ألف ليلة و ليلة فاروق شوشة قراءة جديدة لألف ليلة وليلة ـ2 ـ

ـ2 ـ

ليس أولي من الباحثين العراقيين بالاهتمام بألف ليلة وليلة قراءة ودراسة وتحليلا, وتوقفا أمام العديد من الموضوعات والقضايا التي ستظل الليالي العربية وهو الاسم الذي عرفت به ألف ليلة في الكتابات الأجنبية, تثيرها وتدفع بالحوار الدائر من حولها الي ساحات جديدة من الرؤي, ومناهج جديدة من الدراسة والتناول أحدثها علي الاطلاق هو هذا البحث النقدي الضخم للناقد العراقي الدكتور محسن جاسم الموسوي الأستاذ بالجامعة الأمريكية في الشارقة تحت عنوان:مجتمع ألف ليلة وليلة.

ذلك أن قراءة ألف ليلة تثير فينا علي الفور تصورات مختلفة للحياة في بغداد, بددا من حياة القصور حتي مدارج الحياة الاجتماعية الدنيا, مرورا بمجتمع الجواري والغلمان وخدم القصور, ومجتمع التجارة والتظرف والشراكة في السلطة ـ كما تسميها الدراسة ـ وندماء الخليفة والقوادين, والعشاق, وشعراء اللهو والمجون, كل هذه العناصر تتكامل في بانوراما هائلة تجسد للقاريء صورة بغداد المتخيلة أو المتوهمة ـ خاصة خلال العصر العباسي ـ حين كانت حاضرة الدنيا, ومطلع شموس الثقافة العربية والحضارة العربية, ولايمكن النظر الي شخصية شهرزاد الا بوصفها البغدادية الفائقة الذكاء والحيلة, التي استطاعت بقدرتها الهائلة علي القص والرواية أن تبني هذه المملكة الشاسعة من الأحلام والحكايات الممكنة والمستحيلة, وأن تجعل من غواية الخيال وفضول المعرفة اغراء لاتنفد أساليبه أو عجائبه, في انتظار أن يحدث التطهير المطلوب فعله في وجدان شهريار, ويعود الي طبيعته السوية بعد أن تم علاجه علي يدي شهرزاد.

وفي هذه الدراسة الجادة والممتعة للدكتور محسن الموسوي ـ وهو يحاول بناء مجتمع ألف ليلة وليلة ـ فان معرفته العميقة ببغداد تاريخا وعمرانا ومجتمعا وبيئات وطبقات, وقدرته علي استدعاء التفاصيل الكثيرة المتناثرة في الكتب الأمهات للتراث العربي, ولربط الأجزاء والعناصر بعضها الي بعض, وصولا الي مايسميه: الطعام في الحياة الاجتماعية والطعام في تكوينات السرد ودراسته من ثم لصنعة الطبيخ وأكلات العرب وقصف الخليفة(من لهو الملذات) والأكلات الموصوفة وفعلها داخل المحكي, والطعام والمرتبة الاجتماعية والتطفيل ـ الدخول علي موائد الخاصة, ولغة ارستقراطية المجتمع, ومرجعيات ترف المدينة, والمدينة: الأزقة والسراديب والموت, والكلام والسلعة: تبادل الأدوار لنيل المعشوق ودلالات الحركة في المدن, كل ذلك وغيره أكثر ـ قد هيأ له من الأسباب والعناصر والوثائق فرصة نادرة لاقامته هذه الدراسة الجادة التي اقتضته سنوات طويلة قضاها استاذا بالجامعة التونسية ـ لاالفرنسية كما جاء محرفا في المقالة السابقة ـ كما أعانه اطلاعه الواسع علي المصادر المجاورة لألف ليلة والتي تشترك معها في كثير من الأخبار والمواقف والنوادر والنصوص الأدبية والشعرية مثل أخبار الظراف والمتماجنين لابن الجوزي والامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي والمحاسن والأضداد للجاحظ والمحاسن والمساويء للبيهقي ومروج الذهب للمسعودي والمستطرف في كل فن مستظرف للابشيهي والعقد الفريد لابن عبد ربه ولطائف اللطف للثعالبي والنوادر للأعرابي وغيرها ـ أعانه هذا الاطلاع الواسع علي بناء تصوره واقامة دعائم دراسته.

يقول ـ علي سبيل المثال ـ وهو يعرض لمرجعيات التظرف في ألف ليلة: اذا كان التلميح والتماجن الظريف بين الفتيه والفتيان يستند الي مرجعية واسعة من الشعر المألوف والكلام المتداول والنوادر الشائعة, فما يقوله الفتي أو تأتي به الفتاة في معرض الاجابة هو جزء من مألوف حينذاك, ولهذا كثرت مثل هذه الاشارات والتلميحات واذا كانت ألف ليلة وليلة تزخر بمثل هذا الكلام, فان كتب النوادر والملح والطرائف تفيض بها هي الأخري اذ يذكر ابن الجوزي مثلا في أخبار الظرف والمتماجنين: خرج رجل فقعد يتفرج علي الجسر, فأقبلت امرأة من جانب الرصافة متوجهة الي الجانب الغربي, فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري, ومرا قال فتبعت المرأة وقلت لها: ان لم قولي ماقلتما فضحتك فقالت:

قال لي: رحم الله علي بن الجهم يريد قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر = جلبن الهوي من حيث أدري ولاأدري

وأردت بترحمي علي أبي العلاء قوله:
فيادارها بالحزن, ان مزارها = قريب, ولكن دون ذلك أهوال

من أمتع فصول الكتاب وأكثرها اثارة الفصل الخامس الذي يتحدث فيه المؤلف عن مدن الحكي حين يقول: تتأكد قوة الحكي بتلك الطاقة التي تسرقنا من أنفسنا, وتعطل لدينا القدرة الأخري علي التمحيص والتدقيق, وبرغم ذلك نشعر أننا نلتقي الجواري في الأسواق, وننظر الي التعامل الجاري هناك, والي ذلك الحشد من الناس المشتغلين والمنصرفين للأعمال والمتطفلين, وندور في الأزقة ونجلس عند المصاطب ونبصر كفا تظـهر من النافدة ونري الخياط في دكانه وعيناه علي الزقاق المقابل بانتظار وجه يطل عليه من روش, ونري التجار والصيارفة يعنون بأموالهم, وكأن الحكاية تنقل عن التنوخي في نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة عن طرائق التحصين من اللصوص في بغداد, بينما يصعب تفريق مايأتي في التاريخ عن اللص الذي صار بزازا ـ أي تاجر حرير ـ وتاب ليستخلص حقه من لص آخر بعد جولة طويلة يستخدم فيها درايته كتلك التي يظهرها الدنف في حكايات ألف ليلة وليلة. لكن الحكايات تمتد بين القصر الفاره والزقاق الضيق, بين السوق وبين السرداب, بين البستان والنهر, حيث يتحرك الجواري وأبناء التجار والحرفيون والمغنون والقواد والنسوة والحمالون والصبايا والغلمان والبغال والحمير, بينما يشخص بين هؤلاء: الخلفاء والحلاقون وجواري البلاط والطفيليون, محركين السرد ودافعين به الي أمام,وتتعدد الضواحي والأزقة والحمامات والأسواق حتي قيل ان بغداد ليس لها مايوازيها, فكتب فيها.

أحمد بن الطيب فضائل بغداد. ثم يقول: وكأن حاضرة الخلافة بغداد رأت مارأت من التمدن السريع حتي بات الانهماك في تفاصيل الأشياء بمثابة الحياة اليومية للناس. ولهذا تحفل الحياة بالتناقض الشديد, بين الزهد والشهوة, بين المتعة والجلال, الرفعة والابتذال, العشق والفجور, المجون والعفة, الجمال والقبح, الكرم والطمع, التسامح والثأر. فبدت الرغبات متقاطعة حادة والنزوات مريبة. فبينما تتمظهر الكلمات في الأشياء والوقائع والأحوال, لأناس يغرقون في المتعة, كانت حكاية أخري يطل منها بائع فول بأسماله في ليلة ممطرة باردة, ويجري هذا المشهد في الشوارع الخلفية التي تتواري بعيدا عن قصور الخلافة.

يلفت النظر توقف الدكتور محسن الموسوي عند الشعر في ألف ليلة وليلة. وهو توقف له قيمته ومغزاه خاصة أنه يشغل مساحة ليست صغيرة في السرد, وعلي الرغم من شيوع الفكرة التي قالها بعض المستشرقين من أن الشعر فائض وليست له مكانة وظيفية. والمؤلف يري أن هذا الحكم ـ علي اطلاقه ـ ليس صحيحا, فثمة مراجعة لازمة لطبيعة الوحدات السردية في حكايات ألف ليلة وليلة, وكلما تحرك السردية دائريا أو لولبيا أو في صورة ترابطات هندسية ومواصفات تشكيلية أو موسيقية, صعب الحديث عن الوظائف التي تخص الرحلة من وإلي, أو تلك التي تعني بالاكتشاف أو البحث بموجب رغبات وعواطف كالحب والغيرة والخديعة.

ويلاحظ الدكتور الموسوي أن الشعر في ألف ليلة وليلة لم يستأثر باهتمام ملحوظ, بالرغم من محاولات جمعه أو ارجاعه إلي قائليه, إلا أن دراسته يمكن ان تقود الي فضاءات أخري في الحياة الوسيطة, وإعادة قراءة هذه النصوص الشعرية مرة في ضوء التقاليد الأدبية السائدة, ومرة أخري خارجها فمن الأمور المتكررة ـ مثلا ـ قصائد العشق, والتي غالبا ما تستأثر بالشائع وما هو مألوف في أغاني أبي الفرج الأصفهاني, لكن بعض هذه القصائد النادرة لم تكن مألوفة تماما لغربتها أو لخصوصيتها, كما أن بعضها يخرج عن المألوف ويمثل انشقاقا ما كانشقاق الحكاية الشعبية المدونة أو المنقولة مشافهة.

وفي ضوء المنهج الذي بني عليه المؤلف دراسته, فلن يتحقق هذا بدون تفكيك هذه النصوص الشعرية, ومعرفة مكونات القصيدة مأثوراتها وصورها واستعاراتها, وعزل ماهو شعري فيها عما هو توصيلي فحسب, ثم تمييز مستويات الاستعاري في الأول وإحالة الآخر إلي الأخبار والنوادر, ثم وضع الجميع في سياقات التجريد والتجسيد في خطابات المجتمع, بقدر ما تتيحه هذه الخطابات من معرفة بالفئات الاجتماعية وطبائعها وعاداتها وتكويناتها. يستشهد المؤلف ـ في هذا المجال ـ بما نقله التوحيدي مثلا عن طرب ابن غيلان البزاز كلما استمع إلي بلور جارية ابن اليزيدي وترجيعاتها وهي تترنم بالشعر, فهو اذا استمع اليها انقلبت حماليق عينيه, وسقط مغشيا عليه, وهات الكافور وماء الورد..

تقول بلور في غنائها:
أعط الشباب نصيبه = مادمت تعذر بالشباب
وانعم بأيام الصبا = واخلع عذارك في التصابي

وأعظم من بلور في غناء الشعر والترنم به صبابة التي زلزلت بغداد كما يقول التوحيدي لنوادرها وحاضر جوابها وحدة مزاجها وسرعة حركتها بغير طيش ولا إفراط حتي كان الشيخ الصالح الكناني المقريء يطرب لما تغنيه أشد الطرب:
عهود الصبا هاجت لي اليوم لوعة = وذكر سليمي حين لا ينفع الذكر
بأرض بها كان الهوي غير عازب = لدينا وغض العيش مهتصر نضر
كأن لم نعش يوما باجراع بيشه = بأرض بها أنشا شبيبتنا الدهر
بلي, إن هذا الدهر فرق بيننا = وأي جميع لا يفرقه الدهر

مثل هذه الأشعار تسرب في أجواء الحكايات وأصبح جزءا من ذاكرة العامة, خاصة أن لكل محلة في بغداد تقاليدها وشعراها ومغنيها. كما أن الشعر ـ في رأي المؤلف ـ كان يلتحم في حالات عديدة مع الخطاب المراوغ للمجتمع الملفق, فثمة مسعي للالتحام بالسلطة والتلاقي معها. في مثل شعر من قال ـ علي سبيل المراوغة والاستجداء:
الثم أنامله فلسن أناملا
لكنهن مفاتح الأرزاق

وقول الشاعر الذي أنشد الخليفة هذين البيتين بعدما أسبغ عليه النعم:
تصبحك السعادة كل يوم = بإجلال وقد رغم الحسود
وزالت لك الأيام بيضا = وأيام الذي عاداك سوء

من الصعب الانتهاء من قراءة هذا الكتاب الحافل: مجتمع ألف ليلة وليلة للدكتور محسن جاسم الموسوي دون أن نردد مقولة الدكتور حمادي صمودـ أستاذ البلاغة والأدب في الجامعة التونسية ـ عنه لعل أطرف ما في هذا الكتاب سعة اطلاع صاحبه علي النقد الحديث علي نهج المدرسة( الأنجلو سكسونية) وهي تتعامل مع النصوص تعاملا يختلف اختلافا كبيرا عما تعودنا عليه في المدرسة الفرنسية, ثم إنه قدم كل ذلك في لغة سهلة دالة مطمعة.

وان كان هذا الحكم الآخر لا ينبغي الاحساس إزاء بعض المقاطع ـ في بعض الفصول ـ بأنها مترجمة أكثر من كونها مؤلفة, وربما يرجع هذا لكثرة ما كتب المؤلف بالانجليزية والعربية من كتب ومقالات وأبحاث ودراسات عن الموضوع, مما جعله يستدعي بعض هذا الذي كتبه, وربما كان عليه ان ينقله من اللسان الانجليزي الي العربي, فجاء علي الصورة التي توحي بالترجمة عن أصل سابق, قد يكون أكثر وضوحا وتدفقا وألفة.

كذلك فإن مجتمع ألف ليلة وليلة هو لمجتمع البغدادي وحده, الذي عكف عليه المؤلف ونجح كل النجاح في جلائه وتحليله. أما الأصول المصرية والهندية والفارسية التي أنتجت بدورها بعض الصور المغايرة لمجتمعات غير بغدادية( وغيرعراقية) فلم يتوقف عندها المؤلف, ولم يعتبرها ذات شأن أو قيمة في تشكيل مجتمع ألف ليلة وليلة, وربما اهتم بهذا الجانب باحثون آخرون, أكثر قربا من طبيعة هذه المجتمعات الأخري أو قدرة علي التعامل معها.

ويكفي الدكتور محسن الموسوي في هذه الدراسة الجادة والممتعة والشاملة أنه أعادنا الي عالم ألف ليلة وليلة أكثر وعيا وبصيرة بما يثيره من قضايا وما يطرحه من رؤي وتحليلات, ستظل كالحكايات نفسها تتداخل وتتناسل, بفضل المناهج النقدية الحديثة, التي لا نهاية لكشوفها وقدرتها علي الادهاش.


ahramorg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى