سيدة بن جازية - هاربة نحو الشرق

تتصاعد روحي عاليا إلى عنان السماء، تشرئبّ مقلتاي نحوها،
تتراءى لي نفسي تتلهف لإيجاد أبي وأخي و جدي و...
لكن للأسف ! عتمة حاجبة للرؤية تذهلني، ترعبني..
شعرت برعشة تهز شغاف قلبي....حفيف أكوام الوريقات يتصاعد ثم ينخفض . وقع بصري على بعض الأسماء المنحوتة بخط كوفي رهيب بعضها يخطف بريقه الأبصار كلمعة الزبرجد و الياقوت، نوره يشتعل نارا جياشة و البعض الآخر باهت مهمل بخط رديء تتحسّر العين لمرآها .
يا لها من نقوش و زخارف بديعة بهذا العالم .
بحثت بشغف الفضوليين عن اسم اعرفه عزيز على قلبي تراءى لي بوضوح ، ما راعني كونه مجاور لأسماء كثيرة أعرفهاجيدا،بل عاشرناها طويلا باتت في ذمة الله ...

اشتد هلعي وأنا أتمعن أسماء أخرى في كومة نفايات..رأفة بها حاولت أن أبعدها عن مصدر الدخان المتصاعد حولها ...كادت أصابعي تحترق لمجرد التفكير في الاقتراب. تراجعت ندما

حملتني خطواتي حيث الظل الظليل و طفقت أبكي،دمعي كان مدرارا و صدري أخذ ينقبض تارة وينفرج طورا . لا أعلم ما السبب بيد أني استشعرت راحة قذفها الله في صدري.

يد حانية ربّتت على كتفي .مسحت دمعي، أحسست حينها أنني لست وحدي بهذا الفضاء و كأن عيونا خفية ترقبني ترعاني حتى داخلني أمان و سكينة ،لم أتجرأ على النظر في ذاك الوجه المشرق ،لكن صدى كلمات عظيمة بقيت تتردّد على مسمعي " عد من حيث أتيت،لم يحن بعد وقت لقائنا ، لا تفكر كثيرا بالمشهد الذي عاينته و لا تخبر به أحدا ،
عد ،
عد بسرعة "

كنت كمن يخرج من كهف قضى به السنين يحمل صخور بروميثيوس على ظهره...مرهق،مجهد ، جمّعت أنفاسي بصعوبة بينما كانت أمي تمسح على شعري وتردّد " استعن بالله وانهض ذاك جاثوم بارك، هالك...قلت لك لا تكثر من المنبّهات ليلا و ابتعد عن تلك الكتب قليلا ، لكنك لم تذعن."

قد مضت ليال و أنت تستيقظ على نفس الحال،تتمتم و تصيح طول ليلك ،ارأف بي واسمع كلامي يا بني ...

حاولت أن أروي لها كل ما شاهدته لكنني تذكّرت وصايا رجل النور ...
أذعنت لرغبتها تلك وابتعدت عن قهوتي و سيجارتي ليلا مرغما لكنني لم أهجر مكتبي ، فتحوّلت من عالم التهام الكتب إلى عالم الكتابة و التنفيس عما كنت أخزّن.

منذ ذاك اليوم لم يعد يزورني الكابوس المرير، لكن سكنني خوف الفقد من جديد، لم تعد عائلتي تحتمل خسارة أخرى هذه السنة.

حاولت أن أستعيد لحظة من ذلك العالم العلوي. قرّرت أن أستعدّ كل ليلة للقاء جديد، أقرأ كل الأسماء، ألمّع بعض ما كان مهملا. لا أخفيكم سرا اجتهدت في تعبير رؤياي و تفسير العلاقات بين كل حرف و كل خط....

أغلق باب غرفتي أوقد مصباحي وآخذ قلمي، أنقش كل ليلة اسما من أسماء المقربين إلى قلبي ، أستحضر روحه، أعاتبه، ألتمس له بعض الأعذار ثم أقص عليه أحلامي و طموحاتي..
كل ليلة أهجر النوم إلى عالم الورقة والقلم ، أغوص دون حذر في عمق هذه الأكوان و أسرار الحيوات...
كل ليلة أصارع النوم حتى لا يعودني نفس الكابوس. بل أصبحت ماهرا في صنعها و إعادة تدويرها حد الجنون .

دامت رحلتي تلك ما يقارب أربعين ليلة. وأنا أسجّل ما أرغب تسجيله ،. أبوح بكل أسراري، أتجرّد من كل أحزاني حتى كسرت الأوهام ولاح لي نور البيان .

شعرت بعد تلك التجربة بحب كبير لأهلي و أصدقائي و أجواري و دنياي بل الحب الأكبر أصبح لذاتي الشفافة و دواتي... سلم داخلي يحبو كرضيع في كل أرجائي، شمس تضيء كياني، تلملم رفاتي...

كل من رآني شعر بتغيير أصاب ملامحي وتصرفاتي و أقوالي،أنا كذلك لم أعرف هذا الأنا الجديد ، وددت فهم كنه ما أعيش .. بيد أن.......

كم من مرة سعدت بمد يد العون لمحتاج أو مسكين، كم من مرت تأخر موعد عودتي و أنا أنظف حديقة الحي أو محيط المسجد.. كم من روح تناجيني في صمت وألبي النداء... من أنا!

فوجئت بطفل صغير صبوح الوجه يناديني عمّي، عمّي، يا رجل النور أمّي تنتظرني في السماء، حاول أن تساعدنا فهي مظلومة كسيحة لا تقدر على الدفاع عن نفسها. عدني باللقاء.
و اعترضني طفل آخر أطال النظر في وجهي ثم طلب مني الطعام والماء و آخر ترجاني أن أدعو له بالرحمة و المغفرة و الشفاء، و أضحكتني فتاة فاتها قطر الزواج تطلب مني البحث لها عن نصيبها في السماء ... أأنا رسول الأرض أم السماء؟

بت تلك الليلة أنقش اسمها على مهل و أكتب لها آيات الشفاء و التوبة. و للآخر أبحث عن مورد للمعاش و داهمني شعور بالرأفة بتلك الأربعينية لكن وشوشة الحوريات كانت تهدهني ... تناديني.... تغريني باللقاء.

طرقت أمي بابي عند الفجر و أنا منهمك بتجميع الصحائف، شهقت مما رأته و سألتني مستنكرة ماذا كنت تفعل بكل هذه المخطوطات؟ ما هذا النور؟ أين أنا؟

لم أجد جوابا مقنعا و لكنني همهمت : . مجرّد هواية أملأ بها وقت فراغي.حاولت كعادتها أن تعبث بأسراري لكنني ربتت على كتفها واستسمحتها قائلا:

عودي إلى غرفتك، واتركيني و شأني من فضلك فالمهام كثيرة هذه الليلة، لم يحن بعد وقت الانكشاف.

ابتسمت قائلة :
أ تعد مفاجأة سارة لأمك عزيزي.؟

لا أبدا ، لا أظنها سارة.

لكنني رأيتك تخط اسمي على ورقك .

حملتها بكلتا يدي كما كانت تفعل بي أيام طفولتي الشريدة ، وعلى مضجعها الدافئ الوثير
بت ليلتي بين ذراعيها استرجع صدى أيام خلت في انسياب حتى وجدتني أفتح عيني بين يدي رجل النور يخبرني أن موعد اللقاء قد حان. ذعرت، انقبضت أساريري،
بحثت عن أمي بالجوار، لم أجدها، صرخت عاليا، لم تجب، لم تسمعني، إنها المرة الأولى التي يداهمني فيها كابوسي لكنها لم تمسح على شعري و توقظني بحنان...
ما الذي جرى؟ ما دهاني؟
حاولت الخروج للبحث عنها، لكن خانتني ساقاي، لقد التفت ببعضها و تجمدتا، لم استسلم، انفصلت روحي تفتش عنها في كل ركن...
وجدتها بالغرفة كما توقعت، وعلى مكتبي بالتحديد تعيد ترتيب أوراقي و تسترق النظر لما كتبت. في ذهول تجحظ عيناها، تفتح فاها، ترفع حاجبيها، تتلمظ شفتاها. ..

بقيت أرقبها وقتا طويلا، لم أشأ حرمانها من متعة الاكتشاف،
لكن عندما لاحت دموعها منهمرة، اقتربت منها، مسحت على
Saïda
Ben Jazia Saïda
على شعرها، حاولت تهدئتها، أمسكت بي حين استشعرت حرارة أنفاسي..
مسحت دمعها وقالت حالا سألتحق بك إلى الغرفة،
شرقت بالدمع و أخبرتها أنه لم يحن بعد موعد اللقاء..
حاولت أن تضربني كعادتها على مؤخرة رأسي مداعبة لكنها لم تجد لي رأسا ولا جسدا، حاولت تهدئتها،داعبت خدها المجعد قائلا :
لا تقلقي لست وحدي معي كل أحبابنا.
استعاذت من الشيطان بصقت ثلاثا شمالا، كرّرت في انفعال هيستيري مرير " لعن الله الجاثوم و صوت البوم ويوم الشؤم ... "

فُتح باب نوراني مشع. أخذ يجذبني مسلوب الإرادة نحوه.
صحائفي تتراقص فرحا قد سبقتني إلى العلا. تحت ظل شجرة الكافور مكتبي و أريكتي و أقلام ذهبية و أوراق فضية...
أشفقت على أمي من الوحدة، لكن فيض سعادتي صحبة ذاك الرجل النوراني كانت تتعاظم... نادى صوت رخيم ولدي مرحى ...
أجهشت بكاء حين اللقاء، وجدتني أردد أمي... أمي... وحيدة
أجابني الصوت :
لا تقلق اقترب اللقاء.
مما أربكني وقتئذ صوت انفجار هز الحي العتيق ، خرجنا مسرعين في هلع، صدمنا مشهد الانزلاق الرهيب.. بدت كل المباني هاربة نحو الشرق. شهقت قبل حضور الملك الأعظم، نور نور يغطي المكان...

سيدة بن جازية تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى