محمد فيض خالد - صائد اليعسوب.. قصة

على بُعدٍ تحومُ عصافير الحقل كالغَمام ، تملأ الجو بأصواتها المُرتعشة ،تحَملُ في أرجلها كسارة القَشِّ ، تستعد لتهيئة أعشاشها الجديدة، بعد دأبٍ مُجهد ستستقبل هذه الأكنان زقزقة الصِّغار ، تُغرق شقوق الجدران، وشواشي الصفصاف ، وبين عراجين البلح.

كَانَ المصَرفُ الصَّغير على قَذارتهِ ، الأُنس الذي يَتَّسع الجميع ،يعودوا إليه من بَعدِ العِشاء، يفترش الشيوخ في فوضى وتهالك الأرض الرَّطبة ،ليغيبوا في أحاديثِ النَّميمة المخلوطة في سَمرٍ أخاذ، يفتضوا معها أسرار بيوت القرية في جَسارةٍ وتوحش، يظلوا في تَرفِ الحديث حتَّى تأذن بنات الليل بالمَغيبِ ، كَان أكثر ما يشغلنا في جلستهم، تشاكسهمالمُترعبنزقِ الطفولة ، وضحكات البعض التي تشبه النُّباح، وألوان السِّباب مَنزوعة التحفظ، وسعالهم أكبرهم المُفضي إلى الموت ، ودعاء مجلسهم المحفوظ :” دع الخلق للخالق الله يسهل لعبيده”.

عند الصَّباح ِتَتدلى ألسنة الشَّمس من كَبِدِ السَّماء، تَلعقُ الرُّؤوس في اجتراء،يغلي التراب من تحت الأقدام غلي الحميم ، تنسابُ أشباح الظَّهيرة تتراقص في تَوهجٍ مُخيف ، لكن شيئا من هذا لم يكن ليعطِّل انطلاق الطُّفولة السَّاذجة، يَتقاطر الصِّبية من شقوقِ الأرض ، ماإن يقتربوا من الترعة ، حتى ينزعوا عنهم ثيابهم البالية ، ويلقوا بأنفسهم في الماء، ليغيب الشَّقاء بين طياتها الباردة ،فلا يتبقَّى غير ضحكاتهم تجلجل عفوية .

كان أول عهدي باليعسوب مع “بكر” الأعرج ، دَرَّبني في حَماسِ ، كيف احتال على الإمساك به ، يقول مُختالا :” لا تأته من الجنب ، الخلف أسلم ، ألا ترى عيناه كيف تتبدى كبيرة كحبة الفول ؟” ، لم اعرف في حياتي شخصا أوتي خفة يده ، لا يمدها وترجع فارغة ، تماديت في عبثي ، وبعد مُدةٍ تحَولت لصَيادٍ ماهر يُحسب حِسابه ، لا يمنعني عن تتبع هذه الكائنات الرَّقيقة مانع ، حتى تعنيف أمي وتوبيخها ، حين تراني اربط الخيط بعشراتٍ منها ، تلكزني في كتفي، لكنَّها تغض الطَّرف بعدها ، فلطالما ارحتها من رهقِ الصِّغار المعهود ،استفزني الغرور ، فاتخذت من صيدها حرفة اتكسب منها ، امتلأت جيوبي بحباتِ البّلح الأخضر والكشك ، بيد أن عشرات اللعنات ترافقني كظلي ، لأصبح مَلعونا كشيطانٍ رجيم انتزعت الرحمة من قلبهِ ،تنتفخ أوداج الشيخ ” معاطي” صاحب الكُتَّاب ، صائحا كالمجنون :” أنت ملعون بعددِ نجوم الَّسماء ما ذنب هذا الحيوان المسكين”، لم أكن لأعبأ بكلامهِ ، حتى كان مساء وبينما أنا اغطُّ في نومٍ عميق، وإذ بيعسوبٍ عملاق يسد الأفق ، اقتربَ مني حتى أمسك بتلابيبي وطار بي بين السماء والأرض ، على وقعِ صَرخاتي وتوسلاتي اجتمعَ من في الدَّارِ ، انتبهت لأشرع في اطلقِ العشرات قد حوتها علب الكبريت ، عازما على ألاَّ أعود لهذا ثانية.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى