جاسم محمد صالح - اعوام التعب العشرون

ملامح التعب لاتزال واضحة في مسارت وجهه ، وحبيبات العرق المعجونة باشعة الشمس تنتشر هنا .. وهناك ، كان ضجرا من عمله الذي قضى فيه اكثر سني حياته ، ويعرف حق المعرفة ان عمله هذا لا يرتبط بروحيته أي ارتباط ، وانه لايشعر بلذة خلال ممارسته له ، فلقد تيقن ان طريقة هذا اخذ في التحول يوما بعد يوم الى سرطان رهيب يلتهمه دون ان يقدر على ايقافه، فلقمة العيش التي تحرق امعاءه ، وجوع زوجه المتوفاة ، تدفعه اكثر .. واكثر في هذا الطريق المغلق دون الاهتمام بكل المعايير الخلفية والاجتماعية .

ثمة احساس في قرارة ذاته انه كاذب في كل تصلرفاته ، انه مزيف ، بل انه كائن مسخ لهذه الانسانية ، والسنوات الملتهبة تمر كل حين بعربات لهيبها فوق جبهته وتترك فوقها اثار مسيرتها ، ولتقطع كل حبل بشده بهذه المجموعة البشرية التي تعيش .. وتحيا ، وتكافح من اجل اشياء كثيرة لاتشكل اللقمة فيها الا اخر عبارة من عبارات الثورة التي يحركها كل انسان في هذا العالم .

الدراهم المعدودات التي يحصل عليها في نهاية كل شهر لقاء عمله هذا, لم تعد كافية بعد اليوم لسد رمقه , والناس اولئك لم يعودوا بسطاء كما كانو ,ولم يكن بمقدوره الانان يرهبهم بطرقه القديمة , وان يحتال عليهم باساليب ماكرة ولم تعد وسيلة الابتزاز سهلة بعد اليوم , فالفهم والادراك قد عما كل انسان يسير في اجواء هذا الكوكب الارضي .

وتوالت الافكار فوق راسه تهشمه كالمطارق المتساقطة و ومر شريط من الخزن امام عينيه المتعبتين ليرى من خلال شفافيته الجوع الذي ينهش امعاء اطفاله ، وليشاهد المرض اللعين وهو ينخر كل خلية من اجسامهم .

هاهم اطفاله المحرومون يتساقطون الواحد تلو الاخر ثم ينهضون ليلعبوا لعبة الجوع والمرض على مسرح حياتهم

مرة اخرى - دون ان يتحرك ، وزوجته المسكينة هي الاخرى اللعبة ذاتها بشده وعنف ، واستمرت لعبتها ، ولكن جاء يوم مليء بالعنف والثورة حدا بالممثلين المضطهدين ان يرموها جانبا من شرفة مطلة على العالم الاخر وهناك بدات تتحرك من جديد ولكن في عالم اخر ، فلقد توفيت في احدى المستشفيات دون عناية ، لا لشيء يذكر ، بل لانها زوج هذا المخلوق المرمي في بقعة النسيان ، حيث الفقر والجوع .. والمرض .

كانت الذكريات منبعا من الاحزان تثير فيه اكثر من رؤيا وامتداد ، كان يتمنى من اعماق فلبه ان يجمع نفط العالم كله ويصبه فوق هذه البسيطة ليحرقها ، وليحرق شرورها فقد ان للموتى ان يتكلموا .. وقد حان وقت التكلم

هناك على باب خطوات وقف رئيسه يراقبه هن كثب ، ثم بادره قائلا :

محمود كيف حالك ؟

فاجابه بلغة حزينة

مؤسفة للغاية ،

ارجعنا مرة اخرى لحدث الكابة والحزن استحلفك بالله ان تترك هذه الاشياء الان .

وكيف اتركها ؟ كيف تريد مني ان افعل ذلك ؟...

اما تثق بي لحد الان يا محمود ؟

وبعصبية مشوبة بالخوف اجاب بهدوء :

لا .. عفوا لمافعل اني لا اثق بك ولكن ارجوا عدم احراجي ودعني في همومي ارجوك .. ارجوك .

حسنا ساتتركك وتاملاتك ولكن يجب ان اخبرك بان مهمة تنتظرك في الغد ويجب ان تحضر نفسك لها وهاك ما تقول ، ودس في يده ورقة بيضاء فيها اكثر من سطر مكتوب فنظر اليها محمود نظرة عجلى فازداد امتعاضه الذي اسرع واخفاه بوضع الورقة في جيبه وسرعان ما ذهب رئيسة بعد ذلك تاركا المخاوف تصارع محمود لوحده .

ورت الساعات عليه مسرعة حتى رمته اخر الليل في فراشه كان يقظا بالرغم من انتصاف الليل وافكاره تدور في راسه دوران الافعى في بركة صغيرة من الماء والنجوم هناك هي الاخرى يقظة تبحث عن خل وانيس تريه بريقها .

كانت عيونه تتحول من نجمة الى نجمة هنا وهناك واخيرا تعود لتستقر في ذلك الفراغ السديمي المجهول ولتغرق في زرقته بعد ان سئمت من البحث عن رصيفه تلجأ اليه بعد اعوام التعب العشرين .

الكلمات المكتوبة في الورقة تحترق هي الاخرى في مجال رؤياه وتولد سخونة كالخشب المحترق والراس يحس بالام احتراق وازدياد فظيع في الدخان غدا الساعة العاشرة صباحا وعليه ان يتكلم بوضوح وبكثرة عن الاشياء غير الموجودة اصلا وذلك اثناء تكلم احدى الشخصيات المرموقة عليه ان يتكلم كلملته نفسها وبتلك الحنجرة المبحوحة وليقاطع في خطابه اكثر من مرة وليملأ الجو - كما ملأه من قبل - بالتهافات .

انبلج الصباح من ستار الليل الداكن ، وعادت النجوم والقمار الى هوتها السحيقة واطلت الشمس متثائبة تحمل نكهة جديدة وجمالاا طريا الطيور هي الاخرى تعلن فرحتها فتتحرك في مسارات جديدة وقام محمود من فراشه متاخرا وفمه جاف ولسانه يحس حرارة غير معهودة فلبس ثيابه واسرع دون تباطو حيث يكون العمل المعهود وهناك اعتلى شخص منصة .. واخذ في التكلم بما حسن وجمل من الكلمات المدبلجة والتي اعدها من قبل اختساصيو الكلمات والتي قبلت في اكثر من مناسبة وعلى لسان اكثر من شخص وطال الكلام حتى شارف على الانتاهء ولم يقاطعه محمود بهتافات فخمة كعهدة مع المتكلمين القدامى وحين احس بوجوده صعد فوق كتف احد الحاضرين ولكن نسي ما يريد قوله وانتهت الانظار اليه وتركزت فوقه تريد منه ان يقول شيئا وان يتكلم ترى لماذا اعتلى كتف احد الحاضرين ، وانثالت الكلمات من فمه تعلن مرارة الواقع الذي يعيشه ممزقة رداء الزيف الذي يلف هذه الحياة الممسوخة وعلت الاصوات مشجعة ومنددة وهنا انتهى الامر فلم يعد يعي من احساسه شيئا واظلمت الحياة في عينيه وتلاشى ضجيج العالم المسموع .

وشعر بعد حين انه في غرفة سوداء وفي سجن كبير يلفه الظلام والصمت ومد يديه يتحسس الالام التي تعشعش في اكثر من مكان منجسمه لقد بدا احساسه بالنظافة يزداد بعد ان دفع ثمن الحقيقة المطمورة في انتفاضة الان وبعد عشرين عاما من االكلام المليء بالزيف والدجل .


جاسم محمد صالح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى