حسام المقدم - حِسها الحلو..

تغني نجاة "عيون القلب" على شاشة تليفزيون أبيض وأسود، بفستان أبيض نوعا ما أو رمادي. ربما كان ذلك في أواخر الثمانينيات، وبجواري تجلس جدتي، التي لم تتكلم مرة واحدة عن الأغاني والمغنيين، ولا يدخل هذا الكلام في حساباتها، كواحدة من ملايين ضمن أجيال عاشت نهارات وليالي وأعواما طويلة في الغيطان، في الغيطان فعلا، بلا كهربا ولا راديو ولا تليفزيون، ولما جاءتهم هذه الأشياء كانوا كبروا، وتعودوا على النوم "البَدري" والصحيان مع شقشقة الفجر، بلا وجع دماغ على الفاضي كما كانت تقول! صبرت صبر أيوب على مشاوير السكك، في "ضَم" ودَرْس الغَلّة، وملخ وتوزيع وشتل الرز، وبعد ذلك بشهور.. ضمه ورصه في الشارع ليهرسه الجرّار، وشغل ماكينة الدّراوَة البطيئة المملة في ذلك الزمن كما رأيتُ بعيني، قبل أن تظهر الماكينات الحديثة. حَكَت لي عن "النورج" الذي لم أره، والكثير الكثير من الشغل الذي لم يكن ينتهي.
كنا بعد العِشاء، فوجئتُ بجدتي تفيق من غفوة قصيرة، وتنظر منتبهة إلى التليفزيون، بينما "نجاة" على الشاشة: "دا قال لي في يوم.. يا حبيبتي.. خُدِي القمر...".
قالت بدون مقدمات: "مين دي يا وَلَه، مين اللي حِسّها طالع دي".
قلتُ: "دي نجاة يا سِت، واحدة بتغني".
مصمصت شفتيها وقالت: "حِسّها حلو"، وراحت في غفوتها من جديد.
"حسها حلو"، كلمة معروفة يقولها كثيرون غير جدتي، في تعبير عن الصوت الجميل الواصل، لكن.. أين الحس من الصوت؟ مسافة كبيرة تفصل بين "حسها حلو" كما قالت و"صوتها حلو" كما نقول، الحس أشمل وأغني كثيرا من مجرد الصوت الطالع.
مع أول تليفزيون ملون اكتشفت أن فستان نجاة أصفر وليس رماديا أو أبيض، لكن.. بقي حتى الآن هذا القمر الأبيض الذي يظهر خلفها على المسرح وهي تغني: "..يا حبيبتي خُدي القمر"، وظل أهم شيء بعد كل تلك السنوات: مصمصة شفاه جدتي، و... حِسها حلو.
**

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى