محمد جميز - أصحاب القرية..

يصرخ سمير من أعماق قلبه: كفى.
لا يعيره الموظف انتباها، ولكنه يسمح له بالمغادرة ريثما تهدأ أعصابه قليلا. يهرول خارج الغرفة، ويطوى طرقات محكمة الأسرة طيا، ويلقى بنفسه على كرسي فى مقهى قريب من المكان. يقدم له النادل فنجانا من القهوة السوداء، يرتشفها سمير فى مرارة، يشعل سيجارة ولا يدخنها، يرمق خيوط دخانها فى شرود، ومن المذياع القديم القابع بجواره يشدو عبد الحليم حافظ: فالحب عليك هو المكتوب يا ولدى.
سافر سنوات كثيرة من أجلها، امتهن أشغالا مختلفة، ذاق كئوس الخذلان واحتمل، وراح يعد الأيام، لقد وعدها؛ لن يطرق باب بيتها قبل أن يصبح شمسا، يشرق على صفحة وجهها ويحلم، وكانت ليلة الزفاف.. فى هذه الليلة بُعثت كل الأساطير القديمة وشرعت فى الإحتفاء بهما، ومن يصدق تلامست الأنامل أخيرا بعد دهور من العذاب.
تندس الأفاعى فى قلوب المنافقين، تنفث سمومها فى شرايينهم فتطفح وجوههم بالكِبر، لاسيما عندما يفرح الطيبون، وكأن هناك ثأرا قديما منذ بدء الخليقة بينهما. انطفأت الشمس فى اليوم الأربعين للزيجة المباركة، وفرت البَرَكة من مسكن الزوجية. كانت فيروز فى المطبخ تجهز وجبة العشاء، وحدث كل شيء فى لحظة، يرافقها سمير فى سيارة الإسعاف، ترقد فى غرفة العناية المركزة، يستفهم الطبيب منه عن تاريخ حالتها الصحية، يجيبه بطريقة آلية دون أن يلتفت إليه: كانت بصحة جيدة، لم تقصد طبيبا أبدا للمتابعة، أنا مندهش من واقعة إغمائها ودخولها فى غيبوبة، ربت الطبيب على كتفه وانصرف، بيد أن سمير مازال يحدج فيروز ببصره من وراء الزجاج الشفاف لغرفة العناية ..
********
يستأنف الموظف المختص سؤال سمير عن الأسباب التى دفعت زوجته للجوء إلى محكمة الأسرة للطلاق منه خُلعا، يتلعثم وتسيل دموعه، فيناوله الموظف منديلا ورقيا رخيصا، يحدق سمير فى المنديل ويهمس: كنت فى شقتى أجلب بعض الأوراق الخاصة بفيروز، المستشفى تحتاج إليها لإستكمال بعض البيانات، وبينما أنا مستغرق فى البحث وجدت ورقة كبيرة مهترئة ذات رائحة نتنة، أمسك الخوف بتلابيبى، وراحت أنفاسى تعلو وتهبط، كان مرسوما فيها أشكالا غريبة، وسطور لحروف متداخلة أقرب إلى الطلاسم، لكن ذيل الورقة كان ينتهى بثلاثة كلمات مخطوطة بالدماء: فراق .. مرض .. ظلم ..
اطلعت خالتها على سر تلك الورقة، لم ألق بالا للفزع الذى اعترى قسمات وجهها، حسبته حينذاك تعاطفا ومحبة، ولم أظن للحظة أبدا بأنه هلع الشيطان من اكتشاف أمر جريمته، بررت سلامها البارد ليلة زفافى بأنها سيدة طاعنة فى العمر ولا تستطع إظهار هالات الإحتفاء بى، حكت لى فيروز قديما عن ابن خالتها الذى كان يحبها منذ الطفولة وعن الحاح أسرته فى خطبتها له مرارا، ولكن يبدو أن الحكايات القديمة لا تعرف الموت، إنها تحارب الأيام لكى تطفو مرة أخرى على صفحة الحياة، اتخذت خالتها درعا لى فقتلتنى..
أشاعت لدى عائلة فيروز بأننى السبب فى مرضها المفاجىء، وأبرزت لهم الورقة، كيف لهم أن يصدقوها؟ لم يكلف أحد نفسه مشقة البحث عن الحقيقة، وهذا ما جعلنى أنزف حتى الآن، كل ما فعلوه أن ذهبوا لمجلس أصحاب القرية، كان مجلسا عرفيا لفض المنازعات بين الأهالى، وانعقدت الجلسة العرفية الأولى ولم يعبأ الجميع لحبيبتى النائمة هناك حيث تنتظر الفَرَج..
انتدب المجلس عرافا لفض محتوى الورقة وإيجاد حلا حاسما للمسألة، اعترضت ورميتهم بالجهل والشعوذة، غضبت ورفلت فى ثورة عارمة، جاء العراف فى الوقت المحدد، ويبدو أنه كان عين الرجل صاحب التعويذة سالفة الذكر، ناقشه أعضاء المجلس فى أمر الورقة، فأخبرهم فى ثبات بأن زوج المسكينة هو المجرم، وقد ذهب إلى دجال للقيام بهذا العمل المشين، وبأنه قبل طرقه باب هذا الجمع قد نجح فى حرق هذا العمل السحري؛ وعليهم فى الحال مهاتفة المستشفى علهم ينعمون بسماع أخبار مبهجة، وهنا هب أحد الأعضاء واقفا وشرع بالخروج، وبعد قليل عاد وأسارير السعادة تتراقص على صفحات وجهه معلنا: لقد أفاقت فيروز..
************
يمسح سمير دموعه المنهمرة بثوب قلبه المكلوم، يلتمس من الموظف أن يسطر بعض الكلمات، يقسم عليه بأن يفعل، همس له قائلا: إنى أحبك يا فيروز ولكننا لم نتفق أبدا يا حبيبتى على الفراق؛ ثم سقط مغشيا عليه ومات ..

محمد جميز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى