حاميد اليوسفي - العجوز التي تعمل الخير وتنساه

يومان بعد الزلزال، لم تبارح امي الباتول نشرات الأخبار في المذياع. ترفع صوت الجهاز، وإذا فاتها خبر، تقلب الموجة، وتبحث عنه في إذاعة أخرى. وفي المساء تشاهد التلفزيون رفقة زوجها السي عبد الله كما تحب أن تناديه.. تسأله وتُعلّق بين الحين والآخر على ما تتابعه..
عندما يبيت عندها ياسر حفيدها، تطلب منه أن يجلس بجانبها، ويعرض عليها ما يتبادله مع أصدقائه من صور وأشرطة حول الزلزال.. لا تعرف من أين يأتي هؤلاء الشياطين بهذه الأشرطة، لكنها حقيقية من عين المكان، رغم ما تولده في نفسها من ألم. تريد أن تعلم ما يجري بالفعل، فالتلفزيون الرسمي أحيانا ينتقي، ويختار ما يصلح للنشر، وقد يخفي بعض الحقائق عن الناس.
في التلفزيون أعجبتها صور الطوابير من المواطنين، وهم يقفون تحت شمس الخريف، ينتظرون فرصتهم للتبرع بالدم. وقفت هي أيضا تحت هذه الشمس، وعندما حان دورها، شكرها الممرض الذي يقف بالباب، واعتذر لها بأن المسنين معفيين من التبرع بالدم. حاولت استعطافه، لكنه لم يقبل.
قالت في نفسها، وهي عائدة إلى البيت:
ـ ليتهم سمحوا لي بالتبرع بالدم.. الدم هو أغلى ما يمكن أن يشاركه المغربي مع أخيه.. المال يأتي ويذهب، لكن الدم يبقى، ينتقل من جيل إلى جيل.
كلما دخل ياسر إلى البيت الا ونادته ليفرجها على أشرطة الدعم. وكان ياسر يجد لذة في ذلك، ويمزح معها بقوله:
ـ تقولون بأننا شباب تائه وضائع!! أنظري جدتي وكحلي عينيك بما يفعله الشباب هذه الأيام، كيف يتبرع بالدم، ويدعو الناس إلى التضامن، ويجمع التبرعات، وينقلها إلى أماكن الزلزال؟!..
هذا اليوم أنهت أشغال البيت، وتناولت طعام الغذاء صحبة زوجها. عندما خرج سي عبد الله لأداء صلاة العصر، وبعدها ذهب إلى عمله، فتحت صندوقا صغيرا، تخبّئ فيه ما توفره من نقود. أفرغته فوق الفراش، وأحصت القطع الصغيرة. رغم كثرتها لم تتجاوز سبعة وثمانين درهما. أعادت عدّها مرة أخرى، فوجدت نفس المبلغ. ارتفاع الأسعار ابتلع خمسة أضعاف ما كانت توفره في الأعوام السابقة. فكرت ماذا تقتني لتتبرع به؟ استقر رأيها على شراء قنينة من زيت المائدة من حجم 5 لترات. ولكن لازال ينقصها على الأقل خمسين درهما. ارتدت جلبابها، وأغلقت الباب خلفها. أخبرت حماد البقال بما هي مقبلة عليه، وطلبت منه أن يقرضها خمسين درهما، ويسجل المبلغ باسمها في مفكرته حتى الشهر القادم.. ولأنها تريد أن تتبرع بهذه القنينة لفائدة أسر ضحايا الزلزال، ولم يسبق لها أن اقترضت منه شيئا، وافق احماد على الطلب. عدّ النقود، وقدّم لها المطلوب. شكرته ودعت بأن يزيده الله خيرا، ويُيسر له في تجارته.
لابد أن تقطع حوالي نصف كيلومتر حتى الساحة التي يجمع فيها شباب الحي التبرعات. سارت ببطيء، وهي تتكئ على عكازها. وفي كل مرة تغير اليد التي تحمل بها القنينة. تستريح قليلا، ثم تستأنف السير.. لم تشعر بأي تعب. قطعت الشارع مرتبكة.. قدم نحوها شاب وسيم، حمل القنينة، وأخذ بيدها ثم قبل رأسها شاكرا لها خطواتها المباركة..
خاطبته وقلبها ينبض بمزيج من الفرح والحزن:
ـ الله ينصركم ويعينكم ويحفظكم لنا وللبلد.
قبّل يدها هذه المرة وقال:
ـ والله شرفتمونا، وشرفتم الوطن.. رفعتم رأسنا عاليا، وجعلتمونا مفخرة أمام شعوب العالم..
سيأتي ياسر في المساء، وسيفاجئها بشريط فيديو تتناقله وسائل الإعلام الدولية، وهي تتكئ بيد على العكاز، وتحمل قنينة الزيت باليد الأخرى..
وهي راجعة إلى البيت، لم تشعر بأية آلام في ظهرها.. اليوم كان أجمل أيام حياتها.. أحست كأنها عادت ثلاثين سنة إلى الوراء..



مراكش 16 / 09 / 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى