محمد جبريل - حقائق الجدار

ـ 1 ـ
أستلقى على ظهرى . تتقاطع اليدان خلف الرأس ، أتأمل تكوينات النشع فى السقف ، وفى أعلى الجدران ..
أحدثت الرطوبة نشعاً ، تقشر به طلاء الجدران عن أشكال ، صغيرة وكبيرة ، مستطيلة ، ومربعة ، ومستديرة ، ومفرطحة ، ومشرشرة ، ومتداخلة . أتصور الملامح والشخصيات والأحداث .
تفاجئنى الأشكال بتحورها . يتلاشى ما كنت قد أطلت تأمله فى الليلة السابقة . تحل أشكال جديدة ، لها استداراتها وانبعاجاتها .
ألجأ إلى التخيل ، إلى قدرتى عليه ، أضيف إلى الشكل ، وأحذف منه ، أتخيله فى الصورة التى أريدها ، وما يكتمل به المشهد ، الحركات والسكنات والمعانى التى يعبر عنها .
إذا لم تعبر التكوينات على الجدار عن أشكال محددة ، ولا قسمات يسهل التعرف عليها ، فإن الخيال يضيف إليها ، ويحذف منها ، ويحورها . ثمة وجوه وأجساد وعربة يد ومشنة سمك وعصفور وبقرة وسنارة صيد ووردة ومقعد وكوب وميكى ماوس وسماعة طبية وطبق وكتاب وقلم وفازة وسكين وعروسة مولد وقادوم وساعة حائط وفرشاة ودراجة وأباجورة وسماعة تليفون ومئذنة وديك ومسبحة وعملة معدنية وحذاء وشجرة .
كانت جدتى تفارقنى إلى حجرتها ، بعد أن تروى لى ما أحبه ـ ويخيفنى ـ من حكايات على الزيبق ، والشاطر حسن ، والسفيرة عزيزة ، وست الحسن والجمال ، والسندباد البحرى ، وطائر الرخ وجنيات البحر ، وجزر الواق الواق ، وأبو رجل مسلوخة ، والعفاريت ، والجان ، والمردة ، والأشباح ، والأطياف .
الضوء المنبعث من الطرقة يضيف إلى ما أتصوره فى تكوينات نشع الجدار . تتجسد ، وتتحرك ، وتتلاقى ، وتتباعد ، وتفعل ما أتصوره مما روته لى جدتى . يبلغ الأمر حد مغادرة الجدار ، والاتجاه ناحيتى بعينين تقدحان شرراً ، أو يدين تتحولان إلى مخالب ، أو أنياب تهم بالتهامى ..
يتجسد أمامى الرجل ذو الساق الحبلى ـ فى حدوتة جدتى ـ بدلا من زوجته المريضة ، الأميرة فى قصرها تنصت إلى توسل الشاب بأن تعطيه مما فى قصرها من عنب للمريض فى بيته . الصراصير الكثيرة التى تملأ البئر تلبية لأوامر العجوز الشريرة : يا بير يا بير .. اديها صراصير كتير !
يسلمنى النوم إلى أحلام وكوابيس ، لا تنتهى ..
ـ 2 ـ
فى الصباح ، أغمض عينى ، ثم أفتحهما ، لأتبين ما إذا كانت الأشكال لا تزال فى مواضعها ..
ألاحظ التغيرات التى تحدثها الرطوبة فى تكوينات النشع . تأخذ أشكالاً جديدة . ظهرت تفاحة لم تكن موجودة فى زاوية الجدار . تشوشت مساحة الشجرة . بدت أخطبوطاً له العديد من الأيدى المتشابكة ، المتباعدة . لامست ما تصورته أوزة لها عنق ومنقار وجسد ممتلئ . توقعت أن تحتضنها فى اتساع مساحات النشع ، أو تؤذيها ...
أتنبه إلى أنى استغرقت فى النظر إلى الجدار . شردت حتى عن محاولة تأمل التكوينات ، وتصور ما تعنيه .
أحاول تجاوز ما أعانيه . أسحب كتاباً من الكومودينو المجاور ، أو أدير المسجل الصغير ـ فى صوت خافت ـ على أغنيات ، لا أعطيها انتباهى . ربما حاولت تناسى الأمر برشفات متباطئة من كوب شاى .

ـ 3 ـ
انتفضت ـ بتلقائية ـ لسقوط حشرة من السقف فوق رأسى . تأملت نثارها فوق الملاءة ، وعلى الأرض ..
بدا التكوين مسدساً فى يد بلا ذراع . لم أكن أفكر فى معارك ولا قتال ، ولا ما يحرض على العنف . ألح التكوين على اجتذابى إليه . بدا مغايراً لكل ما على الجدار من ملامح وقسمات .
تداخلت الأشكال ، ناقصة ، ومبتورة ، ومنفصلة عن اكتمالها : خرطوم فيل ، سنم جمل ، وجه كلب ، عصا مكسورة ، سبحة منفرطة الحبات .
أذهلنى تحرك ما بدا أنه ثعبان ضخم . زحف بجسده ناحية الأجسام الصغير المتناثرة فى اتجاهها . ابتلعها ، فم يعد إلا شحوب لون الجدار .
تحولت النقط المتناثرة فى زوايا الجدار إلى ما يشبه الحشرات ، أو الحيوانات الصغيرة ، تختلط وتتشابك .
حين انطلقت من الجدار ، وحلقت فى سماء الحجرة ، أدركت أنها تحولت إلى طيور سوداء متلاصقة ، تضفى ظلالاً داكنة على الضوء الخافت أصلاً .
أبحث عن الونس فى ترامى هدير الأمواج من النافذة المواربة ، وأغنيات الراديو القريب ، ونداءات جرسون المقهى ، وضربات النرد ، وصيحات الرواد ، ومواء قطط ، أخمن أنها تتعارك حول كومة زبالة .
هبت ـ من النافذة الصغيرة ـ دفقة هواء مفاجئة . تحركت لها ظلال اللمبة المتدلية من السقف . رسمت تكوينات لبشر تختلط فيما يشبه العراك .
التحمت التكوينات . صارت تكويناً واحداً ، أشبه باستدارة وجه ، وإن تشوهت الملامح فى جانب الرأس ، والجبهة والذقن . بدت العينان متماثلتين فى المساحة والاتساع . تحدقان أمامهما بنظرة ثابتة ، والشفتان منفرجتان فى هيئة الغضب .
ـ 4 ـ
ظلت تكوينات نشع الجدار فى حياتى ، وإن لم يعد لها التأثير المخيف ، القديم . أترقب ـ فى أثناء النهار ـ تلك اللحظات التى أنظر فيها إلى الجدار . ألتقط الكلمات من الكتاب بين يدى ، أدير الراديو ، أصيخ السمع إلى ترامى النداءات ، وتلاغط الأصوات ، وصيحات الطيور ، وهدير الموج من ناحية الأنفوشى .
أسرح فى تصورات السكون والحركة والملامح والقسمات والتعبيرات . يضيف إليها ما بداخلى من مشاعر الأسى والطمأنينة والخوف والراحة والحزن والألم والتوقع . أستعيد حكايات عشتها طيلة أيامى السابقة . أصلها بما أتوقع أو أريده . أستعيد ملامح أعرفها . أتخيل ما لا أعرفه . أتذكر ما كنت قد نسيته تماماً .
أهمل النظرات المتسائلة . أظل صامتاً ، وإن أومأت برأسى لقول جار الطابق الأول :
ـ جاءوا أكثر من مرة ..
يضيف بلهجة مشفقة :
ـ ابتعد حتى يزهقوا !
أومئ بهزة الرأس . أصعد درجات السلم . أتأكد من إحكام رتاج الباب الخارجى ، وإغلاق الحجرة فى طرف السطح . أوارب النافذة الوحيدة المطلة على الشارع الخلفى .
أعيد النظر إلى الحائط . أعيد التأمل . أحور فى التكوينات . أصلها بأحداث اليوم . أتصور قسمات مغايرة لم أرها من قبل . لكن الصورة تظل ثابتة : المسدس فى اليد التى بلا ذراع ، يتجه ناحية باب الحجرة المغلق .

ـ 5 ـ
اتسع النشع فملأ مساحة الجدار . أخذ شكل الدائرة ، أو البيضة الهائلة . حاولت أن أتبين ما لم أره من قبل : تكوينات تختلف عن التى صنعت حكايات الليالى السابقة . ما يشبه السحاب ، يهمى نثار النقط الصغيرة ، كأنه تساقط الأمطار .
تلاقت الخيوط المتباعدة ، تشابكت ، صارت خيطاًَ واحداً ، نهايته تكوين غير متناسق الحواف ، أشبه بطائرة ورقية انطلقت فى مساحات لا نهائية .
بدأ التكوين فى التغيّر . تحول إلى ما يشبه سمكة القرش ، هى سمكة القرش بانسيابية الجسد ، والفكين المفتوحين .
بدا أن الصور فى الزاوية اليمنى ، تتجه إلى خارج الجدار ، تريد الخلاص من الحصار داخل المستطيل ، تطلب الحركة والانطلاق .
ـ 6 ـ
تحورت تكوينات الجدار . أخذت أشكالاً جديدة . اختفى ما يبدو كلباً له ذيل ، وما يبدو مسدساً ، والطائرة الورقية التى طارت بعيداً . تحركت التكوينات ، استطالت إلى خارج الجدار . اختلطت ، وتشابكت ، بتكوينات لم أكن التفت إليها فى الجدار الجانبى . أحس كأنها قد اصطدمت ، وثارت رياح وزوابع وأعاصير .
قال جار الطابق الأول فى لهجة ذات مغزى :
ـ لا تستهن بالشمعة التى فى يدك ، هى ضوء قد لا يبدد الظلمة ، لكنه يخفف منها ..
ـ 7 ـ
أعاود النظر .
تطالعنى التكوينات بتغير . يغيب ما كنت اطمأننت إلى قسماته . وجدت فى التكوينات الجديدة ما لم يكن قد خطر لى من قبل .
بدت المساحة ـ بالكاد ـ كقطعة الشطرنج .
لاعبت نفسى . حركت العساكر والوزير والطابية والفيلان . نقلت الأجسام الصغيرة على المربعات ، لأواجه الملك بالهزيمة . لا يشغلنى سقوط العساكر ولا الوزير . الملك هو الهدف الذى أناور كى أصل بحصارى إليه . أجده فى موضع العزلة ..
تعالت دقات الأحذية الضخمة فوق السلالم ، ترافقها همسات ونداءات وعبارات محذرة وقرقعة سلاح . انتهت عند البسطة ، أمام الشقة . ارتفع ـ بعدها ـ صوت آمر :
ـ افتح !
لفتنى ارتجافة حين ارتسم ـ فى جانب الجدار ـ ما يشبه المشنقة . تدلى حبل ، فى نهايته أنشوطة .
أعدت النظر . تماوج الحبل ، وتقطعت الأنشوطة إلى نثارات ..
أرجعت تصورات الأشكال والتكوينات إلى ما بداخلى ، ما أعانيه .
لم أزايل موضعى . ظللت ممدداً ، نظراتى محدقة إلى الجدار ، أتأمل اختلاط التكوينات بما لم أتوقعه . اختفت الأشكال المتداخلة . حلت ـ بدلاً منها ـ أشكال أشبه بالمسدسات والقنابل اليدوية . اعتدلت فى موضعى بحيث واجهت الباب المغلق . حركت إصبعى كأنى أضغط على زناد . علا صوت انطلاق رصاصة . توالى تحريك إصبعى . تعالت أصوات الرصاص والصيحات ..
فى داخلى إصرار على المواجهة ..
يظل إصبعى فى وضع الضغط على الزناد .



* من مجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل


محمد جبريـل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى