حوار طويل دار بين الكاتب علي جبار عطية والروائي الراحل حسن مطلك كان وقتها حسن في بداياته

س/: كتبت رواية (دابادا)، فماذا تقصد بهذا الاسم؟ وما الذي تريد تحقيقه من ورائها؟
ج: أعني بـ(دابادا) ما بعد اللغة، وحين انتهيت من كتابتها عرضتها على عدد من دور النشر في العراق، فرفضت طباعتها مما اضطرني إلى طبعها في بيروت ، فطبعت ثلاثة آلاف نسخة، وكلّفتني ألف، وثلاث مئة دينار عراقي (٣٩٠٠ دولار أمريكي). لقد أكدتُ في هذه الرواية خطّي المتميّز في صنع عالم ما بعد اللغة، وتجسيد الانتظار، وصنع النص المزدوج الذي فيه معنيان؛ ظاهر ومضمر، وتناولت الهجران من باب أنّ الإنسان يعيش دائما في حالة هجران .
***
س/: لكنّ القارئ قد لا يستطيع إكمال قراءة روايتك !
ج: لا أريد القارئ الكسول. ويسعدني أن تترك روايتي قبل أن تكملها.. فالرواية التي تتحدّاك تنفعك.
***
س/: كيف استقبل النقّاد روايتك؟
ج: لقد كتب القاص موسى كريدي عن الرواية: إنها تعدّ فتحا في عالم الرواية العراقية المغلق، وللناقد عبد الله إبراهيم رأي مشابه ظهر في جريدة (القادسية)، ولقد قال لي الناقد علي عباس علوان أنه (عنّف) أولاده بعد قراءته للرواية !
***
س/: وما موقف النقاد الشباب من الرواية؟
ج: صنف الناقد خضير ميري روايتي بالمصطلح الذي أعمل عليه (الواقعية المطلقة)، ورأى بأنها تجمع كل المدارس الأدبية من كلاسيكيّة، واشتراكيّة، وطليعيّة، ونفسيّة، واجتماعيّة، ورومانسيّة، وغيرها.
***
س: بمناسبة ذكر اسم (خضير ميري)، برأيك لماذا يهاجمه بعضهم برغم ثقافته الموسوعيّة؟
ج: ذلك لأنّه يدلّ هذا (البعض) على نقص معرفته. وهنا يحدث التصادم، ويثير الزوابع في كلّ أمسية.. لأنّه قد وصل إلى درجة عالية من الوعي برغم رأسه الصغير!
***
مثل ماذا؟
ج: في احدى الأمسيات أسكت خضير ميري الحاضرين حين طرح عليهم هذا السؤال: أنتم تتحدّثون عن الموسيقى في الشعر، فمن منكم يعدّد لي السلّم الموسيقي!؟… إنّ خضيّر ميري ذو قدرة عجيبة على القراءة، والتحمّل، وقد توصّلنا أنا وهو إلى أن الإنسان يعيش في إشكالية مستمرة؛ فما أن ينتهي من مشكلة حتى يقع في أخرى، وعليه (الإنسان) طرح الأسئلة دائماً، ومعرفة الأشياء.
***
س/: هل تظن أن الشخصية العراقية منقسمة؟
ج: أقول لك شيئاً: لقد كُلفتُ مع عددٍ من الباحثين من جهةٍ حكوميةٍ قبل سنوات بإجراء بحثٍ نفسي، بشأن الشخصية العراقية، وكانت النتيجة أنَّ الشخصية العراقية تعاني انقساماً، وحين أردنا رفع نتيجة البحث عقدنا إجتماعاً بشأن الصيغة وإختلفنا فبعضهم أراد تغيير صفة الشخصية من سلبية إلى إيجابيّة إلا أنّ الأستاذ المشرف رفض تغيير أيّة صيغة، وقال: إنَّ اجتماعنا بشأن تغيير الصيغة برغم معرفتنا بحقيقة انقسام شخصيتنا؛ دليلٌ على إنقسام الشخصية العراقية! وجرى رفع نتيجة البحث كما هي.
***
س/: بودّي معرفة آرائك بعدد من الأسماء الأدبيّة المؤثّرة مثل:(كافكا)؟
ج: إنَّ (كافكا) في روايته (المسخ) قد جسّد ضآلة إنسان في حشرة، فهو قد حوّل الإحساس بالمهانة لدى مساح أراض يحاول أن يكتشف العالم، إلى صورة مجسّدة، وهذه هي فضيلة كافكا، وسرّه.
***
س/: ومارسيل بروست؟
ج: إنّه أعظم روائي عالمي؛ فقد كتب رواية (البحث عن الزمن المفقود) في (٨) آلاف صفحة، ومات بعد كتابتها.
***
س/: وماذا عن دوستويفسكي ؟
ج: لعبته النفسيّة أصبحت مكشوفة.
***
س/: وكازنتزاكي ؟
ج: رائع في كلّ ما طرح.. خاصّة في (زوربا).
***
س/: وماركيز؟.
ج: يجيد صنعة الرواية، لكنه لا يضيف شيئا فكرياً للقارئ ؛ فهو سطحي.
***
س/: كثيرون تناولوا موضوع الحرب في كتاباتهم، فمن رسخ في ذهنك من هؤلاء؟
ج: إنَّ أعظم من كتب عن الحرب هو الكاتب الروسي (جنكيزايتماتوف) في روايته (جميلة).
***
س/: لـماذا؟
ج: لأنه ليس في روايته ذكر مباشر للحرب، فهي تدور فيما بعد الحرب، وتطرح معاناة فتاة روسية فقدت زوجه.. كذلك عن دكتاتورية الدولة هناك رواية إسمها (العجلة الحمراء) في خمسين مجلداً كتبها روائي اسمه (سولجينيتسن) يعيش خارج بلاده، وقد حصل على جائزة نوبل للآداب.. في هذه الرواية يتحدّث عن ثورة روسيا منذ سنة ١٩١٧م، ولحدّ الآن…. إنَّ في الإتحاد السوفيتي أشد أنواع الديكتاتوريات، فالمواطن هناك أينما يفتح المذياع يسمع : هنا موسكو! ولا يعرف عن أخبار العالم إلا ما تسمح به السلطة!
***
س/: ماذا عن الروائيّين العرب؟
ج: لا توجد رواية في العراق.. خذْ من (الطيب صالح) روايته (عرس الزين) لا ( موسم الهجرة إلى الشمال)… ومن مصر خذ (إبراهيم أصلان) لا نجيب محفوظ الواقعي الذي يمكنك حذف فصول من روايته من دون أن تؤثّر عليها ! أنا أريد من الكاتب أن يقصد الشيء في كلّ كلمة يكتبها بحيث لا يمكن حذفها… أتذكّر كلمةً للروائي (حنّا مينة) يقول فيها: يبدو إنني أكتب لصالح السلطة ؛ وإلا فما الذي يفسر بقائي حياً حتى الآن !؟
***
س/: عندك بكالوريوس في علم النفس وتعمل في التدريس، والنجارة والكهرباء، والسياقة، فهل هناك جوانب لا نعرفها عنك؟
ج: أنا أقرأ الفلسفة، والأدب، وأحفظ الكثير من الشعر القديم، والحديث.
***
لماذا هذا الشغف بالشعر؟
لقد بدأت حياتي شاعراً، لكنني أدركتُ بأن الشعر يحتاج إلى تضحيات كبيرة، فانقطعتُ عن كتابته، لكنّ علاقتي به مستمرّة قراءة، وحفظاً، ولا تستغرب إذا قلت لك أنني أحفظ حتّى لأصدقائي، ومن بينهم صديقي عبد الرزاق الربيعي.
***
س/: قضية القراءة، والكتابة تشغلك، أليس كذلك ؟
ج: نعم ولديَ دراسة عنوانها الحالي (الكتابة، والقراءة) حاولت فيها كشف أسرار صنعة الرواية لبعض الكتاب، أقول لك شيئاً: إنَّ أيّ شخصٍ بإمكانه أن يقرأ، ولكن أين هي الآراء؟ فلا تقل لي ما تعرفه نقلاً عن غيرك، بل قل لي: رأيك حتى لو كان ضعيفاً، والأدب هو الرأي.
***
س/: هل لديك بحوث أخرى؟
ج: كثيرة في مجالات المعرفة الإنسانية المختلفة، ولقد قمت ببحث حول الآثار الآشوريّة، فوجدت مثلاً؛ أن آلاتهم لا تختلف عن آلاتنا بشيء.. حتى الفأس نفسه!.
***
لماذا تهاجم العلم ؟!
ج: لأنَّ العلم خان الوعي، وحوّل الإنسان إلى آلةٍ. وعندي أن (كارل ماركس) ملعونٌ ملعونٌ.. فهو الذي جنى على البشرية !! وإنَّ كل ما وصل إليه العلم قد توقّف، وهو الآن يعمل على تطوير الأشياء ولهذا يجب الاتجاه نحو الإنسانيّات، ودراسة الإنسان؛ فهو السرّ الذي لم يُكـشَـف بـعد !.. إنَّ القتل بالرصاص، أو السيف، أو الحبل.. كلّها وسائل متأخرة ، لقد ظهر القتل بوسائل الإعلام.
***
س/: وماذا يجب علينا أن نفعل ؟
ج: أذكر في أحد الأيام أنَّي وجدتُ صديقيَّ الشاعرين فضل خلف جبر، وعبد الرزاق الربيعي يائسين فأخذتهما إلى منطقةٍ صخريةٍ ، ولفتُ نظرهما إلى نبتةٍ مدّت جذورها وسط الصخور مسافة إثني عشر متراً ، وقلتُ لهما: هذه النبتة متشبثة بالحياة إلى هذا الحد، فهل تكونان أقلّ منهما؟ يجب علينا أن نـتـشـبـث بـالأمـل.
أعلى