أحمد غانم عبد الجليل - عودة مقاتل..

سكت هدير القاذفات وتوقف ومض الصواريخ، وألقيتُ السلاح، مثلي مثل الكثيرين، بعد أن اعتادته يدايّ، كما لو أنه صار جزءًا مني، من جسدي، لا من حياتي فحسب، في المرة الأخيرة التي ركبت قطار العودة إلى بغداد شعرت أني سأحتاج إلى سنوات، أو حتى عقود، كي أستطيع نسيان اهتزاز كل عربة أقلتني من وإلى جبهات القتال، وإلى عمرٍ آخر كي تنمحي عن ذاكرتي أهوال الحرب وأحداثها المفزعة، لكني لم أسَلِم نفسي لذلك الهاجس الكئيب طويلًا، فما أن تجاوزنا خراب البصرة، أقصد الخراب الذي حل بالبصرة وأطرافها على مر انفجارات الحرب، حتى رحت اندمج مع الآخرين في أحاديث بعيدة كل البعد عما خلفناه وراءنا، كما لو كنا عائدين من رحلة عمل طارئ وآن الأوان لأخذ إجازة ننسى بها مشاق تلك السفرة الغريبة، والتي جعلتنا نرتدي ذات الزي الخالي من بهجة الحياة، مقسمين ألا نرتدي بعد ذلك سوى الألوان الزاهية والقمصان المزركشة ونحن نلتقي بالصديقات والحبيبات المنتظرات على أحر من جمر الشهوة عودة الشباب المقاتل من الجبهات، وكم وعدتنا الأحلام بمغامرات مع فاتنات بلادنا المنتصرة بعد سنوات من الغياب، أو الحضور المتقطع في كل إجازة، قد تكون الأخيرة قبل أن يستلب الموت عنفوان الحياة منا.
لحد الآن أتذكر سكرات تلك القهقهة المخبولة ومجون الثرثرة السخيفة التي رشفنا ثمالتها حتى أدركنا المحطة وسط العاصمة، وأتذكر أيضًا أني لم أعد إلى بيتنا في منطقة الوزيرية إلا بعد أيام، وأنا خالي الوفاض تمامًا، وقد غادرني حظ المبتدئين، بالإضافة إلى دينٍ راحت فوائده تتراكم بالساعات ما أن عرف المقامر الدائن أني ورثت ثروة كبيرة عن والدي، ومنذ ذلك اليوم تعلمت ألا أثرثر كثيرًا، وألا أتباهى بما أمتلك أثناء اللعب، ومنذ ذلك اليوم أيضًا بدأ شغفي غير المنقطع بتبديد كل ما لدي، وكأن بيني وبين ثروة والدي الذي بدأ يراكمها منذ زهو شبابه في العهد الملكي ثأرًا قديمًا ولا بد لي من الأخذ به حتى آخر تحفة في بيتنا واسع المساحة، كان قد اقتناها الوالد عهدًا تلو عهد، ومع كل تغير سياسي يجنح بالبعض ليرفع البعض الآخر، من قبل أن أضطر إلى بيع ذلك البيت أيضًا في نهاية المطاف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى