مارك أمجد - عماليق

الناسُ في حَيِّنا يَكرهون مصنع البارود؛ لأنه لا يصدّر لهم سوى الخراب، ويؤذي صبيانَهم. وكانوا ينبهوننا في المصنع لضرورة اتخاذ الحيطة عند مغادرة أبوابه في كل مرة. لكني رجل ذو طراز يسخّف مِن كل مَنْ لا يرتدي العفريتة. في الحافلة ظلت امرأة ترمق عفريتتي حتى ظننتها مكلومة بابن راح ضحية لإنتاجنا. علّقتْ بأني مُستهدَف بسبب زيي. أشفقتُ على اهتمامها وأخبرتها أنه كان في وسعي تغيير ملابسي في أي مقهى. سألتني لماذا لم أفعل؟ قلت أني لا أكترث للحياة. قالت الموت يفعل.

تبدلت جلسة الراكبين. تحركتْ مِن مقعدها واتخذتْ مجلسًا بجانبي. كانت جريئةً بشكلٍ يزعجني إذا اقترن بالنساء. لكني أرجعت هذا لسِنّها، التي خمّنتُها مِن تجاعيد عينها. حتما هي اختبرت الحياة، بشكلٍ لم يترك مُتسعًا للحياء. سألتني عن أكثر شيء يَشغلني حينما آخذ إجازتي من المصنع، باستثناء الجنس. قلت: “أن أستحِم”. لم أكن قادرًا على شمّ رائحتي، لأنك آخِر مَنْ تشتمّ رائحتك، مهما كانت بشعة. بيدَ أني كنت قادرًا على فهرستها: فشَعري له رائحة الزيت الذي ندهن به الماكينات، والعفريتةُ لم تغسلها زوجتي منذ إجازة العيد الماضي، وبنطالي تفوح منه رائحة الغازات التي أُطلِقها باستمرار، بسبب تأففي من التغوط في حمّام المصنع البلدي، الذي امتلأت فتحته بعجين الزملاء، وتراكم، حتى صَعُبَ على أحد أن يقرفص فوقها.

نقعتْ ملابسي في الحوض. أمسكتني مِن شَعري وفركتْ لي فروة رأسي بأظافرها الطويلة حتى كادت أن تجرحها. سكبتْ صابونا سائلا له رائحة عطرة، على مناطقَ مِن جسمي تخفي نفسَها بنفسها. كانت تلف حولي، وتسكب الماءَ الساخن على رأسي، وفي دورانها كانت تصطدم بمزرابي، الذي تَقَاطر منه عسلٌ خفيف. رَفعَه جسدها العاري، الذي فاحت من خشبِه رائحة مسحوق الغسيل. لم يكن يضيء حمامها سوى كوة صغيرة تدفق منها نور الصبح الأبيض. وقفت أمامها، وكان بمقدوري أن أرى، بينما أقطع خطوط مسار النور، البخار المتصاعد من كافة أرجاء جسدي. وسمعتها تهمس خلفي: “جيد أني بعد الأربعين لا زالت أصدق في رسائل السماء”. مسّدت حمامتي وصعدت بيدها لتكويرة كتفيّ وصدري. فكرتُ؛ بما أنها هي مَنْ بدأ المناورة، فلا حرج عليّ إن استذأبتُ وفعلتُ ما يفعله الرجال. طلبتُ منها أن تكنس توتري وتعبي اللذين يعج بهما منوري. دلّكتني حتى منحتهم لها في كفِّها. فأسندتُ رأسي على كتفِها.

سألتني كم قنبلةً ينتجها مصنعي في اليوم، فأجبتها بأننا مصنع بمب وصواريخ. سألتني إن كنت قادرًا على قتل أحدِهم. فضحكتُ. أطرقتْ برأسها وتنهدتْ بحسرة:

“كنت أظنكَ قويا كفاية”.

“كنت أظنكِ أحببتِ عفريتتي”.

“ظننتها تخص مقاتلا”.

“والآن؟”.

“أراها زيا تنكريا لبهلوان”.

دخلتْ الشقةَ وبصحبتِها رَجلٌ مُلتَحٍ. سألتها مَن يكون؟ كنت أعرفه لكني تعمدت إهانتَه. كان الصبيان في حَيّنا ينادونه شيخو، وقد اعتاد الوقوفَ بعربة مرطبات على ناصية شارعنا. أخذَته للحمّام مثلما فعلت معي. كان بإمكاني أن أجرّها مِن شَعرها خارجَه وأسحلها بسوتيانتها الزرقاء على بلاط الشقة. خاصة أنه خالَجَني يقين منذ رأيت صاحبَها الجديد بأن جسدَها صار ماكينة مِن جيلٍ متطور عليّ. ارتديتُ عفريتتي وجزمتي الضخمةَ طراز (كاتربيلر)، ورحت أقطع الشقةَ مختالا بصوت كعبها، مقلدًا الأطفالَ متى اغتاظوا. خرَجَا فلمَحَني بلباس العمل. اتسعت عيناه وزعقَ فيها: “أنتِ مومس قذرة؛ تعاشرين رجالا من مصنع البارود”. ولم يكمِل جُملتَه لأني رفعته بعباءته حتى صار في مستوى النجفة: “أتعامَل في المصنع مع آلات لها أضعاف حجمِك، إن لم تَخرس، سأقحم إصبعي في أضيق ثقب لديك”. تركته يسقط، فأخذَته وهربا لغرفتها. أخرجتُ صاروخًا صغيرًا مِن جيب سترتي وفجّرته في المطبخ. بحثتُ عن الفارغ المُتشظّ ومضغته كعادتي. أتت مسرعةً بالروب وقلّبت عينيها في المكان، ففهمتْ. حاوطتها بذراعي وسألتها ما الذي ينقصني؟ تملصتْ مني وقالت إني أبالِغ في قدراتي، بينما أنا في الحقيقة صانع لعب أطفال. فتمنيت وقتَها لو كنت صانعَ قنابلَ حقيقية، أدكّ بيتها الدافئ دكّا.

ناما في غرفتهما، ونِمت أنا بالعفريتة في الصالون. استيقظتُ في الليل على صراخها فاقتحمتُ مخدعها بحجة إنقاذها. قالت وهي تنشج أنها عثرتْ على هاتفْ خبّأه شيخو في أحد أركان الغرفة، وأنه سجّل بكاميرته كل ما فعلاه في خلوتهما. وحينما سألتْه لماذا لم يستأذِنها، أجاب بأنه اعتاد توثيق غزواتِه، وأنه لا يحتاج لإذن: “نعم أنا شيخ عنتيل، وإذا لم يعجبك فلتذهبي لرجُل البارود”. سألته أين خبّأ الهاتفَ فأخبَرني أنها تكذب، وأنها تظن نفسها امرأةً مدملكة لدرجة أن يتم تصويرها. صفعتُه، فصفَعني. أمسكتُه مِن خرطومه وغرزت أسناني فيه، فكان يتلوى أسفلها كالأفعى، ولم أفلِته إلا لمّا تذوقتُ ملوحة الدم في فمي.

نامت معي في الصالون، وحبسته هو في غرفتها. في الصباح مرّت أمامي ومِن خلفها لمحتُ ساقَيّ رجُلٍ في بنطال رسمي. انتفضتُ ووثبت على الأرض. سألتها من يكون؟ كان له مظهر أصحاب المؤهلات. كررت عليها سؤالي شاخطًا فيها، وهاج معي شيخو الذي راح يخبط بيديه مِن خلف باب الحجرة طالبًا الحرية. أمّا هي فلم تتوتر لهذه الشحنة من الهيجان التي سرتْ في شقتها فجأة، وقالت ببرود إنه شاب چنتِل عرضَ عليها في السوق حَمْل الأكياس عنها، وأن هذا النوع مِن الرجال صار شحيحًا جدًا. فهو لم يفعل هذا لجسدها، بل باسم الإنسانية، والإنسانية وحدَها. أضِف إلى أنه حاصل على بكالوريوس هندسة، وبذلك يكون قد تجاوز شيخو الذي لم يقرأ في حياته كتابًا سوى المصحف الكريم، وتجاوزَني أنا الآخَر، لأني تطوعت بالمصنع بعد الإعدادية مباشرة. حَمّمَته مثلما فعلتْ معنا وغسلت ملابسه، ثم اصطحبته لغرفة الأولاد، وأغلقا عليهما الباب.

عدتُ لثكنتي في الصالون وشعرت بالملل، ولم تؤنسني سوى الخربشات التي كان يصدرها شيخو من محبسه، كأنه فأرٌ سَجين. فكرتُ أن أنتقِم منها. أن أطلِقه مِن أجلها. قرعتُ له على محبسه بمفاصلِ أصابعي، فتناهتْ إليّ جَلَبة وسمِعته يلتصق بالباب بكامل جسده. وعلى عكس ما يجري في مثل هذه المواقف، بدأ هو السجين بطرح عرضِه. أخبَرَني أنه صوّرها فعلا، وأنه سيُريني الفيديو بشرط أن أفتح له الباب. صحيح أني اختليت بها مرة، لكن هناك دومًا لذة أكبر في مشاهدة امرأةٍ هجرتك، وهي مركوبة، خاصة لو كان مّنْ يركبها، عدوّ صار رفيقا.

سألني ماذا سنفعل بالباشمهندس؟ أفهمتُه أن الحل بسيط؛ يمكنني أن أضربه وأن ألقِي به في الشارع حينما تذهب للسوق. رَمقَني باحتقار وقال لي وهو يدعك أسنانَه بالسواك: “حَلٌ غبي يليق برجُل المصنع”. قررتُ أن أغفر له إهانتَه لو كان يملك الحل فِعلا.

تَقرّب هو مِن الباشمهندس وأخبره أنه لا يشبهني، فأنا لا أجيد التحدثَ مع الغرباء، ولا أفهم في الأذواق وحساسيةِ الشباب. وفي النهاية وعَده أن يقرّب وجهات النظر بيننا حينما تسنح الفرصة، لأنه ليس مِن المنطقي أن يسكن ثلاثة رجال في شقة واحدة دون أن يقولوا لبعض صباح الخير حتى. وأنا متأكد أن الباشمهندس بمحصلتِه من العِلم والذكاء، وجدَ كلمات شيخو معسولة، لكنها للأسف معقولة. فصارت تجمعنا جلساتُ الشاي والطاولة في المساء، حتى تدق العاشرة فيذهب الشاب للمدام، ونبقى أنا وشيخو نرثي أيامَنا داخل هذه الغرفة، رغم أني لم أدخلها. ومرةً سألتُه لماذا لا نسمع لهما حِسًا، فردّ عليّ بأنها حتما تذاكِر له ما تريده أن يفعل بها. فضحكنا ونسينا.

وفي ليلةٍ مِن جلسات سمرِنا، وكان الباشمهندس قد منحنا مِن وقتِه أكثر مما هو معتاد عليه، حتى خمّنا أن المدام في الداخل محتاسة بدمّها، حكى شيخو أنه صار مؤخرًا يتردد على بيتٍ مِن إياهم، وأنه تعرّف هناك على خنزيرة، صار يطبق معها إرشادات الإمام السيوطي بالحرف؛ فيطعنها ويُحسِن التجويد في الطعن حتى تأتي بعسيلتها مرتين. ومِن كثرة حَكيه وتفاصيلِه المُنتقاة أثير فضول المُتعلم فينا وبدأ يسأل، في خَجل، عن تلك النوعية من النساء التي بمقدورها أن تصل مرتين. فضحك شيخو بصوتٍ عالٍ وسَخِر مِن صِغَر سن الباشمهندس وقِلة تجاربِه. أمّا الأخير فصمتَ وازداد خجلا على خجلِه. وتواصلتْ طعنات شيخو، مرةً في الفرْج، ومرةً مِن الدبر. وحكى عن كفل المرأة الثقيل، الجدير وحدَه بالتركيب، وعن الدعك والتصفيق، من قبيل التمهيد. فارتعش الشاب وشاب، وتسلّق عضوُه جدرانَ حجرتنا مثل اللبلاب.

صرخت المدام فلبّيتُ أنا وشيخو النداء. قالت إنها ضبطت الباشمهندس وهو يستمنِي على فراشها، وذكرتْ أنه كان يشاهد فيلمًا، وحينما أمرَته أن يعطيها الهاتف رفض. طلبتْ أن نفتشَه. ابتهجتُ مثل الصغار لأن دوري أخيرًا حان. نحّيتُهما جانبًا. عريّته من ملابسه وفتشتُه جيدًا حتى عثرت عليه. قمت بتشغيل الفيديو ووجهت شاشة الهاتف لها، وسرعان ما تعرفتْ المدام على جسمها. فهربتْ لغرفتها باكية، وتركتنا، كعادة النساء في المشاكل. وكان هذا بيانًا ضمنيًا للباشمهندس، بانضمامِه لنا أخيرًا، في معسكر الصالون.

اعتدنا حياةَ العُزاب، رغم أن مَنْ تعولنا امرأة. فكنا نتشارك مِن أموالنا طعامَنا. ودرّبنا مصيرَنا الواحد القاتم على فضيلة قبول الآخر، لأنه لم يعد هناك آخر. وأنا نفسي تعجبت كيف طوّعت قدراتي العضلية لخدمتهما، وافتقدتُ زمنا لي بالمصنع لم أكن مُلتفتًا فيه سوى ليومي وحرفتي. لكن يبدو أن توهماتِ الوحدة سهلةُ الحَطّ والتحليق، فبمجرد أن دبّت الحركة في الشقة ورأيت شيخو يجلس مع الباشمهندس، نفضتُ عني حيادي وخِفتُ أن يؤثر عليه ويضمّه إليه، ضدي. كان معجبا بالشيخ خاصة بعدما عرف أنه هو مَنْ وضع خطة الإطاحة به من على فِراش المدام. وفي اليوم التالي ونحن نتناول الغداء ألهيتهما بمسرحية كوميدية، وفي غمرة ضحكهما قفز شيخو في حِجر شاب من دور عياله حينما فرقع صاروخ صغير تحت قدميه. فقلت للباشمهندس بنبرة أصحاب المؤهلات: “الهمجية أقصر وسيلة دبلوماسية”.

استيقظتُ يومَ الجمعة لأجد شيخو يفرش حصيرًا في مساحة ليست بصغيرة من الشقة، ثم أعلن أنها من اليوم فصاعدًا ستصبح منطقتَه، وأنه سيعود لحرفة صناعة المرطبات، خاصةً وأن رمضان سيحل بعد أيام. ودون وضع بنود للاتفاقية اتجه كل مِنا لنصيبه الخاص. وكان الجزء المتبقي لي يعتبر نصف الشقة، فوضعت به شوالات من نترات البوتاسيوم وأكوام من أسطوانات الكرتون. وأخبرتهما أني سأعود بدوري لصنعتي، لأن البمب مثله مثل العصير، مِن متطلبات الشهر الكريم. لكن غريمي لم يُبدِ رد فعل تجاه ترسانتي، مثلما لم أهتم بمعصرته.

عرضَ كل مِنا على الباشمهندس أن ينعم بحيز عنده مقابل وظيفة؛ كأن يقوم بتلقيم الصواريخ، أو ينقع الكركديه في البراميل. لكنه تَعصّب لشهادته الجامعية. وكان مِن وقت لآخر يقف أمام ضريح المدام ينتحب. فكنت أنا وشيخو نعزيه ساخرين، ونخبره الحقيقة: أن المدام، اكتفت مِن الرجال، وصارت ترضي نفسها بنفسها من زمان.

ولمّا يئِسَ تمامًا صار يدعو زملاء الجامعة القدامى ليسهروا معه، فكان يأخذهم للشرفة (تركناها له شفقة) ويسهرون للصبح يحشّشون ويغنون ويلقون الشِّعر، وكنا لا نجد مشكلة فيما يفعلونه، طالما أنهم منصرفون عنّا. وأتى شيخو هو الآخَر بتلامذته من الجامع، وكان يعطيهم دروسًا في الدين، وصاروا يتشاركون الصلاة والأكل والعمل، وقلتُ في نفسي لا ضرر مِن تجمّعهم طالما يدفعون وهُم صاغرون. إذ أمرته بدفع ضريبة على كل كيس عصير يَخرج مِن باب الشقة، ووافقَ طبعًا لأني رجُل البارود، بينما هو رجُل الماء.

وفي يومٍ أُصِبت بإسهال مَقيت، واضطررت لدخول الحمّام على مرات متلاحقة، وتزامَن هذا مع رغبة واحد مِن مريدي شيخو. ولم تسمح لي هيبتي أن أشرح ما ألمّ بي، فأخبرته أني سأدخل رغمًا عنه. ولمّا رآني لجأت لصوتي العالي ويديّ القويتين استدار ومَشى وهو يتمتِم بشيء. زجرتُه كي يتلوه بصوتٍ عالٍ، فروَى قصة سخيفة مفادها أن شيخه هو أول مَن ضاجع صاحبة المطرح. فكّرتُ؛ لن يعترف شيخو حتى لو نتفت ذقنه. خطفتُ واحدًا منهم وخبأته في منور العمارة. قيّدته على كرسي وعرّيت نصفَه السفلي. أدخلتُ فتيلا في ثقبِه الأمامي. أخرجت القداحةَ وأخبرته أنه سيكون بإمكانه (إنْ لم يفقد وعيَه قَبلَها) رؤية الشرارة الفضية وهي تسري في الفتيل، مِن يدي إليه، احتفالا بآخر عيد مولد سعيد لعضوِه، قبل أن يتحول للحمٍ مقدّد. ولست في حاجة لذكر أنها كانت طريقة مُجدية جدًا…

أجّرت عرباتٍ ملأتها بصبيان المصنع، وانتهزت فرصةَ انهماك الضيوف الثقلاء في الصلاة، ففتحت باب الشقة وأطلقتهم عليهم. أمطروهم بالبمب والصواريخ، ونَسفوا معصرتهم، فسَعلوا وتفرقوا وفرّوا، وارتفعت غيمة من الدخان قربَ السقف، واختنق المكان برائحة البارود الزنخة، وتدحرجتْ براميل العصير وانسكب على الأرض، وغاصت الجِزم في السوائل ولطخت البلاط بالأصباغ، وتشكلت كومة من أعقاب الصواريخ والكبريت في ميدان الصالون، ارتمى عندها الذين اختنقوا وفقدوا وعيَهم، وظهر فجأة وسط الدخان زملاء الباشمهندس غيرَ مدركين ما وصلت إليه الأمور، وكانوا على عِلم طبعا بمسبباته، فراحوا يداوون المصابين، فأمرت بصاعقة جديدة من البمب والصواريخ.

تَمكّن شيخو من الهرب هو وبعض رجاله، لجحورٍ حفروها طوال فترة استيطانهم للشقة. فطردت بعضهم وحرصت على بقاء قِلة منهم. ولم يكن مِن المنطقي أن يظل الصبيان بعيدين عن المصنع لفترة طويلة، ففكرت كثيرًا حتى اهتديت لتجنيد المتعلمين، خاصةً وأنهم صاروا يمثلون الأغلبية بعد موقعة العصير. أعلنت أني سأمنحهم غرفة، ففرحوا ولم يصدقوني أول الأمر. لكني بابتسامة عطوفة وخطوات رزينة، سرتُ بهم إلى فردوسهم الصناعي الصغير، وأمامَه أعطيتهم المفتاح. احتفلنا، وقُربَ الليل سمعت بالصدفة أحدَهم يخاطب مَن يقف معهم بنبرتهم المتعجرفة إياها: “ما الحق في نوال شيء هو حقنا بالأساس؟! أنتم سعداء لأنكم لم تعتادوا مساحةً كهذه بعد أن عشتم دهرًا في البلكونة”.

أمّا أنا فتظاهرت بأكل التورتة… بعد أن حفظت هيئته.

أعلنتُ عن مؤتمر، ولأني رجُل صَنعَجي لا أجيد المقدماتِ والحديث، دخلت في صلب الموضوع، وأفهمتهم أني لا أحتقِر سِنهم أو علامهم، ولا أعتبرهم شبابًا مُرتَخين. وأني بصدد تنفيذ لائحة كاملة من الإنجازات لم تشهدها الشقة في عهد شيخو. وبدايةً، أنتوي الخوضَ في مشروع يدمج العِلم بالبارود، ومَن يعرف؟ ربما يصبح اختراعًا مهمًا ينقذ الشقة والحي والعالَم، وربما يسمع عنا الأجانب فيمنحوننا نوبل. وعندها، نسدّد فواتير الشقة المتأخرة. فصفقوا جميعًا وهللوا كالفتيات ونادوا بي مالكًا حقيقيًا لقلوبهم ولهذه الشقة، وزوجًا شرعيًا للمدام. ثم ارتفعت يد من وسطهم، ولا أخفيكم سرا، كنت أرتعد من منظر الأياد المرفوعة، طالما لا تهلل أو تُعذب. سألني شابٌ عن ماهية الاختراع، ولم أكن أظن أن سؤالا كهذا يمكِن أن يُطرح، لأني لم أتخيل أنهم سيسألون، لأن الصبيان في المصنع عندي لا يسألون. صَمَتُّ قليلا ثم أخبرتهم أنه مشروع يستهدف صناعة أصابع صواريخ، تكون مِن النحافة بحيث يمكن تمريرها مِن فتحةٍ في أجسام الذكور، لا يزيد قطرها عن ثقبِ أُذُنِ امرأة.

وقد رحبوا جدا بالمشروع.

انتشرت شكوى كرائحة الفسيخ في الشقة؛ صرح شاب باختفاء زميل له كان يقطن معه غرفته. أرسلت صبياني واحتووا الموقف وشمّعوا الغرفة واستجوبوا الشاب، لكننا لم نصل لشيء. أُغلق الموضوع وفتحنا الغرفة وحولناها ملحقا لبيع منتجات المصنع. تكررت الحادثة في غرفة أخرى، ثم ثالثة، ثم رابعة. تركت مثل هذه المشكلات لمن يكون في حجمها، فأنا الآن حكمدار المكان والمدام. حتى استيقظت ذات صباح على أصوات صياح وجلبة لم تكن آتية من الشارع. أخبرني حارسي الخاص أن مظاهرة كبيرة تجول في أنحاء الشقة، وأنهم كسروا براويز كانت بها صور لأجدادي يرتدون فيها العفريتة، وأنهم ضرموا النيران في ملحق المصنع، ثم على استحياء أخبرني بأنواع الشتائم التي نعتوني بها في مسيرتهم. ولم تزعجني سوى تلك التي تطرقت لفحولتي. كان سبب هيجانهم، الجماعي لأول مرة، أنهم عثروا على عين بشرية متروكة بدمها على حافة حوض الحمام. لم يستطيعوا أن يخمنوا أي زميل لهم تخصه هذه العين، لكنهم كانوا متأكدين من أنها تخصه. حاولت إقناعهم بأنها واحدة من حركات شيخو المفضوحة، لكنهم تشبثوا بذكائهم الهش وأصروا على وجود مؤامرة. وقد أزعجنى حقا أن يشيعوا شرا لم أرتكبه أنا الحاني عليهم بعد، فقررت أن أمنحهم جهنم التي ينشدونا كي يترنمون على ألحان بطولاتهم فيها. أطلقت صبياني مرة أخرى في موقعة مشابهة لموقعة العصير: رائحة البارود الزنخة، الدخان الذي يسوّد السقف، الإصابات التي تطول العينين والأعضاء التناسلية، أعقاب الصواريخ تتناثر كحبات الفشار، اشتريت لرجالي سيارات أطفال لها إطارات ضخمة وزودتها بأجزاء من عفش الشقة كي يزداد حجمها ضخامة. كانت السيارات تطلق أبواقها وتجول في الشقة في إتجاهات متضاربة تدهس كل من تقابله منهم. بينما يصدر عنها صوت إلكتروني يهتف قائلا: جيم أوڨر… جيم أوڨر.

أوقفت كل الفعاليات التي كنت أقيمها لإشباع تفاهتهم، والشريحة التي كانت تواظب على الحضور ظلت على عهدها معي، وخافت أن تخرج لميدان الصالون، لكنها رفعت صورا لي من قلب غرفها، صورا أظهرتني في شكل أحببته كثيرا لنفسي؛ رجل البارود صار أخيرا دون ﭼوان.

نفعهم ما كنت أخشاه، وفي الوقت نفسه لم أعمل له حسابا كبيرا. لقد استخدموا ما حصلوا عليه في كلياتهم اللعينة. هل يعيرونني لأني لم أكمل تعليمي؟ لكنها حرب على أية حال، والحرب لا تعرف المعايرات. استخدموا هواتفهم في تبليغ بعضهم بمواقع تمركزنا في الشقة وفي الاستغاثة بالأطباء منهم كي يداوون مصابيهم، أضف إلى حملات التشويه الإنترنتية التي أصابتني أنا ورجالي البواسل والمصنع معنا طبعا. قطعت سلك الراوتر وعينت عليه حراسة هو وغرفة التليفزيون. ومن حين لآخر كنت أقطع التيار الكهربائي على الشقة بأكملها. فأنشأوا بدورهم مصنع يحاكي مصنعنا، فصار لدينا مصنع للبارود ومصنع آخر للشموع.

من وراء كل تصرفاتي لم أكن أرغب في شيء أكثر من إطلاق فكرة واحدة في عقولهم جميعا؛ أني وحدي المُمسك بزمام الأمور هنا. هكذا اعتدت الحياة، حتى لما كنت صغيرا ألعب الغميضة، اعتدت ألا أكون إلا الچنرال.

أخبرني حارسي أن أحدهم يود مقابلتي شخصيا وأنه يملك الحل. كنت أنا نفسي متضررا من رائحة البارود التي عبقت كل ركن في الشقة، وكثيرا ما كانت توقظني في الليل فأسمع نفسي أسعل مثل رجال المصنع المتقاعدين. كنت أريد أن أنهي هذه المهزلة التي صنعوها بغبائهم. اصطحبته إلى الشرفة وتناولنا الفطور سويا. أخبرني أنه شاب فذّ لديه فكرة اختراع سينقذ الشقة في غضون أيام؛ أفران آلية قادرة على تحويل أجسام المعارضين لمسحوق البارود. لأول مرة أحب العلم في حياتي. “هايل!”. صحت فيه، ثم تداركت وعدت لهيئتي التي تبرزها صوري في إطار الشعبوية. أمرت بأن تُمنح له كل الأموال والعِمالة التي يحتاجها، وأعطيته المنور كي يحوله لورشة خاصة بتجاربه، ووضعت حراسة مشددة عليه.

هممنا بتجريب الاكتشاف فأخرجنا أحد المحتجزين من السندرة ووضعناه داخل الفرن. وقفنا نراقب بحذر، وحاولت قدر الإمكان أن أجعل قلقي مصحوب بهيئة العلماء، الذين كنت أتأمل سحنتهم في الصحف. ضغط الفذّ زر التشغيل. اهتز الفرن بعنف مثل غسالة. سكن. ذهب رجالي وحركوا بابه المعدني الضخم، ليكشف عن جثة منتصبة على رجليها، مبنية من تراب كأنها مومياء. اقتربت في احتراس ومددت أصابعي حتى لامستها، أرجعت إصبعي لأنفي فاشتممت الرائحة الكريهة إياها التي كان بوسعها أن تهيجني أكثر من رائحة جسم المدام، يوم حممتني.

أنشأنا عشرة أفران. حشوناها بكل المتمردين. بشر. بارود. بشر. بارود. لحم حي يصير بارودا. ليت كل شيء في الحياة يكون سهلا مثل رؤيتي الآن لكل من أزعجوني وهم يستحيلون أخيرا لمواد نافعة في الحياة. سبحانك يا رب! خلقت الإنسان من تراب، وحولته أنا عبدك لبارود. سبحانك إني كنت من الظالمين!

كنا نحفظ الأجسام المتحللة في ثلاجات خاصة تضمن استمرار فاعلية المادة البارودية بداخلها متى لجأنا لها. ومع الوقت اكتشفت أنه لم يبق منهم على قيد الحياة سوى شاب واحد. تركته لا لشيء سوى لضمان تناسل هذه الفئة التي يجب أن تستمر كي تدفع الإيجار والفواتير، كي أجد تلك الحشرات الدقيقة التي تكون من الخفة والضعف بما يسمح أن أنتشلها بيدي متى شئت وأوجهها في مسار آخر. حتى لا ينتهي بهم الحال، كمصير أجدادهم في الثلاجات. فلا أجد من أحكمه.

لقد فرغت تماما كل غرف الشقة من ساكنيها، وصار رجالي فقط هم الذين يتجولون هنا وهناك بأريحية وأمان. ولّت أيام الشغب وشغّلنا التليفزيون والراوتر وأعدت التيار الكهربائي.

لا خوف، طالما لا توجد جماهير.

لا خوف طالما الأصوات تردد نفسها بنفسها بين الجدران.

أتى إليّ مستشاري النصف مُتعلم، إذ لم يكن مثقفا بشكل تام؛ فهو من أصحاب المؤهلات المتوسطة ولا يقرأ سوى الجرائد، لكن يكفي أنه يستطيع القراءة والكتابة، على عكس صبياني. والحق أنه كان شابا من تلك النوعية التي يفوق طموحها إمكانياتها، مما كان يعرضه في أوقات كثيرة للاصطدام بأفكار جهنمية، لا يساعده على تنفيذها سواي. سألني:

“هل سمعت يا باش ريّس عن أجهزة تحليل درجة التوتر في الصوت التي كانت تستخدمها الحكومات في التحقيق مع المجرمين؟”.

لم يعجبني سؤاله، خاصة أن معظم كلامه مستوحى من قراءاته لا عن عبقريته. أيظنني جاهلا لهذه الدرجة؟! صحيح أن علاقتي بالعلم كعلاقتي بالنساء، لكني كنت مُلما بكل الأدوات التي تساعدني على إدارة شئون الشقة وتعليم قاطنيها السبل الأسهل للحياة.

“بالطبع سمعت عنها”.

“هناك دراسة منشورة في عدد اليوم تؤكد أن تلك الأجهزة تكشف فقط عن التغيرات الصوتية التي ترتبط باستثارات شخصية للفرد الذي يتم التحقيق معه، ولا تتعلق أبدا بكذبه”.

تململت في كرسيّ ورمشت بعينيّ. فهم أني لم أستوعب شيئا فواصل:

“العلم يخدع القانون يا باش ريّس”.

فتداركت وهتفت واقفا:

“الأفران”.

تزامن صياحي مع أصوات جلبة في الشقة. ولأنه لم يكن هناك سوى رجالي، أدركت أن الحرب فعلا بدأت، لكن مع من؟ لقد جمدناهم جميعا. لقد صارت المقاومة لأول مرة في التاريخ وقودا لترسانتنا. خرجت من غرفتي لأجد منظرا أبشع من يوم الحشر. رأيت بعينيّ أجساما رمادية عملاقة تقطع شقتي بحُرية، وكان رجالي كلما أمطروهم بصواريخهم، لا تزيدهم القذائف سوى توهجا. حتى استحالوا لمدمرات نورانية تفحم كل ما تمر به. كانوا يتفقدون غرفهم وأسرّتهم ومتعلقاتهم التي سلبناهم منها. تعانقوا وبكوا فنزلت على وجناتهم دموع مثل الحمم، كانت كفيلة أن تذيب كل ما تقع عليه. ولم تمسسهم النار لأنهم جُبلوا منها. لكنهم وجّهوها لشقتي وجعلوا منها فرنا مُسْتَعِرا. وبينما كنت أختنق وسط الركام والدخان، وجسدي يسيح مثل الشمع، رأيتهم استغفر الله مثل آلهة. رأيتهم يجتازون الجحيم، كطفل يلهو ويضحك عاريا تحت دش منزله.

ديسمبر 2017



* من مدونة مارك امجد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى