استغاثة من نجيب سرور إلى يوسف إدريس

الصديق والكاتب الكبير يوسف إدريس، مع حفظ الألقاب، يعلم جيداً مدى إعجابي به وحبي له. ولعله يذكر تلك الجلسة التي جمعتنا ذات مساء في "أتيليه القاهرة"، وجرؤ أحد الصعاليك على أن يتطاول على يوسف إدريس. كان واضحاً أن الأخير مستاءٌ داخلياً إلى درجة كبيرة، وان كان قد فضل الصمت بما عرف عنه من أدب ورقة، ولم أتحمل أنا تلك الإشارات إلى "يوسف إدريس"، ومن ذلك الصعلوك المتردد على المقاهي والنوادي، ولا علاقة له بالأدب أو بالثقافة ولا بأي شيء، كأنه يسير على قاعدة إذا لم تستطع أن تكون عظيماً فلتحترف التطاول على العظماء. وأنا قرأت كل يوسف إدريس مرات ومرات، ولا أحتفي في حياتي بشيء (وأعترف) كما أحتفي بمجموعة قصصية جديدة تصدر ليوسف إدريس، كما لا يسعدني شيء مثل أن تضمني وإياه جلسة، إنه حين يكتب قصة يصبح مقاتلاً شرساً من الدرجة الأولى. إنه هنا شاعر وناقد وفنان تفوق بصيرته بصائر الشعراء والنقاد والفنانين. هنا يخوض فارس ورائد وقمة القصة القصيرة العربية في مصر، أقول يخوض فيما يعنيه، ويجول في ميدانه ويحارب بأسلحته التي يجيد استخدامها بعبقرية فذة.

ولكن المصيبة أن الصديق يوسف إدريس مولع أحياناً بالتخلي عن أسلحته لكي يفقد طريقه أو تتخبط به الطريق أو يفقد مهارته أو يخنق عبقريته، وهو يفعل هذا كثيراً، إما تطوعاً أحياناً وإما تحت ضغط واجبات الوظيفة أحيانا أخرى، أو ربما لسبب غير مفهوم إلا في التركيبة النفسية لكاتبنا الكبير. قصدت أن أشير بذلك إلى ما يكتبه هذه الأيام وفي جريدة الأهرام خاصة، وفي المجلات العربية عامة. هنا مرة ثانية يتخلى عادة عن نفسه وعن عبقريته وعن ميدانه وعن أسلحته ليمسك بأسلحة وهمية أو دمى خشبية يلعب بها لعب الأطفال أو لعب الشهيد دون كيخوت.

أبدا لم تستطع أي سلطة أن تعبث بيوسف إدريس القصاص الكبير، فهو هنا أقوى ما يكون، إنه فوق السلطة بكل أنواعها، ولكن السلطة تعبث به وبكل مقدساته الممثلة فيه حين يفقد طريقه، وهو لا يفقد طريقه إلا حين يحارب بأسلحة لا يجيد استعمالها، وهي كتابة المقالات، فكتابة المقالات فن آخر له كتابه من الصعاليك وغير الصعاليك. أما أحدا فلا يستطيع أن يفوق يوسف إدريس أو يبارزه بسلاحه ككاتب قصة، أما حين ينقلب إلى طفل كبير فإنه كما قلت أصبح كمن يلعب بسيف خشبي. ويبدو أن غريزة لعينة باطنة .. كالأمراض المستوطنة في أعماق النفس المصرية هي ذلك الضعف الذي يكاد يكون أنثويا إزاء السلطة من قريب أو بعيد ..!!

فحتى عبقرية فذة غلابة تحتفي "باقة زهور" تهدى إليه وهو مريض في المستشفى، فيكتب ثمنا لهذه الباقة مقالا في الشكر والحمد! باقة زهر ماذا يا دكتور؟ حتى لو جاءت من زوجة قيصر أو كسرى. لقد زرناك في المستشفى ولم يكن أحدنا يملك ثمن باقة زهر تماما مثل الملايين من المعجبين بك والذين تعيش في قلوبهم في مصر وفي جميع أنحاء الوطن العربي.. باقة زهر ماذا يا دكتور؟ ولو ملكنا وملكت الملايين لفرشنا تحت أقدامك الورود والرياحين، يا رجل إنك ملء العين، ملء القلب، ولكننا جميعا مثلك أسرى إلا أننا لا نتخلى عن أسلحتنا لنمسك بالأسلحة الخشبية لأننا لا نحب أن نكون أطفالا..

لست صادقاً

ثم هناك مقالك المنشور في مجلة "الدوحة" تعليقا على محاولات تجريحك من الصعاليك المرتزقة جرذان الصحافة في مصر، وهو بعنوان "تعليق على حفلة تجريح"، المنشور في عدد نوفمبر 1977 من مجلة الدوحة، وفيه مرة ثانية من عشرات المرات تتخلى عن سلاحك لتقع في الغيبوبة والتخبط، وتجرنا معك إلى هذا التخبط، مع أننا نعلق عليك الآمال باعتبارك، ـ كما وصفتك مرة ـ "هرمنا الرابع". تقول في المقال المذكور" ..فأنا لا أحس بأن لي نفسا أو وجودا محددا واضحا أستطيع أن أسميه "أنا"..بل لا أحب هذه الأنا ولا أكرهها لأني ببساطة لا أعرفها وما رحلتي إن كانت لي رحلة إلا للعثور على.. إلا لكي أضبط نفسي ذات مرة متلبسا بنفسي ـ بوجود محدد. إنها مشكلة، مشكلتي هذه الأنا.. إنني أحسد هؤلاء الناس الذين يبدون لي أنهم بالضبط ما يريدون، وما يعرفون وما يقولون وما يفعلون. كائنات تتمتع بالأبعاد الأربعة للقياس: الوزن والحجم والشكل والزمن. ولا أنا حتى ذرة هباء مجهولة الجنين في واحد من أفلاك هذا الكون. فأحيانا أحس بأنني الكون كله وأحيانا أحس أني خارجه تماما، وأحيانا أحس أني معدوم الوجود إلى زمن غير محدود".

يا رجل! أولا أنت هنا لست صادقا مع نفسك وأنت تعلم ذلك، إنك لا تكتب هناك نوعا من "الاعترافات" أو السيرة الذاتية إنما تكتب مجرد خاطرة وردت عليك في لحظة يأس أو تعب أو ما إلى ذلك، ولكن هذا بالضبط ما (لا) نتوقعه منك. ومثل هذه الخواطر بالذات هي التي يجب أن نتجنبها، لا لأن الإنسان لا يضعف وييأس ويضيق بوجوده كله أحيانا، ومن منا يخلو من لحظات ضعف عابرة؟ لكن ليس من حقنا أن نعمم أو نؤبد تلك اللحظات العابرة بأن نجعل منها قانونا ولكن مهمتك أشق وأقسى فأنت يوسف إدريس، والملايين من أحبائك يصرون على أن يروك في الصورة التي تجمع ملامحها أعمالك منذ مشرق "أرخص ليالي" حتى "بيت من لحم". ما ذنبهم في أنهم اعتبروك وما زالوا يعتبرونك منبعا من منابع الأمل والصمود والمقاومة مهما كانت الأسباب.

أحقا أنك لا تحس بنفسك ولا تعرف لك "أنا"! إذن ماذا نفعل نحن زملاؤك منذ مطلع الخمسينيات حتى كتابة هذه السطور، فما أفجع إذن الأسى الذي يحسه قراؤك على مدى الثلاثين عاما، ثم تقول: ماذا يهم إنسانا كهذا إن كرمه أحد أو لم يكرمه، إن كان عمره خمسين أو لحظة زمن، بما يوحي بأن شيئا لم يعد يهمك.. وتقول للصديق رجاء النقاش: هون عليك يا صديقي رجاء ولا تحزن وأنت من أعظم النقاد، فأنت الآخر لم يكرمك أحد ولم تتلق إلا الصفعات والمنغصات. فلو كنا نحيا حتى في أرقى الدول التي تفخر بكتابها وفنانيها، أكان يهمنا أن يكون هناك فرق أو لا فرق.. تكريم أو لا تكريم! إن الذي يكتب ليكون كاتبا عظيما هو نصاب عظيم، أما الذي يكتب لأن آخر شيء يريده أن يكون كاتبا وأن يعامله الناس على أنه كاتب فهو إنسان لا حيلة له في أن يكون أو لا يكون، يبدع أو لا يبدع.

أنت ونجيب محفوظ

المصيبة يا عزيزي الدكتور أنك هنا أيضا غير صادق مع نفسك! والمصيبة أنك تعرف من أنت وتعرف أن لك دورا محددا ووجودا محددا وتعرف أنك تستحق من التكريم والتقدير الكثير وما فوق الكثير!.. ولكن دعنا نتساءل لحظة وبصدق: أي تكريم يا رجل؟! وأين؟! وممن؟! التكريم في عصر الصحافة الجرذانية؟ وفي مصر؟! من السلطة التي ذبحت أو ما تزال تذبح كل قلم شريف؟! وكيف تطمح من مثل هذه السلطة إلى تكريم، فإذا لم تنل منه شيئا حزنت وأغرقت نفسك حتى في....(1) الفلكية وأغرقتنا معك؟! ثم تخيل أنك نلت حظا من هذا التكريم "المعرص" ـ التكريم "الرسمي" أقصد ـ فهل ستكون سعيدا راضيا متفائلا وأنت فوق كل سلطة.

فكر جيدا .. كما تفكر وأنت تصوب صواريخك القصية مثل تشيخوف!.. إنك مهما تباكيت ومهما كتبت من مقالات تظل في نظرهم كاتب القصة أو القصص أو المجموعات القصصية: المقاتل الشرس، الخصم الصعب المراس، العدو اللدود الذي "لا يوثق به" أو الوحش الذي يستحيل ترويضه أو استئناسه أو امتطاؤه، وهم ـ وصدقني أرجوك ـ يحاولون ـ وبجميع الصور الخبيثة والوسائل الحربائية ـ أن يمتطوك وأن يجردوك من سلاحك ليدفعوا بك إلى خدمة الحريم السلطاني! حتى صورة "باقة من الزهور" ملآى بالأفاعي: إنك لن تنال منهم أكثر من هذه الباقة كلما أشفيت على الموت وستظل دائما بعيداً.. وعمداً، من ثمن حفلات التكريم ومن جوائز الدولة التقديرية ـ حسبك مجرد باقات من الزهور هي ....(2) ذنوب القوم ـ طالما يوسف إدريس هو يوسف إدريس: الرجل، الكاتب، زعيم ومعلم..الأغلبية ..القصصية، الذي يعرف وجوده ويعرف دوره ومهمته التاريخية! الرجل الذي لم يعد ملكا لنفسه بحق بل أصبح ملكا للتراث وملكا للملايين وملكا للتاريخ!..


يا عزيزي يوسف:

أي تكريم بعد أن تم ذبح فرسان الكلمة على مدى ثلاثين عاماً؟! وبعد فرض الحصار على فرسان آخرين اختفوا أو ماتوا غيظاً وقهراً أو جنُّوا أو انتحروا؟! وبعد أن حرم على الخيول الصهيل وقطعوا الرقاب وسوق بعضها وشدوا اللجم إلى بعضها فلم يعد لها إلا أن تمضغ حديد الشكا على حد قول الشاعر المعلم أبي العلاء:

واسروا على الخيل العتـاق واصمتوا = نواطقهـــا ألا تحمحم هـــائب
وشد لســان الطرف خوف صهيله = فقد الجمـوا أفــواهها بالسبــائب

ألم يخطر لك ونحن معا نكتب في مجلة "الدوحة" أن تقرأ واحداً فقط من مقالاتي عن "أبي العلاء" لتعلم أنني في الواقع إنما أكتب عن جيلنا ـ جيل الخمسينات والستينات والسبعينات وربما عنك أنت بالذات؟!

ما علينا ـ لنعد إلى ما كنا فيه!

المصيبة أيضا هي أنك تعي وتفهم وتعلم جيداً الأسباب الكامنة وراء "الظواهر" المتناقضة والوحدة التي تجمعها في وقت واحد إلى آخره .. فلحساب من تحاول أن توهمها بأن لا شيء يساوي أى شيء، وبأن لا فرق بين أي شيء وأي شيء، حتى ذلك الذي يكتب ليكون كاتبا عظيما هو نصاب عظيم..

لا يا عزيزي يوسف فأنت كاتب عظيم.. ونعم يا عزيزي يوسف إذا كنت تعني الجرذان في العصر الجرذاني وفي الصحافة الجرذانية!.. لن تستطيع هذه الجرذان الطوفانية أن تقتضم كعبا لغلاف هرمك القصصي يوما وحتما سيأتي صاحب المزمار الشهير ليجرها واحدا واحدا من الساحات والجحور والشطآن إلى البحر، ومن الخليج إلى المحيط.. ويومها تمجد الجماهير اسمك وتهتف لك.

أتشك يا عزيزي يوسف؟

أهو حلم طوباوي لشاعر أو لشعراء؟! لا.. إنه حقيقة نراها رأي العين والقلب.. إن هذا الحلم أقرب إلينا من مطلع الفجر من أجله نعيش.. ومن أجله نموت! وإلا فلتذهب دماء موتانا عبثاً ومجاناً وسدى ولتستو الظلمات والنور والذئاب والحملان والأفراخ والثعابين!

وتقول: إنك جربت الموت مرة.. فمن منا نحن أبناء الخمسينات لم يجربه مراراً؟!.. أنت تعلم كم ومن؟ وهناك آخرون كثيرون لم يكتب تاريخهم بعد!

وعلى أن أسوأ وسائل "الاغتيال" هي "مؤامرات الصمت والتجاهل" التي تُضرب حول هذا الكاتب أو ذاك وخصوصا حين يكون عبقرية فذة كيوسف إدريس؟! وما أكثر من طاردتهم مؤامرات الصمت هذه ضد من صمد. وتخاذل واستسلم من تخاذل واستسلم، ولاذ بالخرس من لاذ، وألقى بالقلم من بين يديه وهو حسير أو غير حسير، وانقلب البعض إلى مجرد خونة أو ذيول أو دعاة انهزامية أو استسلام أو إلى مجرد جرذان في الصحافة.

أم أنك تريد أن تنال من التكريم والتقدير مثل ما نال نجيب محفوظ ؟!.. لا يا يوسف إنك فوق نجيب محفوظ !!

ثم أنت تعلم لماذا وكيف حصل نجيب محفوظ على هذا التقدير وذلك التكريم!.. ومهما قيل عن "ثورية" نجيب محفوظ فهو لم ولن يكون أبدا ثائراً، وأنت ثائر من الرأس حتى القدمين ـ وهذا قدرك. ومهما قيل عن عالم نجيب محفوظ فسيظل عالماً محدوداً دائماً في حدود الطبقة الوسطى أما عالمك فلا تحده حدود.. إن عالمك هو كل العالم!.. ثم إن نجيب محفوظ هو القمة ككاتب الطبقة الوسطى المصرية المستعدة دائما لخدمة أية سلطة تركب السلطة في أي عهد وأي نظام. أما أنت فكاتب الجماهير والملايين!

ثم إن "نجيب محفوظ" محايد ورمادي ولا مبال ـ أو هكذا يدّعي مع أنه في الداخل منتم إلى أعمق أعماق الانتماء إلى السلطة الحاكمة مهما كانت نوعية السلطة.. أما أنت كما قلت سابقاً فخصم للسلطة مهما كانت نوعيتها!

وأخيرا نجيب محفوظ مثال للموظف المصري الروتيني البيروقراطي اللعين، أما أنت فمثال الكاتب الثائر.. أيمكن إذن يا عزيزي يوسف أن تنال جوائز التقدير والتكريم؟!

إننا ـ على العكس ـ نتمنى لك أن يعفوك من تلك الجوائز الملوثة، والتي يوشكون أن يعطوها حتى للمطرب المنتشر أحمد عدويه صاحب أغنية آخر زمن وآخر "موضة": " كله على كله / ولما تشوفه قول له / هوه فاكرنا مين / داحنا معلمين"! لذلك نتمنى لك هذا الإعفاء مستلهمين صوت أبي العلاء:

توجتني الفتـْيـا.. فتوِّجْني = تاجاً بإعفـائي من التتويج!

يوم أخذتك الجلالة

كنت أرجو أن يتسع النطاق لمراجعتك في مقالك الشهير القريب: "إني أتهم وأريد أن أنتقم"، ذلك الذي كتبته يوم أن أخذتك "الجلالة" في ضجة الجنازة "الحارة"، وهو أسوأ ما كتبت في حياتك دون استثناء وأكثرها عشوائية.. ولا أشك في أنك خسرت به كثيرا وكثيرين! فقد جعلت من الخونة أبطالا ومن الأبطال خونة ومن الشهداء قتلة، ومن القتلة شهداء!

ومن كهنة السلطة طوال ثلاثين عاما فرسانا ومن الفرسان كهنة! حتى ليصدق عليك قول بديع الزمان الهمذاني: "فكم رأينا الشمال هبت جنوباً، ووجدنا الخير قد صح مقلوباً، وسمعنا بالقاتل فوجدناه قتيلا"!

وهكذا تورطت في موقف مقلوب في "إنسانية" معكوسة، وجعلت من الأخوة أعداء ومن الأعداء أخوة، ورحت تعرض خدماتك الانتقامية تماماً كما عرض الصهاينة الذئاب خدماتهم، ووقفت بحسن نية مع "مناحم بيجن" على مستوى واحد. هو على مستوى عنصري، وأنت على مستوى شوفيني!

ما أقرب الموقعين!

أم أننا شعب طيب القلب وعبيط وأبله وسريع النسيان؟! لا يمكن ... لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون الأمر كذلك! ويبدو أن أجهزة الإعلام استطاعت أن تخدعك أو استطاعت أن تستثمر فيك "مصريتك"، وأن تنشر أمامك الذئاب والضباب والظلمة رغم أنك تملك كفاءة عيني الصقر حوريس! فرحت تخلط بين الأعداء "الحقيقيين" والأصدقاء "الحقيقيين"!

هون عليك يا رجل! لا يكفي أن يكون القتيل "مصريا"، فهناك قتلة "مصريون" كثيرون!

ولا يكفي أن يكون القاتل "غير مصري"، حتى أصب عليه اللعنة، فهناك كثيرون "غير مصريون" وغير قتلة.

وإذا صح ـ وهو صحيح ـ أن العروبة لا تقوم ولا تنتصر إلا بمصر، فالصحيح أيضا أن مصر لا تقوم إلا بالعروبة ولا تنتصر إلا بها.. هذا قدرها، ولهذا قال أبو العلاء:

إذا نال من مصر قضـاء نـازل = فمصير هذا الخلق شـرُّ مصيـر

وقال:

تتوى الملوك ومصر في تغيـيرهم = مصر على العهد والأحساء أحساء

يا عزيزي يوسف...

لقد نال القضاء من مصر ما لم يحدث له مثيل في تاريخها الطويل.. وخصوصاً في السنوات الأخيرة!.. وليس من يدافع عن شرف مصر، داسوا كل العهود والمواثيق وزرعوا الانهزامية والاستسلام والهروبية.

أقول ليس من يفعل هذا بالقاتل ولا الإرهابي! كيف للصقور أن تفقد الرؤية وتفقد الطريق وتفقد الهدف؟! إننا نواجه عدواً عنصرياً، فباسم الإنسانية غير المقلوبة.. باسم العدل غير المقلوب.. ستكون ألعن من العنصرية إلى أن ندفن العنصرية في البحر أو في الصحاري، وهنا أهديك هذه الرباعية من ديواني الأخير:

عنصري أنا حقـاً يا زعيمي = طـالما نحفر قبر العنصرية
فمن الغفلة أن ألقـى غريمي = بشريـاً وهو ذئب البشريـة

لا يا عزيزي يوسف.. لكم دينكم ولي دين!.. ثم ما رأيك الآن بعد مذابح جنوب لبنان؟! ما رأيك في قتل الأطفال والنساء والعزل.. ما رأيك في محاولات الإبادة للبقية الباقية من شعب كامل عريق وشقيق؟ من يكتب عن هذه الملحمة.. هذه التراجيديا الدامية سواك؟! من الإرهابيون ومن الفدائيون؟ إنهم يحاربون ويقاومون ويجب أن يفعلوا حتى آخر فلسطيني، وآخر قطرة دم فلسطينية!!

مستشفيات المجانين

وتقول بأنك جربت الموت مرة وأنت تعالج في لندن، وهناك ـ من أبناء الخمسينات والستينات والسبعينات ـ من جرب الموت مئات المرات. ثم أنت تعلم أنني جربته مراراً حتى مات في الموت! بل ولابد أنك قرأت نعيي وأنا حيّ لا أرزق في روز أليوسف، ثم في صحف لبنان الحبيب. لقد تلقفوني فور عودتي من دمشق وأرسلوني.. لكن مهلاً، ليس في معتقل من المعتقلات الحكومية المعروفة والمزدحمة بالنزلاء، وإنما في مستشفيات المجانين، مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية!!

وهناك قسم سري ـ قسم أول ـ مارسوا معي أحدث أفانين ووسائل التعذيب!.. وكان معي طلاب في الجامعة، وأوائل الثانوية العامة، وعمال في مصانع النسيج، وأساتذة في الجامعة، ومهندسون، وفلاحون، وعلماء ذرة منهم الدكتور إمام أستاذ الذرة بجامعة الإسكندرية. ولا أدري لماذا كان يثق بي ويستريح لي، هو الذي كان يشك حتى في نفسه، ويقول إنه ـ وهو بالولايات المتحدة ـ رفض عقود عمل هائلة وخيالية وعروضاً جهنمية وعاد إلى الوطن، لأنه يحب بلاده ويريد أن يضع علمه وخبرته في خدمة بلاده، ولأن تلك العروض صهيونية، ولأن وطنه في خطر، ولأن عدونا قوي وأخطبوطي وأن الأمر بالمعكوس أو المقلوب. ليست أميركا هي التي تحكم الصهيونية، وإنما الصهيونية هي التي تحكم أميركا والدول الغربية عامة. ولأننا ضعاف، ولأن ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، ولأن المراد لشعب فلسطين وللأمة العربية جمعاء أن تنتهي إلى مصير شعوب الهنود الحمر، ما لم تتداركنا رحمة الله وقدرتنا الذاتية! وكان يرجوني أن أظل ساهراً بجواره حتى يظفر بساعة من النوم، إذ يحتمل أن يجيء الزبانية في أي ساعة ويأخذوه ليفعلوا به ليلاً ما فعلوه بالنهار. وكان يلمح كثيراً إلى أن الصهاينة حاولوا قتله في أميركا خاصة وفي الدول العربية عامة. ويؤكد أن "على مصطفى مشرفة" زميل "آينشتين" ونده مات مسموماً، وكذلك عالم الآثار الكبير "الدكتور سليم حسن"، وهذا هو مصير أية طاقة وأية موهبة وأية عبقرية في مصر خاصة وفي الوطن العربي الكبير عامة ومن النيل إلى الفرات.

يا عزيزي يوسف:

أنا على يقين من أنهم نجحوا في تدمير عقل "الدكتور إمام"، ولكني لست على يقين من أنه حي أو ميت ولكن ما الفرق؟! أتذكر سؤالك لي وأنا في بيتك بالمنيرة، وأنت من كتاب "الغد" وأنا أبدأ خطواتي الشعرية والنقدية في "الآداب" اللبنانية، وكنا في مطلع الخمسينات:

أنت: لماذا نحن بلد الرجل الواحد.. والعمل الواحد؟

أنا: لم أفهم!

أنت: لماذا نبدأ نحن جميعاً وفي أي مجال ومن أي موقع مشعين ولا معين ومبدعين.. ثم ننطفئ فجأة ونختفي؟!

هاهو الدكتور إمام قد أجابك على السؤال القديم.

المهم أنني أتذكر دائماً قول الدكتور إمام من "بروتوكولات حكماء صهيون": "ولسوف نطرد أي ذكاء يهودي من الأرض"، يقصدون أرض الميعاد.. من النيل إلى الفرات! ويؤكد هذا ما حدث وما يزال يحدث من الخليج إلى المحيط! وكان يذكر قول عبد الناصر: "إن الشر الذي وضع في قلب العالم العربي لابد أن يقتلع". وقول وايزمن: "إن يهوديتنا وصهيونيتنا متلازمتان متلاصقتان، ولا يمكن تدمير الصهيونية بدون تدمير اليهودية"!

ويقول (الدكتور إمام): إلى متى نظل طيبين، متسامحين، مسالمين، إلى متى ننسى ونغفر؟! إن هذا هو الانتحار بعينه، بل الجنون! ثم لقد كان يلمح بخجل إلى أنهم هتكوا عرضه على طريقة "العسكري الأسود" إياها، وأنهم أجبروه مراراً على أن يكتب تقارير عن تلامذته وزملائه.. و.. و... وكان يقول دائماً: إن اليهود لم يخرجوا أبدا من مصر. إنهم هنا.. في داخلنا في جميع الطبقات وجميع الحرف وجميع العقائد والملل والنحل وجميع المذاهب والأحزاب والجمعيات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ومن يسار اليمين إلى يمين ووسط اليسار، وما شئت فقل إنهم في جميع الجنسيات والأشكال والألوان والأصباغ والمساحيق، إنهم هذا الخليط العجيب المذهل من المهجنين والمولدين أو على حد تعبيرك "المخططين".


(3)

إنهم هم الذين مرغوا أنف "عبد الناصر" في تراب هزيمة الخامس من يونيو (حزيران)، وسحبوا الأرض من تحت قدميه وأذلوا الكبرياء المصري الذي هو الكبرياء العربي. إنهم قتلة "عبد المنعم رياض"، العبقرية العسكرية النادرة. أو تذكر الشائعات التي ترددت يوم الخامس من يونيو وما بعده من أن كثيرين من المصريين الحقيقيين كانوا يقتلون من الخلف لا من أمام، ومن اليهود والمهودين الواقفين معهم في نفس الخندق محسوبين على مصر وجيش مصر وعبد الناصر.

كما أتذكر الآن قولة "طيب الذكر" "محمد حسنين هيكل" من أن الرصاصة لم تكن في حرب اليمن لتخطئ رأس مصري!.. المفروض أن الجيش كله مصري، ولكن هذا يعني بمفهوم المخالفة أن الرصاص كان يخطئ رأس غير المصري! أليس كذلك؟!

ثم تذكرت أن واحداً من أول القرارات التي أصدرها "عبد الناصر" هو القرار بإغلاق جميع "المحافل" الماسونية، ولكن الماسونية ـ بهذه الطريقة لا يمكن أن تغلق بقرار وهي التنظيم السري لليهود منذ أقدم العصور، ومنها "جمعية شهود يهوا" تمرح علناً في مصر والوطن العربي كله وتصدر نشرتها وتواصل خطف وقنص الذكاء المصري والعربي!.. وعلى هذا الضوء دعني أتساءل وخاصة مع الفقر والجهل والمرض وأعلى نسبة وفيات في العالم بين المواليد ـ بعد الهند ـ ثم الحروب منذ 48 حتى 1977.. كيف أصبحنا أكثر من أربعين مليوناً؟ ثم كم عدد المصريين حقيقة؟ إنهم لا يمكن أن يزيدوا وبأي منطق عن سبعة ملايين! من الباقون إذن؟! ثم كم هو عدد العرب حقيقة؟! أحقا مائة مليون؟! دعني أضحك وأبكي! .. سيان فشرُّ البلية ما يضحك! وألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر!

إذن كانت حرب اليمن لاستنزاف دماء المصريين تمهيداً للإجهاز عليهم بهزيمة الخامس من يونيو. وأتذكر الآن الشائعات التي ترددت من أن عبد الناصر مات مسموماً.. وأننا أبناء عبد الناصر... وهذا هو السبب إذن فيما تعرضنا له من عذابات!! ولهذا إذن يدمر عقل الدكتور "إمام" بينما الصهاينة اليهود والمهودون والماسونيون والنازيون يضحكون علينا وعلى "عبد الناصر" بصاروخ "الظافر" و"القاهر"، وأتذكر قول الدكتور "إمام" من "بروتوكولات حكماء صهيون": والأقواس من وضعي: لسنا في حاجة إلى ما يحيط بنا من بلاد الأعداء (أي نحن ومن النيل إلى الفرات) لأكثر من ثلاثة أشياء:

جيش ضخم (أي مجرد ديكور للتشريعات)!
طبقة من الصعاليك (أي من الأغنياء والمترفين وعشاق السلطة وخدامها وأتباعها)!
وبوليس مخلص في تنفيذ أغراضنا!!

هكذا ولهذا تعذبنا عذاب المسيح! المهم أنني خرجت من مستشفى الأمراض العقلية بمعجزة حطاماً أو كالحطام! خرجت إلى الشارع.. إلى الجوع والعري والتشرد والبطالة والضياع وإلى الضرب في جميع أقسام البوليس المخلص في تنفيذ أغراض الأعداء والمحسوب علينا من المصريين أو نحن العرب! خرجت أدور وأدور كالكلب المطارد بلا مأوى، بلا طفليّ وزوجتي.. وظللت مجمداً محاصراً موقوفاً. وبعيدا عن مجالات نشاطي كمؤلف مسرحي ومخرج وممثل، وبعيدا عن ميادين النشر كشاعر وناقد وزجال ومؤلف أغان.

ثم وجدتني فجأة في مستشفى الأمراض العقلية للمرة الثانية، وبلغ مجموع المدد التي قضيتها في مستشفيات الأمراض العقلية حتى مستشفى "بهمان" اليهودي النازي أربع سنوات ونصفا! اذكروا "إسماعيل المهدوي" الذي تم تدميره فعلاً.. وعشرات ومئات المآسي والملاهي والقصص والغصص وشنق "خميس" و"البقري" إلخ، ليس لها إلا قلمك الصقر!

لا تكتب يا يوسف

ولك مني يا عزيزي يوسف مواقف مشرفة وكريمة في سنوات التشرد، ولك على يد أخرى كريمة يوم أنقذت حياة ابني الأكبر "شهدي"، ونحن لا نملك ثمن رضعة الوليد الصغير فريد! فاقبل من محب لك هذه الكلمات وتقبلها بحب مهما كان فيها مما قد يضايقك!

ومن أجلك ومن أجلي، ومن أجل الملايين من قرائك ومحبيك أرجوك منذ الآن ألا تكتب أية مقالات في أية مناسبة مهما كانت الدوافع طيبة والنية حسنة والموضوع لا يقاوم.. ولا في أية مناسبة، لا تطوعاً ولا تحت ضغط التزامات الوظيفة في "الأهرام" ولا في لحظة يأس أو تعب عابرة ولا اندماجاً في مأتم ولا انخراطاً في عرس. أجدى من ذلك وأقيم وأبقى على الزمن أن تفرغ ما بنفسك في قصة!

إنك حين تكتب قصة تحاسب نفسك حساباً شديداً وتراقبها مراقبة قاسية وتشعر بثقل المسئولية عن كل كلمة وكل حرف، أما حين تكتب مقالة فأنت كثيرا ما تقول بلا أدنى شعور بالمسئولية! وما هكذا شأن الكاتب الكبير العظيم وأنت كبير وعظيم! فإذا كنت مصاباً "بداء" المقالات اللعين فإليك قصة "إسماعيل المهدوي": من غيرك يستطيع أن يكتبها خاصة وأنه كتب وما زال يكتب لك أنت بالذات الكثير من الرسائل!

وإليك قصة الدكتور "إمام" وهي قصة نموذجية!

ثم لماذا لا تكتب عن "تجربتك في عالم القصة"؟ إنك عندئذ تقدم مادة ضخمة غنية يستفيد منها تلامذتك ـ يا معلم ـ والأجيال الصاعدة واللاحقة ويستفيد النقد! أو لماذا لا تكتب سيرتك الذاتية؟

وفي ظل الحصار ومؤامرات الصمت لماذا لا تكتب انطباعات سريعة عن عشرات المجموعات القصصية التي صدرت للناشئين والطلائع والبراعم، وفيها أشياء كثيرة ومواهب ناضجة وطاقات مبشرة وواعدة وكلهم أبناؤك..إنك عندئذ تستمد الفرح والعزاء والإصرار على الصمود وعبور لحظات اليأس والتعب والضيق.. أرجوك، وحتى لا تفقد الصقور طريقها في الضباب والدخان!

وأخيرا تقبل هذه الرباعية من ديواني الأخير أيضا:

هذه الأرض لنـا كالمصـيدة = ليس فرق بين شيب وشبـاب
إن تكن منا تمــد المــائدة = فلنكن فيها ذئــابا للــذئاب

(4)

ثم ألم تكتب أنت مجموعتك الرائعة المهولة: "بيت من لحم" أعدك أن أكتب عنها قريبا!

ثم ألا تخطئ مرة.. عشان خاطري فتزورني في مسكني المتواضع؟ فأنا طريح الفراش منذ أكثر من عام: نصف كسيح ونصف ضرير وأنوء بأعباء المرض بل تحالف الأمراض، ولا أملك إمكانية العلاج في مصر ولا في لندن ولا حتى في موسكو ولا في أي بلد من بلدان الوطن العربي، وأنوء بأعباء الأطباء وبالأسعار الجنونية للأدوية وأعباء الأسرة والولدين.. لا لن أطلب منك أكثر من أن تشرب معي الشاي على الأقل لترى "شهدي"، ذلك الصبي وقد أصبح رجلاً والصبي فريد الذي يتمتع بذكاء مخيف يفوق ذكاء الكبار.. والذي يجيد العربية والإنجليزية والروسية والذي يضحك ويسخر من كل شيء والذي يكره اليهود، والذي يسأل عن آخر أخبار الحرب في لبنان والذي يحب جميع الضيوف وينصت الى حكاياتهم ويقص عليهم الحكايات.. أقسم بشرفي أنني وعدته بأن أحضر له "ملك القصة والحكايات" وهو أنت ومنذ ذلك اليوم وهو يسأل عن عمه الدكتور يوسف إدريس!.

الآن تذكرت، سأطلب منك بعد الشاي، أن تتدخل بنفوذك لدى أحد الناشرين الخصوصيين هنا في مصر أو في أي مكان من الوطن العربي، لكي يشتري مني كتاباً أو مجموعة شعرية أو حتى الجزء الثالث والأخير من ثلاثيتي الشعرية "ياسين وبهية"، "وآه ياليل يا قمر". وهو "قولوا لعين الشمس".. بدلاً من رقادها في حبال العنكبوت! ، إني في حاجة إلى أي مبلغ!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى