هاشم شفيق - مصطلح جديد لقصيدة النثر

كان من المفترض أن تطلق الشاعرة الرائدة للشعر العربي الحديث، نازك الملائكة، على الشعر الذي كتبته هي وأقرانها الشعراء، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري تسمية «الشعر الجديد» كونه جديداً على عالم الشعر الذي كان سائداً في أيامها، وهو الشعر الكلاسيكي، أي الشعر الذي كتبه قدماء شعراء العربية، بدءاً بامرئ القيس، وانتهاءً بالشاعر محمد مهدي الجواهري، أو الشعر العمودي، وهو نفسه الكلاسيكي الذي يعتمد العمود الشعري ذا الشطرين، منهجاً ونظاماً صارماً، لا يحيد عنه الشاعر إلا في ما ندر، من خلال بعض الجوازات، التي جازها النحويون واللغويون والفقهاء القدامى لنظام الشعر العربي، في ما يُصرف من مفردات تتسم بالصفة العروضية، كالذي يحدث في منع الصرف مع مفردات مثل «أباريق» و«أشياء». أورد هاتين الكلمتين على سبيل المثال، فهما ممنوعتان من الصرف على الصعيد اللغوي، لكن الشاعر يحق أو يجوز له صرفها لتصبح «أباريقاً» تجاري نغمة البيت الذي سبقها، ويمكن للشاعر قول «أشياءً» مجاراة للبيت الذي سبقه، ومن هنا قال النحويون يحق للشاعر ما لا يحق لغيره، وهنا يقصدون الكتّاب الذي يعدّون بحثاً، أو يشتغلون بمهنة الكتابة مثل المؤرّخين والنقاد والباحثين العلميين.
ولكيلا نبتعد عن موضوعنا الرئيس، نعود ونقول كان على نازك الملائكة أن تتحرّى الدقة العلمية لتختار المصطلح المناسب. في الظن جاء اختيار الملائكة لمصطلح «الشعر الحر» مستنزَحاً من قراءاتها الطويلة للشعر الأمريكي والإنكليزي، وبالأخص أشعار والت ويتمان الذي كتب الشعر المُحرّر من الأوزان الشعرية، حيث سمّى النقاد ما كتب ويتمان من الشعر بـ«الشعر الحر» وعبر رائعته الشعرية «أوراق العشب» حتى ساد هذا المصطلح ليتلقّفه النقّاد والشعراء والباحثون والمهتمّون بشؤون الشعر وأنساقه الشكلية والفنية، كنازك الملائكة مثلاً، فاختارت هذه التسمية الشائعة حينها، والراسخة في مفهوم الأدب الأنكلوسكسوني، لتتبنّاها كاكتشاف وانتساب للشعر، رأته مناسباً حينها، فأدرجته كمصطلح خاص بها ضمن كتابها الإشكالي «قضايا الشعر المعاصر».
إن مصطلح «الشعر الحر» وهو بالإنكليزية المنقول عنها «فرِي فيرْس» كان من الممكن أن يُطلق على القصيدة الأحدث، قصيدة النثر الحالية، كونها خالية من القيود ومحررة من كل شكل تقليدي، وهو الأنسب لها.
أما مصطلح قصيدة النثر فقد قال به أدونيس أولاً، عبر قصيدته التي نشرها في مجلة «شعر» وعبر تنويه حول هذا الأمر، وكانت تحت اسم «مرثية القرن الأول» عام 1960 ثمّ رسّخه في العام ذاته الشاعر اللبناني أنسي الحاج، في ديوانه الأول «لن» من خلال مقدمة نظرية، يشرح فيها هذا المصطلح الجديد، وهو مصطلح أجنبي أيضاً، ومنقول من الكاتبة الفرنسية سوزان برنارد، من خلال كتابها التاريخي الذي حمل عنوان «قصيدة النثر منذ بودلير حتى أيامنا».
ثمة تسميات أخرى أطلقت في المعمورة العربية، قبل وبعد نازك الملائكة وأدونيس وأنسي الحاج، كالشعر المنثور بتسمية من أمين الريحاني، وقد كتبه بعض شعراء المهجر، من ضمنهم جبران خليل جبران، والبعض من المعالفة كشفيق معلوف وفوزي معلوف وآخرين من «الرابطة القلمية» و«العصبة الأندلسية» و«الرابطة الأدبية» وكل هذه الروابط والمجاميع من الشعراء كانوا قد عاشوا في المهجر الأمريكي، وكذلك في البرازيل والأرجنتين، متأثّرين خير تأثير بالأدب الأجنبي، وجلّهم يتحدّر من سوريا ولبنان وفلسطين.

حديثاً وفي تسعينيات القرن المنصرم، أطلق الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة مصطلحه الشعري الجديد، في كتاب صدر له بهذا الخصوص عن قصديدة النثر حيث سماها «القصيدة النثيرة» وقد لاقت هذا التمسية العديد من ردود الفعل الإيجابية والإشكالية معاً، خصوصاً ممن هم كانوا متحمّسين لهذا الفن الشعري، وكانت ردود المختلفين معه في الغالب، لا ترقى الى مستوى ما طرحه المناصرة من آراء وأفكار ومطارحات حول هذا الشكل الأجد، والأحدث من الشعر العربي.
في العراق ظهر الشاعر حسين مردان، وهو شاعر متمرّد وإشكالي وذو مغامرات على الصعيد الشعري عموماً، فهو في البدء شاعر كلاسيكي، نظم الشعر مع رفيقه الشاعر بلند الحيدري، وعاصر السياب والبياتي ونازك الملائكة، كان يغرّد خارج السرب، فهو لم يتلق تعليماً نظامياً، كأقرانه من الشعراء الذين يكبرونه بعام واحد، ولم يتحدّر من عائلة متوسطة، أو غنية، أو معروفة كالملائكة وبلند والبياتي والسياب، بل تحدّر من عائلة مفككة وفقيرة، في قرية منسية من قرى محافظة واسط، تمرّد باكراً منذ قصائد ديوانه الأول «قصائد عارية» الذي حوكم بسببه مرّتين. وكونه لم ينضم الى الأربعة الكبار، في قضايا التجديد الشعري، التفت بعد فوات الأوان إلى النثر الشعري، فكتب في مطلع الستينيات القصيدة الحرة والمنثورة، فسمى ما كتبه بـ«النثر المركز» ثم جمع ما كتب ليصدره في كتاب جميل ومؤثر وحيوي عنوانه «الأزهار تورق داخل الصاعقة» محدثاً بذلك المزيد من ردود الفعل حول تجربته هذه، التي كانت تحاكي في الوقت عينه تجربة الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج، من ناحية الشكل الشعري الذي يقول إنه قد كتبه قبل هؤلاء، لكن التاريخ الشعري يثبت عكس ذلك، فالتوقيت الزمني لتجربته الفنية، قد جاء بعد مرور عام أو عامين على التجربة اللبنانية، فسمّاه «النثر المركّز» كتسمية بديلة عن تلك، لتضيع منه في المآل درجة الأسبقية الفنية، كما ضاعت منه في الشعر الجديد، مع أقرانه من الشعراء الرواد الأربعة.
جوهر القول، إن كل ما أوردته، فيما سبق أعلاه، هو توصّلي أنا كاتب هذه السطور إلى مصطلح جديد لقصيدة النثر، أطلقت عليه تسمية «شثر» وهو مصطلح متكّون من كلمتي شعر ونثر، تحمله ثلاثة حروف فقط، كبديل عن تسمية «قصيدة النثر» هذه المتكوّنة من عشرة حروف، وهو يحمل صفة عربية، وليست أجنبية، مستولدة، أو مستوردة، أو مستنزحة من الثقافة الفرنسية، حيث الشعر الفرنسي، وتحديداً وكما أشرنا في البدء، من كتاب الناقدة والكاتبة الفرنسية سوزان برنارد والموسوم «منذ بودلير وحتى أيامنا» وقد ترجم الكتاب إلى العربية في عدّة ترجمات، في كل من لبنان ومصر والعراق، وربما صدرت له ترجمات في بلدان عربية أخرى، ولاسيّما في بلدان المغرب العربي، هذه البلدان التي رحبّت كثيراً بالشكل الجديد، ربما نسبة لأصوله الفرنسية، أو نسبة لنسقه الجديد، الخالي من بعض القيود الشكلية، والمتحرر من الوصايا والفروض القديمة.
إن مصطلحي هذا هو مجرد مقترح جمالي وفني، وشعري بالدرجة الأولى، قد يسعف بعض المعنيين بأمر الشعر، أولئك الدارسين للأشكال الأدبية، والأنساق الشعرية، وطلبة البحوث والدراسات النظرية، والطروحات الجامعية، في التخفيف من هيمنة المصطلح الأجنبي، الذي راود هذه القصيدة، الخالية من الوزن والقافية، والإيقاع الظاهري، والمتحررة إلى حدّ ما، من البلاغة والنسق الشكلاني القديم، ومن الرؤية السلفية للشعر، على أنه الشعر الموزون، المقفّى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى