭.‬
إن النقاش الذي يرفض إمكانية أن تكون تلك الحكايات منتسبة حقيقة إلى العصر الجاهلي إنما يرى أن الجزيرة العربية كانت لا تزال غير ناضجة أدبيا وثقافيا، فلا تستطيع أن تبدع نثرا فنيا سرديا جيدا، حتى لو كان شفويا‭.‬ وهذا حكم تعميميٌّ مُلقى على شعبٍ أبدع أرقى الشعر وأكثره تفصيلا في عصره على مستوى العالم كله، أو على الأقل إلى الغرب من الهند، شعب وحّد لهجاته المتعددة، حتى قبل ظهور الإسلام، في لهجة قريش،[7] التي بدت أفضل لهجة للتعبير عن أغراضه ودلالاته،[8] أي أُنزل بها القرآن، شعب تنغم ببراعةٍ مع النص القرآني المعقد، وفهمه والتزم حدوده في بضع عقود‭.‬
وكما قيل أعلاه، إن القرآن غنيّ بالفن القصصي‭.‬[9] صحيح أن الشعر في أيّ مجتمع قديم يأتي وينضج قبل غيره، غير أن مرحلة الكمال التي وصل إليها الشعر الجاهلي في القرن السادس يجب أن تقنع المؤرخ الأدبي أن يتبنى فكرة وجود حقل أدبي أوسع تطورا وأكثر جاهزية لظهور أجناس أخرى فيه غير الشعر‭.‬ علينا أيضا أن ننظر في هذا السؤال: إن لم يكن النثر قد نضج في الجزيرة العربية قبل الإسلام، فكيف إذن ترك لنا أولُ جيل مسلم كنزا من النثر الرفيع كالحديث الشريف، مثلا، الذي نُقل شفويا قبل تدوينه كتابة، وكتاب نهج البلاغة، للإمام علي بن أبي طالب، رابع الخلفاء الراشدين، وهذان نصان رفيعان مفعمان بالحكمة، وذوا أثر كبير في مخاطبتهما عقول المسلمين الجدد وقلوبهم، ولم يفقدا قط أثرهما الأدبي؟ إني أعتقد أن رفض وجود نثر جيد في العصر الجاهلي إنما هو محاولة مبالغ فيها تعكس مطمحا بحثيا يحاول استثارة الإعجاب بنقاش مصوغ بعناية، لكنّه خال من الفطرة الأدبية والمنطق اللغوي والبصيرة الناقدة‭.‬ وكان يجب وضع حدّ للمبالغة في “الاستفاضة فيما هو واضح”‭.‬

بدائع العرب
لا بد لنا هنا من أن نورد شرحا للأجناس التي ابتدعها العرب في العصر الجاهلي‭.‬
فن رواية القصص ظاهرة عالمية وهو، في كثير من أجناسه في أيّ ثقافة، يتطابق مع النموذج الأصلي في الثقافات الأخرى، خاصة في القصة ذات الأحداث الزمنية التي لها بداية ووسط ونهاية‭.‬ غير أن هناك ثلاثة أجناس رئيسية على الأقل تُعتبر عربية الأصل تحديدا: أولها الخبر، وهو النادرة القصيرة المسندة بقائمة من الرواة المأخوذة عنهم ويُستهلّ الخبر بذكرهم؛ وثانيتها المقامة، وثالثتها قصة إسراء الرسول ومعراجه‭.‬ وحين أتكلم عن هذا الجنس تحديدا سوف أسترسل في الكلام عن كل من هذه الثلاثة‭.‬

أساطير الجزيرة
كان الفهم الأسطوري للتجربة يمثّل نظرة الإنسان إلى العالم، وهو ناتج عن المواجهة الإنسانية لألغازه، وللرغبة اليائسة في القلب الإنساني في استكشاف أعماق معضلاته التي لا تنجلي‭.‬ وكان أيضاً جواباً عن رغبة الإنسان في تجاوز معوقات حياته، والشر الذي قد يحيط بها، وما يكتشف الإنسان في ذاته من عجز ومحدوديات‭.‬ هاهنا استولى على عقل الإنسان وقلبه اهتمامُه العميق بالسحر وبالحلول فوق البشرية‭.‬
هذه ظاهرة عالمية في الأدب‭.‬ وقد كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام مفعمة بالأساطير وبأحاديث الخرافة،[10] لكن ظهور الإسلام كعقيدة رئيسية وتقديمه شرحا نهائيا للحياة الإنسانية وللكون، قطع الطريق أمام استمرار التأويل الإنساني للكون، موقفا ومتجاوزا المرحلة الخرافية للمواجهة الإنسانية مع ألغازه‭.‬ وكان هناك سعي لأنسنة التجربة بعيدا عن عالم الأوهام والفهم الخرافي للكون‭.‬ أما النظر إلى عالم مخيف مليء بالعجائب والمعجزات فوق البشرية، المقيمة في عالم الوهم الخادع، فقد أصبحت الآن خاضعة للدين الجديد الذي يكاد لا يترك شاردة ولا واردة من غير تفسير‭.‬ فتحتَ جناح الإسلام أميط اللثام عن عالم الوهم الخادع والقوى الغريبة؛ وباتت ظواهره المبهمة واضحة في القدرة على رؤية يد الإله الواحد الخفية التي لا يمكن تمثيلها أو وصفها، لكنها تسيطر على كل شيء‭.‬
إن عالمَ الألغاز والظواهر التي لا تفسير لها، ذلك الذي سيطر على عقل الإنسان قبل الإسلام، قد خلق كائنا بشريا معقدا جدا، متحديا قدراته البشرية وطاقاته‭.‬ فأدى ذلك إلى رد عظيم على تلك الألغاز المحدقة بالإنسان، وغزو إبداعيٍّ كبير لها، غالبا ما كان جامحا، وذا تفسير خيالي في تصويره بطولات الفتح الإنسانيِّ، حيث ضُخِّم “الكائن البشري” وأنيطت به طاقة الآلهة‭.‬ وقد اختفى كل هذا بظهور الإسلام وما عاد إلى الظهور إلا بعد قرون لاحقة حين ألحّت الحاجة إلى القصص الشعبية، تُستعاد بها ذكريات الفتوحات والقوة بعد الهزائم السياسية التي ألمّت بالأمة‭.‬
لقد استولت على الخيال العربي “كلمة” القرآن الكريم، وعظمته وفصاحته التي عمّت الآفاق‭.‬ فبات محرّما أيّ تصوير خيالي لله الذي لا يراه أحد‭.‬ حتى أن الشعر العربي في فجر الإسلام نأى بنفسه عن العالم القدسي‭.‬ وما كان إلا بعد زمن طويل أن اقترب الصوفيون بحواسهم كلها من هذا القدسيّ، جامعين بين الشعر والإيمان الحسي، متآلفين مع وجه الله الذي لن يُرى ولن يدركه الخيال‭.‬
أما المسيحية، وهي ذات حضور حيٍّ في الإسلام، فلم تَخْبُرْ الآفاق المغلقة ذاتها التي أحدقت بالقصور البشري الجوهري‭.‬ ذلك أن قصة السيد المسيح، وحياته القصيرة النقية، وعذابه وموته العنيفين، وبعثه المجيد، قد ولّدت كلها لدى المؤمنين اندفاعا شديدا صوب التقوى‭.‬ وقد أدى هذا إلى تكرار التعبير عن مسرحية دينية مرئية عظيمة، وفتح المجال لإبداع عظيم وعاطفة خلاقة‭.‬ أضف إلى ذلك أن الدين المسيحي كان عقيدة مبنية على المعجزات: استقامة الأعرج، وإبصار الأكمه، وبعث الميت حيا‭.‬ وهذا تأكيد على إعجازٍ فوق طاقة البشر، يعكس استمرار ما كان سائدا قبل ظهور المسيحية من معتقدات وخيالات‭.‬ أما الإسلام، وهنا أتكلم عن الإسلام السنّي السلفي، فإنه، حين يتعلق الأمر بالخوارق، بسيط، مجرد، معادٍ لاستمرار عهد المعجزات‭.‬ حتى الجنُّ في القرآن عوملوا معاملة البشر‭.‬ وبالرغم من أن قصة مولد عيسى، وعذريّة مريم، وحملها الطاهر، قد ذكرت في إحدى السور الأروع بلاغـة،أعني سورة مريم، واعتبرت جزءا من العقيدة الإسلامية، فإن الإسلام لم يقبل فكرة صلب المسيح: فلا يجوز وجود سابقة يُقتَل فيها الأنبياء‭.‬ أما قصص الأنبياء اليهود الآخرين، فقد أعيدت روايتها باحترام كبير، إلا أنها، كقصة عيسى، لم يؤخذ بها في الممارسة اليومية للإسلام ولم تُحرّكْ الخيال الإسلامي‭.‬ لقد توقف الإسلام عند حدود المعقول، ولم يأت محمد بمعجزات‭.‬ وبالرغم من مهابة عجائب الطبيعة، وهي ما أشار إليها القرآن الكريم كثيرا بإعجاز أدبي بليغ، فإن الواقعي المعقول، لا المعجز، كان مدخل المسلم إلى الإيمان‭.‬ أما الاقتناع، فقد تأتّى من نزعة ناضجة وجاهزة لإيمان قابل للفهم يكفي العرب مؤونة بحثهم الطويل عن الله؛ ولا حاجة عندهم إلى المعجزات‭.‬ وأما العقول الخلاقة، فلا يُسعدها الإتيانُ بأحسن من الكلمة المنزّلة، أو الخروجُ عليها أو الهيامُ بالعجائب، خاصة في تلك الفترة المبكرة التي نناقشها‭.‬ ففيما عدا رحلة الرسول في إسرائه إلي بيت المقدس ومعراجه إلى السماء ليقف بين يدي الله، لم يحفل الإسلام السني بغير ما هو عقلاني‭.‬ لقد كان في الرسالة الإسلامية نوع من الكمال الذي لم يسمح إلا بالقليل من البدعة في الأدب ومن الانعطاف نحو الجموح الخيالي‭.‬ وفيما عدا الأوصاف الشفوية الآسرة للجنة الواردة في القرآن بتفصيل تصويري باهر، فإن تصوير الشخصيات المقدسة بالرسم لم يُسمحْ به‭.‬ وقد تُرك للمسلم اعتناقُ الأفكار المجردة التي لم يكن في استطاعته مناقشتها أو الإضافة عليها أو مساءلتها إلا في فترات قصيرة من التاريخ الإسلامي، كالحقبة التي راج فيها فكر المعتزلة العقلاني في القرنين الثاني والثالث الهجريين، (الثامن والتاسع الميلاديين‭.‬)
لقد أثّر هذا الوضع في تقدم القصة والإبداع الخيالي‭.‬ ذلك أن المسلمين حُصروا في نطاق الكلمة الملتزمة، وفي الوصف المُنزّل لتفاصيل الدعوة الإسلامية وحياة الرسول وصحابته‭.‬ فمن غير الممكن للخرافات أن تحيط بحياتهم وبحياة من حولهم من الناس‭.‬ وقد كان هناك، طبعا، كثير من التطفل على التفاصيل، لكن ذلك لم يبلغ حدّ التصوير الخرافي‭.‬ وقد التزم الإسلام السني بالتفسير العقلاني للكون، خاصة أن ذلك العصر كان يحفل بفكرة الصدق والإصرار على الحقيقة، حدَّ التطرف أحيانا‭.‬ أما الحكاية الدينية التي يتوقع المرء أن تكون نالت ما يكفي من العناية في صدر الإسلام، فلم تزدهر بما يكفي لتصبح جنسا قائما بذاته، وقد حلّ محلّها التعليم القرآني‭.‬
بيد أن العرب المحدثين، ربما لعدم إدراكهم انجذابَ الثقافاتِ القديمةِ الطبيعيَّ صوب التصور الأسطوري للكون، يظنون تاريخهم خاليا خلوًّا بيّناً من الأساطير‭.‬ ولعل السبب وراء هذا الجهل عائدٌ إلى التديّن الإسلامي‭.‬ ذلك أن النقاء الديني الذي أكد على الالتزام الحكيم بالكلمة المنزّلة لم يوقف تطوّر التفكير الأسطوري فحسب، ولكنه إلى ذلك، ولكي يضمن انحصار المفاهيم العامة حول الحياة ضمن حدود الالتزام التوحيدي الإسلامي والمعتقدات المحددة بوضوح، لم يُشجع استمرار انتشار الأساطير الخفية التي تشي بتأويل آخر للعالم‭.‬ وقد أزيل من الشعر الجاهلي أيّ ذكر للأوثان، وبالرغم من أنه بقي ما يكفي من التفاصيل ليجمعها الباحثون المتأخرون، فلم تشكل الأساطير جزءا من الخيال الإسلامي المبكر‭.‬ بيد أن العودة إلى المسرحة الأسطورية لم يكن منها مناص مع مرور الزمن، حتى لدى بعض الطوائف الإسلامية‭.‬
غير أنه، بالرغم من جوّ التحريم الذي سيطر على المشهد السردي الإسلامي المبكر، فإن بعض رواة التراث النثري، حتى خلال القرن الأول، رووا، كما يبدو، حكايات أسطورية حول العجائب والغرائب التي تناقض حدود الدين‭.‬
وكما قيل أعلاه، إن القصص السردية العربية حول العجائب والغرائب التي تفوق طاقة البشر كان لا بد لها من العودة بقوة وبأصالة متزايدة أبدا في القرون المتأخرة، كما نرى في بعض كتب الرحلات والقصص الشعبية، ومنها، كمثال مهمّ، قصة سيف بن ذي يزن في القرن الرابع‭.‬
في العصر الحديث، ومنذ العقود الأولى من القرن العشرين، بُذلت جهود كبيرة لإعادة الوصل مع الأساطير الجاهلية، بدأها بصورة رئيسية بعض الشعراء العرب، خاصة شعراء المهجر في الأميركيتين‭.‬[11] وقد تبعها في منتصف القرن عدد من الجهود الدراسية القوية للكشف عن الوجود الغني لأساطير عديدة في جزيرة العرب قبل الإسلام، وهو ما أضاف غنىً معرفيا لهذا الحقل من تاريخ العرب الثقافي الذي لم يُكتشَفْ منه إلا القليل‭.‬ أما الكُتّابُ والمفكرون العرب، لجهلهم بوجود أساطير عربية، فقد مرّوا مرور الكرام على هذا الفرع المعرفي الذي قدمه لهم عدد من الباحثين العرب بعد بحث مرهق‭.‬[12] لعل عقولهم لم تستطع هضم وجود كثيف وحيّ للأساطير لدى عرب الجاهلية، وما تعنيه بطبيعيّتها‭.‬ كذلك لم يستطيعوا الانتباه إلى أن هذا شبيه بما يوجد في جميع الثقافات، وهو شاهد على وحدة الإبداع الإنساني، وعلى أن الثقافة الإنسانية تبقى في أساسها كيانا موحدا، ذات قدرات إبداعية موحدة ونظرة كونية ملتحمة‭.‬ ذلك أن جميع الثقافات تؤدي إلى ظروف الحياة الأساسية على الأرض ذاتها وإلى الرهبة من الوجود الكوني ومن ظواهره العصية على الفهم‭.‬[13]


أيام العرب
من هذه المواجهة مع ألغاز الكائنات الكونية، تولّد لدى الإنسان شوق عميق لغزو مخاطرها، وتوكيد وجوده الإنساني القوي‭.‬ من هنا كان التوق المتواصل للبطولة وللفتح، وهو موقف جاز الرغبة المستحيلة في السيطرة على المخاطر التي تضع البشر في موقف ضعيف لكي يحقق النصر في المواجهات الإنسانية مع جنسه نفسه، بما لدى الإنسان من قوة وشجاعة عارية‭.‬
بالإضافة إلى القصص المؤسسة على الأسطورة والبطولة الاستثنائية التي يكون فيها الممثل الرئيسي بطلا خارقا لقدرات البشر، فإن عرب الصحراء، وهم من حاربوا لأجل البقاء في بقعة جرداء من العالم، قد خبروا مواجهات قبلية لا تُنسى، في معارك الغايةُ منها ضمان ملكية أو سيطرة أو منعة‭.‬ وكان طبيعيا أن تصدر عنهم أساطير حربية تحتفي ببطولاتهم وولائهم القبلي وطلبهم للثأر‭.‬ لقد كان البدو من عرب الجاهلية مغرمين بأساطيرهم الحربية تلك، وهي ما أسموها “أيام العرب”، فالتصقت في الذاكرة ورويت من زمن إلى آخر، ولا تزال الكثرة منها محفوظة‭.‬ ومنذ تلك الأيام المبكّرة في الجاهلية، كان واضحا ميل العرب إلى روايات واقعية لحياتهم الماضية‭.‬ وهذه الحكايات من حيث المبدأ، بالرغم من المبالغات التي لا بد منها للتشويق، لا تعتمد على ما هو فوق الطبيعة أو ما هو خرافي‭.‬ فالقصص التي تناهت إلينا، والتي رُصّعت بالشعر المعبّر عما دار من منازعات وفروسية، إنّما هي قصص جيدة الحبك حقيقية مفصّلة‭.‬ ولم تقتصر هذه القصص على وصف الشجاعة والفروسية، بل وصفت أيضا ما يمزّق القلب من منازعات عاطفية‭.‬
من تلك، على سبيل المثال، قصة عنترة، ذلك الشاعر الأسود المشهور في الجاهلية، الذي كان ابن رجل من أشراف عبس اليمانية، وكانت أمُّه أمةً حبشية، لذلك اعتبره أبوه عبدا‭.‬ أما القصة فذات لون مسرحي في حدّ ذاتها، من عشق عنترة لابنة عمه البيضاء عبلة، وبطولاته في الدفاع عن القبيلة، وهي التي جعلت أباه يحرره من العبودية ويزوجه بمن يحب‭.‬ لكن النهاية السعيدة لقصة عنترة لم تكن دائما تحدث في الحكايات الأخرى التي كان بعضها فاجعا، كما نرى في قصة كُليب والبسوس‭.‬ فالقصة التي رويت عن كُليب، شيخ قبيلة تغلب، تصور كبرياءه وحبه للسلطة، وانتزاعه حقوق الناس وممتلكاتهم، ثم قتله على يد نسيبه جساس، من قبيلة بكر، وهم أبناء عمومة تغلب‭.‬ وقد خالطت القصةَ مأساةُ جليلةَ، زوجةِ كليب وأخت جساس، التي وجدت نفسها بين أخ قاتل وزوج قتيل، فعانت ما عانت، خاصة أن الفاجعة في القصة لم تنته هنا: ذلك أن جليلة كانت حاملا حين قتل كليب‭.‬ وحيث أنها أعيدت إلى أهلها بعد مقتل زوجها، ولد ابن كُليب في ديار بكر، حيث ترعرع في كنف خاله وهو لا يعرف أن خاله الذي يرعاه هو من قتل أباه‭.‬ وحسب العرف القبلي عند العرب، كان على الولد واجب الأخذ بثأر أبيه من قاتله‭.‬ لذلك، حين شبّ الولد وعرف الحقيقة، لم يكن له مناص من قتل الرجل الذي أحبّه وربّاه‭.‬[14]
في هذه الحكايات حول المنازعات تكلّف غير متوقّع في ذلك العصر المبكّر من حياة القصة العربية‭.‬ فبالرغم من أنها تعكس تجربة محتملة مبنية حول تقاليد راسخة رسوخا جيدا في الثقافة، فإن تأويل النزاع وتقديمه في القصة يعكس تعقيدا وإحساسا مهمّين جدا‭.‬ حتى لو أن المرء أشار إلى احتمال أن تكون هذه الحكايات وضعت بعد الإسلام، فلن يختلف الانطباع حولها لأنها لا تزال تنتمي إلى زمن بعيد من التاريخ الأدبي العربي.


الهوامش:
[1] إن الفترة القصيرة من السنة الهجرية الأولى (1/622) إلى نهاية الخلافة الراشدية عام 40/660 كانت انفصاما قويا في تطور الشعر، الذي كان فنا لم يُرغب فيه ولم يُحفل به في الأوساط الدينية‭.‬ وقد أُضعفت أو فُقدت العلاقة المباشرة بالشعر الجاهلي، باستثناءات قليلة كذي الرمّة (77/-117)، وفقد الشعراء، حتى كبارهم، كالفرزدق، جزءاً من التزامهم بالأعراف الجاهلية‭.‬ وحول هذا الموضوع، راجع الفصل الذي كتبتُه عن “الشعر الأموي”، في تاريخ الأدب العربي – كامبردج، مج‭.‬ 1، منشورات جامعة كامبردج، 1983، ص 390 وما بعدها؛ وحول الفرزدق، راجع ص 405‭.‬ راجع أيضا ما ورد في هذا الفصل عن علاقة ذي الرمة القوية بتقاليد الشعر وتطويره لدلالاتها الرمزية، ص 430-1‭.‬
[2] راجع النقاش المطول الذي جاء به محمد القاضي حول هذه النقطة في كتابه، الخبر في الأدب العربي، دراسة في السردية العربية، منشورات جامعة منوبة، تونس، 1998، ص 124-146‭.‬
[3] مثل ذلك الخطاب الشهير الذي ألقاه الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95/714)، حين تسلم ولايته في البصرة عاملا للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان‭.‬
[4] بالرغم من أن القواعد الصارمة للتطور الأدبي، أو أي تطور فني، لا يمكن معايرتها، فإن ثمة منطقا داخليا في التطور الفني يمكن المؤرخ أن يهتدي به إن غاب البرهان المكتوب‭.‬ فهناك الكثرة من الأمثلة في التاريخ الأدبي العربي التي لا بد من تأويلها حسب ما يبدو أنه حدث، أو حسب ما لا يمكن حدوثه في لحظة ما من تاريخ جنس ما‭.‬
[5] راجع م‭.‬ القاضي، مصدر سابق، ص 125-7‭.‬
[6] راجع، مثلا، كتاب البخلاء للجاحظ (775-868)‭.‬
[7] كانت قريش قد فرضت في مكة مكانتها قبل الإسلام، وكانت راعية للكعبة أيّام الشرك أيضا‭.‬
[8] إن النظر في تاريخ اللغة العربية وفي توحيد لهجاتها الكثيرة في لهجة (أو لغة) واحدة هي لهجة قريش قبل الإسلام يشير إلى ما خلّفه من تطوّر لغوي طويل، وإلى نضج، وأهمّ من ذلك إلى إيمان، قد يكون صامتا ولم يُفكر فيه عقلانيا، بالتضامن العربي ووحدة العرب الأساسية من خلال لغتهم وأدبهم، وهو حال لا يزال موجودا إلى يومنا هذا‭.‬ إن تلك القبائل العربية المتنازعة، المعتدّة كل بذاتها عبر التاريخ، استطاعت في وقت مبكر أن تؤكد وحدتها الأساسية التي جعلت منها أمّة كبرى‭.‬
[9] راجع الدراسة الجامعة لحسن النعمي، “القرآن وخطاب السرد”، في كتابي القادم، القصة العربية في العصور الوسطى [The Medieval Arab Story] (تحت الطبع)‭.‬
[10] راجع هـ‭.‬ت‭.‬ نُرِس، “الخرافات والأساطير في العصرين الجاهلي والإسلامي الأول” ()، كتاب كامبردج لتاريخ الأدب العربي، مج 1، 374-86‭.‬
H. T. Norris, “Fables and Legends in Pre-Islamic and Early Islamic Times”, The Cambridge History of Arabic Literature, V. I, 374-86.
[11] للاطلاع على موجز لهذه المحاولات، راجع كتابي، الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، تر‭.‬ عبد الواحد لؤلؤة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، ص 112، حيث بُحثت تجربة شفيق المعلوف؛ كذلك في صفحات أخرى لاحقة‭.‬ غير أن هذه الجهود بلغت ذروتها في خمسينات القرن العشرين وفي بواكير الستينات باستخدام أساطير الخصب الفينيقية لتموز وعشتار، وغيرها من الآلهة الشبيهة، وهو جهد محمود في وصف صورة البعث بعد الموت لتتطابق مع حال العرب بعد نكبة فلسطين عام 1948‭.‬ بيد أنها لا يمكن شمولها في الإشارة الرمزية للأساطير الحيّة في ضمير الناس، بحيث تهمز تجربة حيّة ومعبرة للماضي كرمز للحاضر‭.‬ حتى القراء العرب المثقفون، يتوجب عليهم دراسة هذه الأساطير لكي يفهموا الأشعار التي ضمّنتها‭.‬
[12] من هؤلاء كتاب محمد الحوت، في طريق المثولوجيا عند العرب، 1953؛ شكري عياد، البطل في الأدب والأساطير، 1968؛ عبد المعيد خان، الأساطير العربية قبل الإسلام، 1973؛ فراس سواح، مغامرات العقل الأولى، 1976؛ مصطفى الجوزو، من الأساطير العربية والخرافات، 1977؛ والسفر الشامل من مجلّدين لمحمد عجينة، موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، 1994‭.‬
[13] راجع مقالة جمال بروت وسعد الدين كليب “عن السرد العربي الأسطوري” [On Fantastic Arabic Narrative] في كتابي القادم تحت الطبع، القصة العربية في العصر الوسيط، [The Medieval Arab Story].
[14] يمكن الاطلاع على تحليل لأيام العرب في دراسة لبيتر هيث (Peter Heath) في كتابي القادم المذكور أعلاه‭.‬


.
أعلى