حسن عبدالوارث - عبدالفتاح إسماعيل.. شاعر على حد السيف

اشتهر كثير من ملوك العرب وخلفائهم وأمرائهم ووزرائهم منذ الأزمنة الضاربة في القدم بقرضهم الشعر وإجادتهم ضرباً من فنون الأدب، بدءاً من امرئ القيس، مروراً بيزيد بن معاوية، وصولاً إلى أبي الوليد بن زيدون.. وتطول القائمة كلما امتد الزمن وتعاقبت الدول.. فثمة العشرات - وربما المئات - من الأسماء تتبدَّى في الذاكرة الشعرية العربية منذ العصر الجاهلي وحتى عصرنا هذا، أصحابها كانوا - وبعضهم لا يزالون - ذوي حُكْم أو شأن سياسي رفيع في دولهم ومجتمعاتهم.. وقد نافس الشاعر - لدى بعضهم - السياسي على نحو واضح.

شهدت اليمن هذه الظاهرة في فترات متفاوتة.. فالإمام أحمد حميد الدين الذي حكم اليمن خلال الفترة بين 1948 و1962 كان يقرض الشعر بإتقان واضح. كما كان القاضي عبد الرحمن الأرياني (ثاني رؤساء اليمن بين 1967 و1974) مشهوداً له بإجادة نظم الشعر وغيرها من فنون الكتابة والأدب. أما الأمير أحمد بن فضل - وهو من أمراء السلطنة العبدليّة في لحج جنوبي اليمن - فقد كان من أشهر وأقدر الشعراء اليمنيين في النصف الأول من القرن العشرين. والأمر ذاته ينطبق على العديد من الوزراء والقادة والسفراء خلال القرن المنصرم على الأقل.
وفي هذا المضمار عرفت اليمن - خلال حقبة السبعينات من القرن الماضي - زعيماً سياسياً بلغ موقع الرئاسة (في الدولة التي كانت قائمة في الشطر الجنوبي من اليمن قبل وحدة البلاد في 1990) هو عبد الفتاح إسماعيل الذي اشتهر شاعراً، وإنْ كان ينشر قصائده حينها ممهورة باسم أدبي هو «ذو يزن» نسبةً إلى القائد اليمني التاريخي سيف بن ذي يزن الذي حرَّر اليمن - في عهد قديم - من الاحتلال الحبشي ثم صار ملكاً على البلاد.
كان عبد الفتاح إسماعيل (أو ذو يزن) معروفاً لرفاقه في الحكم وفي الشارع السياسي والنطاق النخبوي بأنه مثقف واسع الاطلاع ومنهاجي التفكير والجدل، ويُحيط نفسه على الدوام بالأدباء والمفكرين وكبار المثقفين اليمنيين والعرب والأجانب الذين يخوض معهم حالات نقاشية ساخنة في قضايا وظواهر شتى: فلسفية وفكرية وأدبية وتاريخية، وقد صدرت مضامين بعض هذه المناقشات في كتب ونُشر بعضها في صحف ومجلات يمنية وعربية.. غير أن ما كان غير معروف عنه هو كتابته للشعر - بالفصحى والعامية - بسبب تخفّيه حينها وراء ذلك الاسم المستعار الذي كان يمهر به قصائده المنشورة في أوقات متفاوتة في صحف عدن ومجلاتها.. ولذا راح كثيرون - أدباء ونقاد وقراء - يتساءلون آنذاك عن الهوية الحقيقية لصاحب ذلك الاسم الأدبي؟.. وحين انكشف السرّ، لم تكن دهشة من عرفه عن كثب كبيرة، فقد عرفوا عنه سعة ثقافته الأدبية وحنكته في الكتابة والخطابة والجدل الموسوعي.
ومنذ ذلك الحين راح معظم الأدباء والنقاد يتابعون باهتمام شديد مسيرته الشعرية عبر صفحات الصحف والمجلات، وسرعان ما صدر له - وباسمه الأدبي ذاته - كتابه الشعري الأول «الكتابة بالسيف» الذي تضمَّن قصيدة ملحمية طويلة تُجسّد مسار النضال الوطني التحرري للشعب اليمني عبر سياقات تاريخية متصلة ومتداخلة منذ الزمن القديم وصولاً إلى التاريخ المعاصر في بُنية فنية وموضوعية بالغة الرمزية ومتقنة التكثيف ومترابطة النسج.
ومن المفارقات القَدَرية الموغلة في السخرية بلونها الأسود أن عبد الفتاح إسماعيل قُتل خلال الأحداث الدموية التي شهدتها عدن في منتصف يناير/‏كانون الثاني 1986 عندما اقتتل رفاق النهج السياسي الواحد فيما بينهم على السلطة. لقد احترق إسماعيل حينها داخل مدرعة تعرضت للقصف فيما كانت تُقله إلى مكان آمن خارج ساحة الاقتتال، حيث تفحَّمت جثته تماماً ولم يبقَ له أثر. وكان الرجل قد صوَّر هذا المشهد بالغ التراجيدية - في إحدى قصائده قبل نحو عقد زمني سابق لذلك اليوم المشؤوم - تصويراً دقيقاً يبعث على الدهشة المرعبة بما يكشف بجلاء صادم حقيقة ما يُطلق عليه بنبوءة الشاعر، ففي تلك القصيدة يقول: (أقدّمُ نفسي للنار/‏ فلأحترق الساعة/‏ كي ينبعث.. العصر من الجسد المحروق/‏ كتلةَ جمر تحرق لعبة الألوان/‏ وتكون اللون لترابك.. وأنا القربان).
وبالفعل، ذهب «ذو يزن» قرباناً للعبة الألوان في المواقف السياسية المتصادمة داخل بوتقة حزب ونظام شمولي لا يعترف بتعددية المواقف والمناهج والآراء، فكانت النار حاضنة حميمة للشاعر الذي وجد نفسه سياسياً في بلد غدت فيه السياسة ضرباً من المغامرة الخطرة للسير في حقل الألغام، أم تراه كان السياسي الذي وجد نفسه شاعراً في بلد شهد عداءً مجنوناً بين عرش الشعر وكرسي السلطة.
إن ما كان يُنشده عبد الفتاح إسماعيل في كل ما كتبه شعراً هو المعرفة الوجدانية الطازجة بلغة الإيقاع الداخلي للتحرر الشامل من كل قيود الحياة والتاريخ وأغلال الفكر والسياسة. وهذا ما كان يطمح إليه من خلال انتقالاته الواعية والمتخيلة في آن، بين مشاهد وشخوص التاريخ اليمني القديم ومطابقاتها على أرض الواقع المعاصر، أو من خلال اشتغالاته على المرويَّة السياسية أو الوطنية أو حتى الأسطورة وصورتها الموازية في اليمن الحديث، وقد أفاده في إتقان هذا المنحى ثقافته المزدوجة: التقليدية - الدينية من جهة، والعصرية - الفلسفية من جهة أخرى.
نجمة تقود البحر
يرى «أدونيس» أن التجربة الشعرية لذي يزن تتجلَّى في أن «العلاقات التي يقيمها مع الأشياء، علاقات تصوير وتخييل، لا تحليل وتعقيل. فشعره يرى إلى الإنسان والعالم والأشياء بطريقة تُغاير الرؤية السياسية، ويُعبّر عنها تبعاً لذلك بطرق تغاير طرق التعبير السياسي» بحسب ما جاء في سياق تقديمه لديوان ذي يزن «نجمة تقود البحر» الذي صدر بعد مقتله.
وفي هذا الديوان يتضح نضوج التجربة الشعرية التي خاضها عبد الفتاح إسماعيل، من حيث الشكل والمضمون معاً، ويبدو الفارق واضحاً بين قاموسه الشعري وتراكيبه الجمالية واللغوية وقوالبه الفنية في قصائده الأولى التي كتبها ونشرها في النصف الأول من السبعينات، وبين تلك التي يتضمَّنها هذا الديوان وهي حصيلة الفترة من أواخر السبعينات إلى منتصف الثمانينات، كمثال قصيدته «حوارية للتأمل» التي منها:
( قالوا: استبقتَ برق الزمان/‏ حملتَ من راحتيه سيفَ الضياء/‏ للمكان الذي يُعشعشُ في ضفَّتيه الظلام/‏ أجنحةُ الليل استيقظتْ/‏ أدركتْ معنى سحر الضياء/‏ فانتشرت.. أسدلت وزرها/‏ ركاماً كثيفاً فوق العيون المُسبَلة الجفن/‏ ظنتْ قوة إشعاعه تُبصر بُعْد المسافات من قُربها/‏ لكنها انبهرتْ.. أجفلتْ.. لا ترى).
وهو يرسم بالشعر درباً واضح الملامح لاهتداء رسالته الفكرية التي حملها طوال حياته وعبر منعطفات مساره النضالي المليء بالمطبات والأشواك والتي ترجمها شعرياً بأسلوب أخذ طابع الهوية الواضحة لشخصيته المزدوجة أو المتزاوجة بين الشاعر الملهم والقائد السياسي والمناضل الثوري:
( وها إنّي أمضي/‏ أحتضن ورود الآفاق شاخصاً إلى الأمام وأمضي/‏ أنا فكرةٌ في العقول/‏ فكيف تزول؟ /‏ ومنها تفرَّعَ سيفي بين الجموع سيوفا/‏ إن المرايا مشروخةٌ/‏ لكن النجمة في قلبها/‏ تُلحمها.. تصقلها/‏ وأبوابها مفتوحةٌ للضياء ).
أما في قصيدته «الكتابة بالسيف» فيتمثَّل الشخصية اليمنية التاريخية عمرو بن معدي كرب الزبيدي الشهير بشجاعته وتمرده على سلطة الظلم والهيمنة والاستحواذ والداعي إلى العدالة الاجتماعية. وقد اتَّخذ ذو يزن من هذه الشخصية قناعاً فنياً لتشكيل المفاتيح الهامة لفهم هذا العمل الشعري الذي اشتغل من خلاله على جملة من العناصر الفلسفية والتاريخية والأسطورية، إذْ جعل القصيدة مُنساقةً في حوار متصل لعمرو بن معدي كرب، منتقلاً فيه من حالة المونولوج إلى فسحة الديالوج بتناغم شائق وإنْ بدا شائكاً في بعض تجلياته:
(متى كانت الأرض/‏ في دورة اليوم/‏ بمنأى الزلازل؟/‏ والنهر في الجذر/‏ متى كان يوماً عن الموج غافل؟ /‏ والشمس إنْ كسفتْ/‏ نورها ظلالٌ/‏ فتحت الظلال نجومٌ تقاتل/‏ فعودوا إلى الأرض/‏ فالشمسُ قبْلتُكم/‏ وغوصوا مراراً في النهر، غوصوا/‏ يعودُ لكم وجهكم/‏ ويُزهرُ دمعُ المآسي سنابل). وحين رحل صديقه ورفيق دربه في النضال والفكر عبد الله باذيب، رثاه ذو يزن بقصيدة تقطر ألماً وحزناً، غير أنه يُضيء أفق الحزن ويُضمّد الجرح المتألم بأمل مُخْضرّ بالبشارة والوعد بغد أجمل:
(نقيّاً كنتَ كالبلّور/‏ صدوقاً كنتَ كالأطفال/‏ مُحبّاً للهوى الأول/‏ عانقتَ الشمس ولم تَهَب/‏ يا شمسُ، لهيبُك ذُرّيه/‏ حمماً في الثلج وفي السحب/‏ سحب القرصان، حوارييه/‏ يا شمسُ، ضياؤك في شوق/‏ لتراب الأرض/‏ لحفاة سمر.. للزهر). «مرثية للذي لا يموت».
وإلى جوار قصائده العديدة بالفصحى، لذي يزن باقة من الغنائيات الجميلة التي لحَّنها وغنَّاها عدد من كبار الفنانين اليمنيين والعرب مثل محمد مرشد ناجي وأحمد قاسم ومحمد محسن عطروش والفنانين العرب محمد حمام وعدلي فخري وجعفر حسن، كما قدَّمت فرقة الإنشاد الوطنية عدداً من أناشيده. وفي «أملي الكبير» يمتزج الشعور الخاص تجاه الحبيبة المجردة بالعاطفة المقدسة تجاه المحبوبة الكبرى اليمن:
(بروعة سحر الشروق/‏ وفتنة لحن الغروب/‏ يعزف قلبي الطروب/‏ لقلبك لحن الغزل/‏ فيزرع حبك بين الضلوع/‏ ويزهر قلبي الولوع/‏ فمنك نما.. وفيك اكتمل/‏ فأغلى الأماني.. وأحلى الأغاني/‏ أحقّق فيك الأمل/‏ ومع انتظار انتصار الأمل/‏ سيظل شوقي كشلاّل ماء/‏ وفي كل ليلة أقطف نجوم السماء/‏ لأبعثها إليك قُبَل).
وفي «تاج النهار» - أكثر غنائياته شهرةً وأثراً في الوسط العام - تتجلى لديه شاعرية مموسقة متألقة، وظَّف فيها لهجة دارجة مُحبَّبة، ونفحَها مضموناً فريداً هو تركيبة سحرية من البُعْد السياسي والعُمْق الوطني مصبوبةً في قالب رومانسي شفيف للغاية:
( شوق الصباح إشراقته شجونكْ/‏ يمحي الغسق.. يمحي الضباب حنينك/‏ تاج النهار يعكسه جبينك/‏ إلهام أحلامي بريق عيونك/‏ يا قبوة الكاذي، ريحان قلبي/‏ يا بُنَّتي وفُلَّتي وجمر حبي/‏ وغنوتي ورقصتي وشهد شربي/‏ أنت الحياة وشمس دربي/‏ أصل الوصال منقوش في خيالي/‏ قلبي جناح أسفل.. جناح عالي/‏ رفرف عليك هيمان، يطويك ببالي/‏ شاوصل إليك مهما الوصال غالي).
إن وحدة الرؤية والفن عند ذي يزن في جُل - إن لم يكن كل - أعماله الشعرية تقود إلى الاعتقاد بنضوج المضمون أو الرسالة التي تحملها هذه الأعمال على صعيد الفكر السياسي المعجون بالهمّ الوطني، وفي تواؤم متقن مع نسيجه البنائي وشكله الفني على نحو لافت، وهي زوايا حادة في معمار التجربة الشعرية لذي يزن، لقيتْ اهتماماً خاصاً لدى قراءته ودراسته نقدياً من قبل أسماء بارزة في الساحة الأدبية والنقدية العربية مثل أدونيس وفواز طرابلسي وشوقي عبد الأمير وفريدة النقاش وأيمن أبو الشعر وآخرين.
أعلى