مزهر جبر الساعدي - سنتان متشابهتان مختلفتان

أخيراً عثرت على الورقتين، ورقتين لا غير.كانت بي رغبة قوية، من أني يجب أن أجدها في مكان ما بين كتبي وأوراقي الموجودة في مكتبتي التى تركتها لأكثر من عقد.أما كيف تذكرتها في هذا اليوم وليس قبل ذلك ، مثلاً قبل يومين أوشهرأو أكثر،هذا ما ذكرتني بها، صورة صاحبة الورقتين، بالصدفة وجدت صورتها بين ملفاتي وأوراقي وكتبي. أمضيت أكثر من ساعة، أقلب فيها،علّني أجد الورقتين. كنت متأكد أن فاطمة سلمتني الورقتين مع صورتها،هذا التأكد جاء بعد أن تدفق من مخازن ذاكرتي وقائع ذاك اليوم. قبل أن نفترق ونتوادع على أمل اللقاء في الغد. أمام باب الكلية،وضعتهما في يدي أثناء الموادعة بأبتسامة رقيقة، رقة فائضة،بسبب نعومتها المفرطة كأني بها هي وصاحبتها، حدثت الآن في هذه اللحظة. ومن ثم طلبت مني الحظور في الساعة العاشرة.قالت:- ( نفس القاعة، القاعة التي كنا فيها الآن). للإستماع لمناقشتي الخاصة برسالة الماجستير خاصتي. بعد إن أخذ مني التعب شيء الكثير من جهدي، كدت أؤجل بحثي عن أوراق فاطمة الى الغد. ثم أخذت أعيد تقليب صفحات الكتب علّني أجدها. على الرغم من تفتيشي عنها في ذات الكتب . قلت لنفسي ربما أفلتت مني أثناء تصفحي أياها. بدأت بها، كتاب، كتاب، أقلب أوراق الكتاب قبل أن أعيده الى المكتبة، ورقة ورقة . في الكتاب العشرين ، رواية الأخوة الأعداء لنيكوس كازنتزاكي، وجدتها فيه.أخذت الورقتين ونحيت الكتاب عني. صارت الورقتان أمام عيوني ككرسي الأعتراف ، عندما حطت عيوني على الكلمات فيها، لم تكن كلمات ، كانت سكاكين ألم. لم يكن هذا الذي قلته هو ما فيها من القول، لكنها أعادتني الى ما فات مني، ما فقدته من سنين عمري.أخذت أقرأ في الورقتين:-

حال ما أنتهيت من تدوين ما أحتاجه من المخطوطة، أعدتها الى حيث كانت. خرجت من دار المخطوطات متعبة . في الشارع لم أشأ أن أركب الباص. أردت المشي والتمتع بالنظر الى المباني والناس. ظللت أمشي بخطوات وئيدة. عندما عبرت الجسر الى جانب الكرخ،أحسست بحاجتي الى أن أستريح قليلاً.أغراني منظر المياه في النهر.وبالذات الآن، في هذا المساء،جلست على أحد المصاطب.خلفي، بعد الكورنيش،حديقة صغيرة، تحيط بها المنازل من جهة اليسار، هي الأخرى صغيرة، الجسر من الجهة اليمنى. أحسست بأني خارج المكان،داخل ما أتفكر فيه في لحظتي هذه. أمامي في الجهة المقابلة،بناية المدرسة المستنصرية. تداخلت في ذهني الأشياء والأزمان. غابت الصور عن مرأى عيوني. الموجودات التى أمامي وحولي حلقت بعيداً، حتى لم أعد أبصرها.لاتزال أوراقي في حقيبتي المعلقة على كتفي. تحركت ما فيها من كلمات،تحركت داخل دماغي ، حركات صورية. ثم أندمجت معها كأنها عالم من الحياة المتحركة أمامي. لم تكن حركة مريحة لنفسي، كانت مؤلمة لذات نفسي. بثت في المكان،واقع غيرالواقع، ليس في أمكاني الأبتعاد عنه.من غير أرادة مني،أنهضني دماغي، لم يكن كل دماغي، مكاناً محدداً فيه،ظل يلح عليَ بمغادرة المكان.أستجابت رغبات روحي لغوايته.بضعة أشخاص يقفون في المساحة بين جرف النهر والمدرسة المستنصرية.أحدهم، ظهر من شكله هو الأكبرعمراً من بينهم.الأخرون المحيطون به ينصتون إليه دون أدنى حركة منهم.أخذت مكاني على مقربة منه.أنا الأخرى أخذت أستمع إليه:- ……عملية الحرق حدثت قبل هذا العام الذي نحن فيه، عام 643هـ بسنوات طويلة، طويلة جداً.أثناء أعدادي لدراسة عن متصوفة بغداد والفرق الأخرى المتجادلة وأغلب الأحيان المتصارعة. عثرت على مخطوطة صغيرة عن يوم إحراق الحسين بن منصور الحلاج.كتبها شاهد عيان كان من محبي الحلاج.سوف أقرأ لكم ما كتبه الرجل قبل أن تغيب الشمس ويختفي ضوؤها:- كنت قد أنتهيت من أدائي لصلاة العشاء،أستليت من مكتبتي مخطوطة لأشعار الحلاج،أمتع روحي وعقلي في قراءتها.لكن ما كادت عيوني تقع على أول كلمة من الأشعارإلا وأذاني سبقتها الى صوت المنادي في دروب الليل، يقول:- السامع يبلغ الغائب، غداًقبل ان تغيب الشمس، في الساحة الكائنة في الكرخ، على مقربة من جرف النهر،بأمر من قاضي بغداد، يتم حرق الزنديق المشرك بالله الحسين بن منصور الملقب بالحلاج.أمضيت الليل ساهراً.أتفكر في الرجل الفقيه، الشاعروالمتصوف.فكرة تأخذني الى أخرى والليل يرفض أن ينقظي.أتطلع من النافذة الى الظلام الذي هو الآخر لا ينجلي.أقول لليل بغداد ألا من نهاية ففي كل جنبة منك ياليل يظهر الوشاة ويختفون دون أن يعرفهم أحد.منك تتوالد الظلمات يا ليل.ظللت على وضعي هذا الى أن طلع الصبح.قبل الغروب، وصلت الى الساحة، ساحة واسعة ،مفتوحة على كتف النهر، نهر دجلة. شعرت بإرتباك وإضطراب لاحدود له عندما أبلغتني عيوني من مكان سقوطها على الساحة، الحلاج، هناك مجندل بالسلاسل ،يحيط به الجند من الجانبين. وجمع كبير من الناس منتشر في الساحة.وسعت خطواتي الى الناس في الساحة وإليه.أردت أن أكون بينهم وأفك قيده. أحرره من الجلادين.أحاججهم وأفند أتهاماتهم .هذا ما أوهمتني به قناعاتي المؤسسة على ماعندي من سلاح أقوى مما عندهم.قلت:-( الحجة بالحجة).فأنا أعرف الحلاج ،عرفته من خلال الكلمات ، كلماته وشعره. معرفة عميقة للوجود والكون والله،وفي محبة الله. فتحت كلماته أقفال الدروب المؤدية الى سر الوجود.الى الموجودات من خلق الله، وضع بها،رؤيته الى مسبب الاسباب،المتجلية في مكونات خلائقه. أصبحت بين الناس، قرب الجلادين.ثم أقتربت أكثر حتى صرت أمام كبير الجلادين. خاطبته بنبرة عالية، وصوتي مرتجف من شدة أنفعالي:

– ما تعمله ظلم وعار، لا تعرف من تقتل، أنه الحسين بن منصور الحلاج،.لم أسمع الرد ، ضاع مني، ضيعه صراخ حملةالحطب. وهم يضعون الحطب على زند النهر، نهر دجلة:

– هذا الشيخ زنديق يجب إحراقه. صراخ لاحدود له.ثم في اللحظة التالية إبتعد عني كبيرالجلادين.كنت اتألم وأتسأل :- كيف السبيل الى أنقاذ الحلاج. لم أبتعد أو أتحرك خطوة عن مكاني. وأنا في دوامة وضعي ، أفتش عن الطريق الذي يقود الى منع الجريمة. أقترب مني عدد من الناس وهم صامتون يبحلقون في وجهي، أنتظرت أن يقول أحد منهم كلمة،لم يفتح أي منهم فاهه.عندما رفعت عيوني عنهم، الى ما وراءهم، وقعت على بساط من الصمت الآدمي.أبصر دماغي عندما تحرك في تجواله في دواخلهم،أراني النيران المستعرة.تيقنت من حقيقة وجودها فيهم، عندما وضعت أمامي، مرسلات عيوني،وجوهم المتجهمة، المتألمة، وأجسادهم المختضة من قوة أوجاع الروح فيهم،رغم جميع هذا الذي فيها، لم تتحرك من مكانها أبداً. يقفون على بعد أمتار من الجلادين.يسمعونهم وهم يقولون:- أنه زنديق، أشرك في الله. سألتهم، سألت الجلادين:

– كيف؟….

– قاضي بغداد ، أصدر حكمه عليه بالحرق لأنه كفر بالله.

لم أكد أجيب وأذا بالحلاج ينشد

اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي

ومماتي في حياتي وحياتي في مماتي

ثم ضاع مني صوت الشيخ، إختفى بين صراخ

حملة الحطب،المندمجون مع الجلادين، موقدون النار بعد دقائق. تأكدت من أن هؤلاء الناس، لا أحد منهم، قرأ أو عرف شيئاً من كتابات الحلاج.بت على يقين من أني لا أستطيع عمل أي شيء لأنقاذه.رأيت على مقربة مني، النار،تشتعل في ركام الحطب.الجلادون، موقدون النار، أقتربوا من الجند. أخذوا منهم الشيخ. ثم أومأوا الى أثنين أخرين.ربما أحدهم هومن نقل كلام الحلاج. عندما سأله أحد المارين :- أين الله؟ أجابه الشيخ قبل دخوله المسجد:- في جبتي،كان يعني بقوله هذا،إن الله يتجلى في خلقه. قذفوا الشيخ الى النار التى أصبحت كتلاً من اللهيب المستعر. لم أتحمل حرارتها، أبتعدت . أبكي الشيخ. راعني صمت الناس لفعل الجلاد.مع أني من رويتي لهم وهم على بعد أمتار من الجلادين والجند، من سيمائهم،دلني عقلي من أول ماأبصرتهم فيها وهم على بعد أمتار من الجلادين،أنهم يرفضون فعل قاضي بغداد.قلت مع نفسي ما فائدة الرفض الصموت والشيخ الآن تأكل جسده النار.ماذا لو هب هؤلاء الناس،أكيد، يقتلعون الجلادين والجند. أخيراً خمدت النار وصار الحلاج رماد. نثره الجلادون في سماء بغداد.أنسحبت من المكان وأنا أكفكف دموعي من قسوة قاضي بغداد….عندما إنتهيت من قراءة قصة فاطمة. تأكدت سبب طلبها مني، أن لا أقرأها، إلإبعد المناقشة.الآن حطت أمامي بصوره واضحة، مثل فيلم سينمائي، كلماتها معي عند باب الكلية ونحن نفترق:- هذه القصة القصيرة كتبتها من دراستي لما تركه لنا الحلاج من شعر وفلسفة وما جرى له على يد جلاديه. كان ذلك اليوم هو اليوم الذي ودعتها فيه، يوم 2/9/1990

لم أرها بعد ذلك أبداً ….لأني ألتحقت بالخدمة العسكرية يوم 3/9/1990.أخر يوم لألتحاق مواليدي فيه.لا أدري بموعد سوقي، أبلغني صديقي عمر به، في الليل.هو الآخر لايعلم، صدفة إطلع على الأمر…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى