منقول - ذكريات رحلة تأبينية لجيكور السياب

وقع نبأ موت الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في 24 كانون اول (ديسمبر) 1964علينا موقع صدمة، وشعرت وزملاء جمعتنا محاولات كتابة الشعر والقصة وقراءة الاعمال الادبية ومشحونون برغبة التغيير والانقلاب على الواقع المعاش حينذاك، شعرنا بالخسارة الفادحة، زادها ما نشرته الصحف العراقية عن ان ثمة ستة اشخاص فقط شاركوا في تشييع جنازة رائد الشعر الحر، وانه مات غريبا، في مستشفى في الكويت. وقال الشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي في مقالة تابينية رقيقة في مجلة الهلال الصادرة حينذاك" لقد مات اعظم شاعر عربي معاصر" ومجد قصيدته الرائعة " انشودة المطر"، لقد الهبت كل تلك الاحداث، وربما عوامل اخرى زادتها، في ان موت الشاعر العظيم يجب ان لايمر دون ضجة، وعلى الناس وبعيدا عن الحكومة ومؤسسة الدولة تأبين شاعرهم الكبير، وربما داخلتها شئ من مشاعر الطفولة الطازجة والرغبة لاجتراح فعل ما، وعدم تفويت حدث كبير الم بالامة وبالوطن ان يمر هكذا، كل ذلك الهمني وصديقي عبدالحسين المالكي الذي كان يكتب الشعر واصبح بعد ذلك مهندسا واحتفظ بشفافيته وروح غذاها الشعر، ان نزور جيكور راس مسقط الشاعر الكبير، التي رسمت قصائده عنها في اذهاننا صورة خيالية، قريبة من ان تكون منطقة الخلاص الابدي حيث السلام والامان والحب الابدي بعيدا عن اليومي الزائل والتصاقا بالمستديم.
لقد لاح لنا حينذاك اننا نقوم بمغامرة من اجل ذكرى شاعرنا، السفرنحن ابناء الرابعة عشرة بمفردنا من مدينة العمارة الكسيحة الى البصرة الميناء الصاخب، ومن ثم ... الى جيكور التي لم نعرف اين تقع بالضبط، سوى انها في ضواحي ابي الخصيب.
وصلنا (أبو الخصيب) بعد منتصف النهار، وبدت لنا المدينة بائسة مثل كل المدن العراقية القاحلة، شارع رئيسي مترب وبيوت من الطين ذات طابق واحد ووجوه متعبة، واقترنت ابو الخصيب في مخيلتنا بثورة الزنج في البصرة حيث انطلقت من هناك شرارتها او كانت احدى بؤرها الرئيسية كما قرأنا في دراسة فيصل السامر الرائعة والوحيدة حينذاك عن ثورة الزنج، ورحنا نسأل عن جيكور موطن بدر شاكر السياب. ولم يعر لنا احد الاهتمام فابناء البلدة نسوا او لم يسمعوا بواحد من افضل مواطنيهم، الذي جلب اسمه، الشهرة والمجد لبلدتهم، لايقل شانا عن شهرة ثورة الزنج. انه الشاعر السياب. لقد نسوا ان القبائل العرببة في غابر الازمنة كانت تقيم الاحتفالات بمولد الشاعر بينها وتروح تفتخر به بين القبائل الاخرى فكيف بك بالسياب الذي كان واحدا من اولئك الذين احدثوا طفرة ونقلة في مسيرة الشعر العربي برمته.
واخيرا تطوع معلم بمرافقتنا الى جيكور. لاح طيبا وكان مخمورا بعض الشئ، قال انه يمت بصلة لعائلة السياب، واشترط ان ندفع عنه اجرة الحافلة التي تقلنا الى جيكور القرية النائية ذهابا وايابا، ولم يكن امامنا سوى خيار الموافقة مع الامتنان له. ولاحت جوانب الطرقات من وراء زجاج نافذة السيارة التي اقلتنا ثرية باللون الاخضر والماء والسماء الزرقاء الصافية، بيد ان الطرقات كانت وعرة وكاننا نعبر طرقا لم يمر بها الانسان، وامتدت قرى وبيوت تفوح من جوانبها رائحة الفقر والعوز وانها تئن من شظف العيش وغياب العدالة ومن الاهمال.
صدمتنا جيكور التي سيقول فيها السياب:
جيكور، جيكور: اين الخبز والماء؟
الليل وافى وقد نام الادلاء
والركب سهران من جوع ومن عطش
والريح صر وكل الافق اصداء
بيداء ما مداها ما يبين به
درب لنا وسماء الليل عمياء
جيكور مدي لنا بابا فندخله
او سامرينا بنجم فيه اضواء
غابة غير متناهية من النخيل. ورحنا نسير في دروب ضيقة بينها حتى بلغنا بيوت عائلة السياب. " خرائب فانزع الابواب عنها تغدو اطلالا" كما سيقول عنها السياب بعد ان يصبح شاعرا كبيرا. وشاهدنا البيت حيث ولد السياب. قلعة كبيرة، لايمكن ان تفتخر بمزاباها المعمارية. انه باحة كبيرة تحتوي على غرف، مما يوحي ان عائلة السياب كانت كبيرة ومعروفة في المنطقة.
واشار لنا المعلم الى شباك في بيت مقابل وقال انه " شباك وفيقة":
شباك وفيقة في القرية
نشوان يطل على الساحة
كجليل تنتظر المشية
وينشر الواحة
ابكار يسمح بالشمس
ريشات النسر وينطلق
وذهب بنا الى نهر بويب، الذي ارتسم في اذهاننا من خلال قصائد السياب عنه بانه يعبر عن الخلود ومصدر الديمومة ونضارة الحياة. وكما كانت خيبة الامل انه جغرافيا بعيد عن الصورة الشعرية التي اضفاها السياب عليه. فبدا لنا ساقية طويلة تخترق غابات النخيل ولكن ماءها جار وحيوي، اذن فهو ماء الحياة. ولماذا سمي بويب؟ ومن اين ياتي بمائه؟ لم تبد تلك الاسئلة لنا بانها اسئلة حيوية، لاننا نتعامل مع نص شعري لاجغرافي:
اليك بابويب
يانهري الحزين كالمطر
اود لو عدوت في الظلام
اشد قبضتي تحملان شوق عام
في كل اصبع كاني احمل النذور
اليك من قمح ومن زهور
وتجولنا في غابة النخيل اللامتناهية، كانت " الريح تسف" كما يقول السياب، وتميل كل نخلة بهدوء كانها تلامس جارتها فينشأ حفيف رقيق وشفاف ليخلق همسا متواصلا، ولغة لا يمكن ادراكها الا بالحس والشعور الداخلي. انها لغة الروح. وحينها خطر لي، من اجل ان تفهم السياب عليك زيارة هذه الانحاء، وان شخصا كالسياب لابد من ان يخلق شاعرا بفضلها. وهناك في تلك الاصقاع النائية والبدائية تعثر على قاموس السياب الشعري، ومنها مصدر قصيدته.
ولم يجب المعلم الكريم على اسئلة كثيرة كانت تلح علينا عن شخصية السياب، كانسان وكشاعر، ولذلك اكتفى بان اعطانا عنوان ابن عمه وصديق طفولته وشبابه (مع شديد الاسف نسيت الان اسمه) الذي دعانا بكرم لزيارته في منطقة الونبي الصغيرفي البصرة.
وقبل ان نتوجه الى زيارته، قررنا ان نضع اكليلا من الزهور على قبر الشاعر الكبير الكائن في مقبرة الزبير. ومع شديد الاسف، لم نشهد حينها ان قبر السياب الكبير كان يتميز عن القبور الاخرى بلوحة او رقيم، لتضفي على القبر ما يليق بمكانة نزيله في الثقافة العربية والعراقية، ووضعنا الإكليل المتواضع ونحن نشعر بالغصة.
وراح يحدثنا ابن عمه الرجل الوقور بود وحب واسى عميق عن السياب، الذي كان قريبا له ومحبا له كشاعر كبير. فالسياب كأي شخصية مبدعة عبقرية كان موهوبا في العديد من المجالات، وخاصة برقة احساسة. واتذكر انه خص منها ان بدرا كان عازفا ماهرا على الناي، وانه كان يرسم وله ذوق لغوي رفيع ومتوفقا في الدراسة وامتاز دائما عن اقرانه. وضمن ردوده على اسئلتنا قال ان السياب لم يترك مذكرات او يوميات نثرية خاصة، وبقناعته فان مذكرات السياب او سيرته الذاتية الحقة، هي قصائده. وصدق فيما قال. وعن التقلبات السياسية التي اشتهر السياب بها فان السياب كان حساسا ورقيقا ومن السهولة التاثير عليه لذلك نراه والحديث لابن عمه، انتقل من انتمائه الشيوعي الى قومي ومن ثم تعاون مع مؤسسة الثقافة الحرة الاميركية مما اثار اللغط غير العادل حوله، وتحدث باسف بالغ عن ظروف دفن وتشييع السياب، ناهيك عن العدد القليل الذي رافق جنازته. وحدثنا عن ان مدير عام الموانئ العراقية الذي كان مقره في البصرة مزهر الشاوي، قد امر حال نبا موت السياب عائلته المكونة من زوجته اقبال ونجله ابن الستة اعوام حينذاك غيلان، اخلاء البيت الذي كانوا يسكنوه العائد لادارة الموانئ. فالسياب كان محسوبا موظفا في مديرية الموانئ. وافاد بان الشرطة حضرت مساء يوم التشييع واخلت البيت بالقوة، ورمت باثاث عائلة الشاعر بلا رحمة على قارعة الطريق فاضطرت عقيلته وطفلها الانتقال الى بيت اخيها. واعطانا عنوان اخ عقيلة السياب اقبال التي كانت تسكن عند اخيها، لزيارتهم.
ورغم ان اخ اقبال، استقبلنا بترحاب، الا انه ابلغنا باستحالة الالتقاء بها، لعدم مرور 40 يوما على موت " بعلها" السياب. واعتذر ايضا عن ان ينظم لقاء مع نجل السياب "غيلان" الذي ذهب توا الى المدرسة الابتدائية، وفسر ذلك بان العائلة لم تبلغ الطفل بموت ابيه وقالت له ان اباه في سفر، وان التقاءه بغرباء سوف يثير شكوكه.
استقبلنا كل ذلك بتفهم. واكتفينا بالحديث عن السياب وعلاقاته العائلية وعلاقته بزوجته "اقبال" التي صدر ديوانه الاخير باسمها وكتب اخوها هذا مقدمته.
بعد فترة من عودتنا الى العمارة وصلتنا رسالة رقيقة بخط تلميذ الصف الاول ابتدائي غيلان، يعرب فيها عن امتنانه لزيارتنا له ورغبتنا في التقائه واسفه انه كان حينها قد اوى الى فراشه.
هكذا يعيش الشعراء بيننا، وهكذا تتعاطى مجتمعاتنا مع شعرائها، وليس معهم وحسب، ناسية ان الشاعر الكبير ظاهرة سحرية لاتتكرر وكنز لايمكن التفريط به هكذا، فهل يمكن القول انها مجتمعات حية، طامحة لمستقبل افضل، وقابلة للصعود على سلم التطور والارتقاء. التعامل مع السياب عندما كان على قيد الحياة وميتا كان اشارة خطر، فهل نستفيق؟
اين ابي وامي... اين جدي واين ابائي
لقد كتبوا اساميهم على الماء
ولست براغب حتى بخط اسمي على الماء
وداعا ياصحابي يا احبائي
اذا ما ما شئتموا ان تذكروني فاذكروني ذات قمراء
والا فهو محض اسم تبدد بين اسماء
وداعا يا احبائي
أعلى