محمد سعيد احجيوج (*) - روائي مغربي: لماذا يخاف العرب من ترجمة الكتب إلى اللغة العبرية؟

كلما صدر كتاب عربي مترجما إلى العبرية قامت القيامة ولم تقعد، وينطلق هجوم كاسح ضد الكاتب العربي الذي قبل بترجمة كتابه إلى العبرية، وتُلقى ضده كل التهم. المثال الأحدث هو الهجوم الذي تعرض له الكاتب التونسي كمال الرياحي قبل أشهر قليلة حين صدرت روايته “المشرط” مترجمة إلى اللغة العبرية، فانطلقت ضده، وضد المترجمة الفلسطينية ريم غنايم التي ترجمت الرواية، حملة شعواء من التخوين امتدت إلى اتهام المترجمة بالعمالة لإسرائيل، ومطالبة أحزاب برلمانية في تونس بعزل الكاتب من منصبه مديرا لبيت الرواية في مدينة الثقافة التونسية!.

لماذا يخاف العرب من التماس مع اللغة العبرية؟ هل الترجمة إلى العبرية، وهي لغة العدو في الوعي العربي، تدخل في نطاق التواصل بين الثقافات أم هي محض تطبيع مع إسرائيل؟.

ليس سؤالا سهلا هو. من جهة، وحشية الآلة العسكرية الإسرائيلية ضد شعب أعزل لا يمكن إخفاؤها، وكذلك لا يمكن تجاهل تساهل الحكومة هناك مع المستوطنات غير الشرعية المتناسلة وما يقف خلفها من أفكار صهيونية متطرفة، ومن جهة أخرى نرى مثل تلك الوحشية قائمة بين ظهرانينا، والقضية طالت كثيرا، أكثر مما يجب، وبعض الأنظمة العربية تمادت في استغلال القضية الفلسطينية شماعة لتمارس من خلالها اضطهادها لشعوبها.

ما عاد ممكنا الاكتفاء بالدعاء في المساجد والصراخ بعبارات سطحية جوفاء، من قبيل أمريكا هي الشيطان الأكبر ويجب رمي إسرائيل إلى البحر.

على مر تاريخنا ثمة الكثير من الأزمات والخيانات. فقدان فلسطين تسببت فيه الكثير من الأخطاء المتعاقبة التي يعود عمرها إلى أكثر من مائة عام، وخلال ذلك ضاعت أكثر من فرصة لتصحيح المسار واستعادة ما ضاع. ما ذنبنا نحن اليوم أن نحمل على ظهورنا أخطاء الأجداد، ونُسَور أنفسنا بأوهام مثل أن إسرائيل مجرد عصابة صغيرة من الأوغاد الذين يمكن رميهم إلى البحر بسهولة.

أتمنى أن نعيش جميعا، كل العالم، في سلام ورخاء، أتمنى أن نعيش حياة عادلة ورفاها مقبولا؛ لكن طبعا ليس من العدل أن يسقط طفل فلسطيني عائد من المدرسة بسبب رصاصة من مجند/مراهق إسرائيلي أراد أن يختبر قدرته على التصويب، وليس عدلا أن تحرق قذيفة مدفع تركي طفلا في الشمال الكردي قفز على خط حدودي وهمي ليستعيد كرته، وليس عدلا أن تموت امرأة حامل في طريقها من قريتها المعزولة في الأطلس المغربي إلى مستشفى تعرف بشبه يقين أنها لن تبلغها وهي حية.

العالم كله يعيش بؤسا مزمنا، وعوض أن نبحث عن حلول، أن نتضافر جميعا لتحقيق الرفاه لكل الشعوب، ننشغل جميعنا بالحروب ويقتل بعضنا بعضا، كأن الأرض ضاقت عنا وليس فيها متسع يلم شملنا كلنا. لكن ماذا نقول والأرض بكل اتساعها الشاسع ضاقت من قبل على أخوين غار أحدهما من الآخر فأغار عليه لأن أحدهما تُقبل منه والآخر لا؟ ما ذنب الذي رُفض قربانه وهو المجبول خلقا على ما فعل أن يفتت روحه بالإثم الأعظم؟ وما ذنب الذي أحسن القربان أن يقتل؟ وما ذنبنا نحن أن تلاحقنا إلى اليوم تلك الخطيئة والخطيئة التي قبلها؟.

النشر جزء من عملية الكتابة. نحن لا نكتب لنترك ما كتبناه مخفيا عن الأنظار. بالتأكيد نكتب لأسباب كثيرة، منها مواجهة مخاوفنا وإشباع غرورنا وترك بصمتنا في هذا الكون الشاسع، ونحن أيضا نكتب لننشر كتاباتنا على شكل كتاب. النشر هو عملية تحويل مخطوط إلى كتاب مطبوع (ورقيا أو رقميا)، أي تحويله إلى منتَج قابل للبيع والشراء. الكتاب شئنا أم أبينا منتج اقتصادي.

كذلك هي الترجمة، جزء من عملية إنتاج الكتاب؛ هي جزء من عملية النشر لإيصال المخطوط إلى القارئ، جزء من عملية الكتابة نفسها، لأن الهدف من الكتابة أن يُقرأ المكتوب. الترجمة تمنح للكتاب شكلا جديدا، لسانا إضافيا للوصول إلى شريحة مختلفة من القراء. طبعا مسألة التواصل بين الثقافات قائمة كما هي قائمةٌ الغايةُ، التي ندفنها في أعماقنا، أن تكون كتاباتنا أداة لتحسين حياة الآخرين. الكتابة شكل من أشكال التواصل، مع الآخر؛ هذا الآخر قد يكون جارنا وقد يكون مواطنا في الدولة نفسها ويمكن أيضا أن يكون مواطنا في بلد تقع في الجزء المقابل من العالم.

القراءة تمنحنا الفرصة لنعيش حيوات أكثر مما يوفر لنا عمرنا القصير. نحن نريد أن نقرأ كل ما نستطيع قراءته، لنعرف أكثر عن أنفسنا وعن العالم. الترجمة من اللغات الأخرى تسمح لنا بذلك، وكذلك الترجمة من لغتنا إلى اللغات الأخرى.

باختصار: لن ألوك كلاما طويلا حول ضرورة ترجمة أدبنا إلى العبرية لنحقق خرقا داخل المجتمع الإسرائيلي. هذا كلام يقوله الكثير من الأدباء العرب وأنا لا أفهم معناه؛ الأمر عندي أبسط، العبرية مثلها مثل أي لغة أخرى، والكتاب المنشور منتَج اقتصادي يملك منتِجه الحق أن يبيعه في أي سوق، بأي لغة.

الخوف العربي من كل ما هو إسرائيلي يمتد إلى مجالات لا تنحصر في الترجمة فقط. من بين المقالات النقدية التي تلقتها روايتي “أحجية إدمون عمران المالح” ثمة مقالة واحدة تركز على موضوعة التطبيع، ويرى صاحبها أن الرواية تدعو للتطبيع مع إسرائيل، فقط لأن شخصية الرواية يهودية الديانة، ومبرره أن أنسنة الفرد اليهودي تطبيع مع وجود إسرائيل.

حسنا، لا مشكلة عندي مع تلك القراءات. الرواية حسب رأيي تعتمد على الشك، على طرح الأسئلة، وهي تبقى متاحة لكل التأويلات. ثمة من سيفهم “أحجية إدمون عمران المالح” أنها تنادي بتطبيع كامل مع إسرائيل، وثمة من سيرى أنها تنتقد إسرائيل بشكل واضح. أنا دوري انتهى بطرح الأسئلة في الرواية، لا يمكنني التحكم كيف سيفهمها كل قارئ. أعرف أن هذه المسألة قد تجلب عليّ -كما هذا المقال- وابلا من الهجوم، لكني لا أدعي اليقين، لست أمتلك الحقائق، والرواية عموما، أي رواية، يجب أن تحفز على التساؤل لا أن تقترح الأجوبة.

أحاول قدر الإمكان إنتاج نص يحفز على طرح الأسئلة. لا حقائق لدي، وآرائي الشخصية تبقى شخصية وقابلة للتغير وإعادة التشكل باستمرار. الأجوبة تتغير، تذوي، تذوب، تنصهر، تتشكل… وحدها الأسئلة، الحقيقية، تبقى صامدة. الأسئلة هي التي تنتج المعرفة.

والترجمة مصدر من مصادر توليد الأسئلة.




(*) روائي مغربي. صدر له: كافكا في طنجة، أحجية إدمون عمران المالح، وقريبا تصدر له رواية ليل طنجة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى