قصة فهد مرتيني - ريموسكي - كندا - على أنغام قيثارة باكو دي لوسيا

اتصل بي من سوريا قائلاً: ابن عمي، أتذْكُر لما قلتَ لي من زمان: يوماً ما سيفتح الأطباء بطنك ليكتشفوا أن أحشاءك مختلطة ببعضها، فلن يجدوا ما يفصل الكبد عن المعدة عن البنكرياس؟ هذا تماماً ما يحصل معي اليوم. قالها، ثم انفجر ضاحكاً بطريقته الخاصة في الضحك التي يعرفها أهلي جيداً. كانت تصلهم قهقهاته عابرة للجدران الفاصلة مع غرفة الضيوف، تقطع عليهم مشاهدة المسلسلات التلفزيونية المرفقة بإعلانات تجارية ليدركوا أن "أبو الروض" مع فهد في جلسة سمر غير تقليدية.

على أنغام غيتار باكو دي لوسيا وبيانو ريتشارد كلايدرمان، ستملأ غرفة الضيوف غمامةٌ كثيفة من الدخان، كلها من سجائر "أبو الروض"، وستسود تلك الغرفةَ المعزولة منزلياً أجواءٌ من المسامرة، تُطرح فيها كلُ الأحاديث غير المتداولة. سنحلّق معاً بأفكارنا خارج السرب، ننتشي من انتهاك حرمات كل ما هو محظورٌ قوله أو التعبير عنه خارج الغرفة اجتماعياً، أو أدبياً، أو فنياً، أو سياسياً.

كنت أَقرأ له ما كتبتُ من خواطر، وكان يعزف لي ما أتقَنه على غيتاره الكلاسيك من المعزوفات الإسبانية وألحان الفلامينغو صعبة الأداء. كان جمهورنا مقتصراً علينا نحن الإثنين. أغلب المعزوفات التي كان يتعب في إجادتها هي من مقطوعات الكلاسيك أو الفلامينغو الإسبانية، بعضها مرتبط بمواقع أندلسية، مثل مقطوعات " كابريتشو عربي" و"ريكويردس دي لا ألامبرا" و"أستورياس" وكونشيرتو "دي آرنخويث" المستوحاة من حدائق قصر آرانخويث الملكي في إسبانيا.كنت أستغرب كيف استطاع "أبو الروض" أن يتعرف إلى ذلك الجانب الثقافي الإسباني العريق في زمنٍ من الحصار والعزلة في سوريا في ثمانينات القرن الماضي. لم تكن الإنترنت موجودةً بعد، بل وقتها لم يكنْ يتوافر في سوريا وسائل إعلام سوى بعض الصحف المحلية وقناة تلفزيونية رسمية وحيدة، لكن كان من الصعب أن تشتري تلفزيون أو أدوات منزلية. إذ لم تكن توجد سوى مؤسسات استهلاكية عامة وبضعة حوانيت خالية تقريباً من أي شيء. وجرت العادة في تلك الحقبة أن يرسل الناس أولادهم في رحلات مدرسية لتهريب الموز والمناديل الورقية والمعلبات من لبنان عبر معبر العريضة.

استطاع "أبو الروض" في تلك الفترة من الانغلاق والعوَز المادي والفقر الثقافي أن ينقل لي لوناً موسيقياً مهملاً في عالمنا العربي المعاصر على أهميته. فحتى يتقن أي معزوفة، كان عليه أن يسافر إلى متجر وحيد للأدوات الموسيقية الكلاسيكية في العزيزية في حلب، صاحبه من أواخر اليهود الذين استوطنوا حي الجميلية في المدينة. كان يدفع له "أبو الروض" من راتبه البسيط كمدرس رياضيات ثمناً غالياً لصفحتين منسوختين بشكلٍ رديء لإحدى المقطوعات الكلاسيكية المتوفرة اليوم بسهولة ومجاناً على الإنترنت. كان حصول أبو الروض على النوتة الموسيقية يُعد كنزاً ثميناً، يسافر به بالقطار إلى أستاذه في اللاذقية "سمير الرَيِّس" كي يستخرجا معاً المعزوفة، ثم يقضي وقتاً طويلاً في التدرب عليها قبل أن يتمكن من إتقانها. وبعدها تأتي المهمة الأصعب في التجربة، وهي العثور على شخص مستعدٍ لسماعها. لذلك، كلما تعلَّم مقطوعة جديدة يأتيني ممتناً لاستعدادي لسماع إنجازه الموسيقي ومتحفزاً لاستعراض مهارته في العزف أمامي:

  • سماع هالمقطوعة الفانتازية، شي بيعجبك كتير، مستوحاة من رقص التانغو بإيقاع بطيء. اسمها زامبرا Zambra، أصلها "زَمْرا" من العربية الأندلسية.
  • إي والله، متل ما نقول بالعامية "زَمرْ"، أو مثل قول جبران:
  • هزّ بالإيقاع أفلاكاً ولم ... يصحب العود به طبلا وزمرا
  • إي متل ما عمقلك تماماً، زمرا هههههههه
يقهقه عالياً منتشياً بقدرته على إدهاشي من خلال النبش في خبايا التراث الموسيقي الأندلسي المدفون.

  • هلأ بدي ياك تطول لي بالك شوي. حتى أُسمعك زامبرا وتنبسط عليها، لازم يا ابن عمي اضبط دوزان وتر "المي" السادس على "الري" لتخفيف أدائه وليتناغم مع الوتر الرابع.
كان ينهمك سماعياً في الإصغاء إلى أوتار الغيتار أثناء النقر عليها لضبط نغمتها، بينما كنتُ أحلّل له علمياً ظاهرة الطنين في نظرية الاهتزاز بين الأوتار:

  • لاحظ، عندما تضبط وترين على نفس النغمة فإن النقر على الوتر الأول سيجعل الثاني يهتز تلقائياً من شدة الانفعال، فالتوافق في دور حركتين اهتزازيتين يرفع من حدة مطال الحركة لدرجة مدهشة...
يقاطع استرسالي في الحديث مقهقهاً، ساخراً من طريقتي في حشر العلم بالفن:

  • مع أني أستاذ في الرياضيات واسمي رياض، لكن القضية لا تحتاج إلى علم أو رياضيات. الأذن الموسيقية تستطيع معرفة تردد الأوتار من دون قياس. ضبط دوزان الغيتار لا يحتاج إلا إلى حس سماعي أثناء النقر على الوترين تباعاً. فقط أَنصتْ بإحساسك لتشعر بالتناغم والانسجام بين الوترين. هكذا (ينقر على الوتري): "تا.. تاااا.." ههههههه.
  • معك حق. أعتقد أن أدمغتنا تضم معلومات هائلة عن قوانين الكون، نستخدمها بشكلٍ عفوي. وما تعلُقنا بالفن والأدب والموسيقا إلا نتيجةً لرغبتنا الدفينة في التعبير عما استوحيناه من تلك المكتنزات...
ودون أي تعليق على ما أقول، يرتشف "أبو الروض" شارداً رشفة شاي من كأسه، مصحوبةً بنفسٍ عميقٍ من دخان سيجارته، لأعلم من خلال ذلك أن كلامي لم يعجبه وبأنه سيشرع بالعزف.

"زامبرا"... تلك المقطوعة الساحرة تجعلني أحلّق عالياً فوق المدائن متجاهلاً الحدود الفاصلة بين البلدان. يأتيني لحنُها الهادئ عابراً للتاريخ والثقافات. مع أن المقطوعة تم تأليفها في الغرب ويتم عزفها على آلةٍ غربية، إلا أن أنغامها الأندلسية تجعلني أتخيل صوراً من الشرق لجِمالٍ تسير في الصحراء رويداً رويداً. كل هذا في أجواء غرفة الضيوف المكتظة بالدخان، وعلى رشفات أكواب الشاي الممشوقة.

كان ابريق الشاي يرافق "أبو الروض" حيثما حل، وقد ورثت عنه تلك العادة الحميمة. المصطلح المتداول بيننا فور دخوله منزلنا: "بعبيلك شاي؟" كنت أسأله وأعرف الجواب، وما هو المطلوب. ستزوِّدنا أختي احتفالاً بقدومه بإبريق شاي كبير مع كاسات ممشوقة القوام حسب طلبه، وسترافقها علبة سكر عارمة. كلها من أجل "أبو الروض"، فقد كان يشرب الشاي بالكميات التي لا تعرفونها، ويخلط نصف الكأس بالسكر. يدخن ويشرب الشاي بشكل متواصل طوال السهرة. أرجوكم لا تتساءلوا الآن عن الصحة والسرطان ونسبة السكر في الدم، فمن أقوال "أبو الروض" المأثورة: "بدي ضل اشرب حتى يفرط قلبي وكبدي". يقولها ثم يقهقه عالياً بضحكته المشهورة التي لم أسمعها من أحد غيره.

إذا كنت من الأشخاص المفرطين في الواقعية، أنصحك بعدم متابعة القراءة حرصاً على صحتك، ولأنك ربما لن تفهم عليّ شيئاً، فقد كان "أبو الروض" أبعد ما يكون عن النجاح والتفوق والتنافس الاجتماعي. ومع أن لديه القدرات الفنية والذهنية الموروثة الكافية لتحقيق الكثير من النجاحات، لكنه اختار أن يكون دوماً في صحبة عنصرين هامين ومهملين في حياتنا اليومية: الإنسان والطبيعة، السلعتان الأساسيتان اللتان توقع كارل ماركس أن تقضي عليهما الرأسمالية، مع أنها تعتمد عليهما في تحقيق كيانها.

إذا كنت لا تعرف "أبو الروض" ولكن تعرف الشاعر محمد الماغوط، فأنت تعرفه إذن جيداً. الشبه الكبير بينهما بدنياً وروحياً، لا يدركه إلا من قرأ محمد الماغوط وتنادم مع "أبو الروض". عندما أهرم جسمُه المرض، كتب محمد الماغوط: لم يعد هناك من علاقة حميمية بين جسدي وعقلي. لم أراع جسدي. كل ما يمكن أن يمارسه الشاب من سكر، جنس، عربدة، مارسته باكرا، بغزارة. ها هو جسدي ينتقم مني رويداً رويداً. عندما اتصل بي "أبو الروض" تلك الليلة، كان في المشفى يخضع لتجارب الأطباء لسبر ذلك البدن الغريب. أخبرني وهو يقهقه عالياً بأن ما يشوبه سيحيّر الأطباء، سيضربون أخماسَهم بأسداسهم، فالألم يأتيه من كل أنحاء البدن، لا يمكنه أن يحدد لهم مصدره.

هكذا كان "أبو الروض" يخلق دوماً من مآسايه سيناريوهات ساخرة لإمتاع مُجالسيه. أذكرُ أننا قررنا في ليلةٍ ماطرة أن ننهي سهرتنا بصندويشة سودة (كبد مشوية) على حطب الزيتون. حملت مظلتي لأحمي بها صلعتينا، وقد كان "أبو الروض" يفوقني طولاً فأضطر لأرفع المظلة عالياً كي أظلله من المطر. في الطريق إلى عربة المشاوي قرب مدرسة الخنساء في إدلب في الشمال الغربي من سورية، كنت منهمكاً بالحديث ونحن نحث السير نحو صندويشة السودة. التفتُ لأكتشف أنني كنت أحدث نفسي، فقد كان "أبو الروض" مستلقياً على ظهره على الرصيف وكأنه نائم. كانت حجته أنه لم يعد يستطيع أن يعاود النهوض بعد أن تزحلق، لكنه في الواقع كان يستريح من حديثي المسترسل، مفضلاً عليه جلسة استرخاء وتأمل تحت حبيبات المطر. عندما كان يركب الدراجة النارية خلفي، كنت غالباً ما أضطر للنزول وترك الدراجة مركونة على حافة الطريق لأتمكن من متابعة الضحك عندما كان "أبو الروض" يحدثني عن سيناريوهات مآسيه بسخريةٍ مفرطة.

من شدة ما حدثتُ طفلي عنه، وهو لا يعرفه، عندما عَلِم أنه مريض، كتب رسالةً إلى بابا نويل ليخبره بها أنه لا يريد هدية هذا العام، وإنما يتمنى أن ينال "أبو الروض" العناية الكافية في المستشفى في سورية ليتعافى.

آخر مرة اتصل بي من المشفى، لا ليخبرني بأنه في حالٍ يرثى لها، وإنما ليسألني عن حالتي النفسية، وعن إنجازاتي ومخططاتي للمستقبل. آخر رسالة وصلتني منه على الواتس أب وهو في المشفى: طمني عنك ابن عمي، أنت مبسوط؟ آخر مرة اتصل بي ولم أرُد، كنت مشغولاً بتوافه الحياة اليومية لإنجاز بعض "الواجبات". مضى أسبوعان، وفي آخر كل مساء، أقول لنفسي سأتصل به غداً. تذكرت بعدها قولاً لأحد المشاهير: أَجِّل إلى الغد، ما لن تفعله أبداً. هكذا سأكمل بقية حياتي أتساءل كلما احتسيتُ كأس شاي ممشوق القوام: ترى ما الذي كنت تريد أن تخبرني به أو تقوله لي في آخر اتصالٍ لك معي، "أبو الروض" ولم أَرُدْ.

للاستماع على يوتيوب إلى المعزوفات الوارد ذكرها في القصة، انقر على الرابط المرفق بالنص الإنكليزي:





  • كابريتشو عربي ألفها الملحن الإسباني فرانسيسكو تاريجا عام 1892 بعد رحلة طويلة عبر الأندلس وشمال إفريقيا، تعزفها العازفة البريطانية أليكساندرا ويتينغهام:
  • Capricho Arabe (Francisco Tárrega) - Alexandra Whittingham


  • ريكويردس دي لا ألامبرا Recuerdos de la Alhambra (ذكريات قصر الحمراء): من ألحان الإسباني فرانسيسكو تاريجا، تعزفها العازفة الإسبانية إيزابيل مارتينيز، وهي تعد من أصعب المقطوعات أداءً.
  • Recuerdos de la Alhambra (Francisco Tárrega) - Isabel Martínez, guitar


  • كونشيرتو "دي آرنخويث" للمؤلف الموسيقي الإسباني خواكين رودريغو. أداء عازف الغيتار الإسباني باكو دي لوسيا
  • Paco De Lucía - Concierto de Aranjuez


  • أجمل عروض فلامنكو الرومبا التي أنشأها باكو دي لوسيا. تعتبر معزوفة "Entre dos Aguas" من روائع الفلامنكو، وهي الأكثر شهرة لدي لوسيا مع أنها كانت مرتجلة (لم تكن مكتوبة أثناء تسجيلها)، وقد شاركه أخوه العزف على غيتار الباص:
Paco de Lucia - Entre dos aguas (1976)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى