الليل والرجل

دخل همام بحصانه الاسطبل يتلمس الطريق فى الظلام .. وكان قد تأخر فى الحقل حتى نام جميع الخدم فى الدار .. فسحب الحصان وراءه فى ذلك المجاز الطويل المعتم حتى وصل إلى قلب الحوش .. حيث يسقط نور ضئيل من المنور .. وكانت المواشى فى دائرة كبيرة أمام المخاول .. ورأى عندما اقترب من مرابط الخيل نور مصباح بترولى تهتز ذبالته وعلى ضوئه الخافت جلست الخادمتان ناعسه ونرجس تحلبان البهائم .. حلبة نصف الليل .. وكانتا تجلسان القرفصاء وقد وضعت كل منهما القدر تحت الضرع .. وأخذت تحلب .. وسمع صوت اللبن وهو يتدفق فى خيوط بيضاء طويلة .. ورأى سيقان الفتيات والخلاخيل الفضية فى أرجلهن وشعر بشىء يلهب حواسه .. ونظر إلى خادمته نرجس وكانت جميلة بيضاء .. وقد غطت ساقيها .. وانتصبت وجرت نحوه وقالت وهى تتناول لجام الفرس من سيدها ..
ـ أمال فين دردير .. يا سيدى .. جايب أنت الحصان بنفسك وداخل الحوش ..
ـ معلهش يا نرجس .. لازم .. تعب .. ونام ..
ـ من ساعت ما سفرت .. وأنت تعبان يا سيدى .. ربنا يرجعها بالسلامة ويجيبلك ولد .. علشان نغنى ونفرح كلنا يا رب ..
***
ودخل البيت .. وخلع ملابسه وصلى وتعشى وتمدد على الفراش يدخن سيجارة كعادته قبل أن ينام .. وجاءت له الخادمة فطوم بالمدفأة التى اعتاد أن يدفىء بها الحجرة فى الليالى .. الباردة .. فجلس يصطلى ومد رجليه ويديه إلى النار .. وكان همام مزارعا من أحسن المزارعين ترك المدرسة عندما مات والده وجاء إلى الحقل .. ومن وقتها وهو يعمل فى الحقول .. وقد نسى فى خلال هذه السنوات كل ما تعلمه فى المدرسة وأصبح واحدا من الفلاحين .. وتزوج علية وهى فتاة من أسرة طيبة من بندر المنيا وكانت .. رقيقة المشاعر معتلة الصحة .. ولم ينجب منها .. وكان ككل الفلاحين الذين يحبون الذرية .. يحدث له هذا بعض الأسى فى أول سنة من الزواج .. ثم يجد نفسه غارقا فى عمله وينسى الأمر كلية .. فلما حملت أخيرا لم يسر كثيرا .. وعندما اقترب ميعاد الوضع رافقها إلى أهلها لتضع هناك أول مولود ..
وكان همام يشعر بالتعب وهو فوق ظهر الجواد .. ولذلك كان يتصور أنه سينام بمجرد أن يضع رأسه على الوسادة لأنه تعب كثيرا وهو يتنقل بين الحقول .. ولكنه لم ينم كما كان يقدر وظل ساهرا وكان بيته من طابقين .. وفى الطابق الأول الباب الخلفى الذى يفضى إلى الاسطبل وحوش المواشى ..
وكان همام يعنى بخيوله ومواشيه .. ويجد لذة المفاخرة كلما خرجت الثيران والخيول فى الصباح والمساء .. لتشرب من الحوض الكبير أمام الدار .. وأخذت تخور وتصهل .. كما أنه كان يشعر بفخار أكبر كلما جاء إليه أحد الفلاحين ببقرة له أو فرس " لتعشر " من الثور الكبير أو من حصانه .. مرزوق .. المشهور فى المديرية كلها ..
كان يشعر بالزهو لهذا .. ولذلك كان ينظر بحذر إلى المحاريث النارية .. وإلى آلات الدريس .. وإلى كل الآلات الميكانيكية التى تستعمل فى الزراعة .. وكان هو الوحيد من كبار الزراع فى المنطقة الذى لا يملك سيارة .. وظل يركب حصانه .. إلى الحقل .. والكارتة إلى المحطة .. وكان همام محبوبا من الفلاحين لأنه كان يعاملهم بالحسنى ويعطف عليهم .. ويدرك ما هم فيه من شقاء وبؤس ويحاول دائما أن يرفع من مستواهم الاجتماعى والصحى .. وكان يشرك بعضهم معه فى الزراعة بالنصف .. ويساعد فى الحصول على البذور من بنك التسليف وعلى السلف الزراعية من المصارف وعلى بيع القطن بأحسن سعر فى السوق .. ولذلك كان يعيش بينهم آمنا مطمئنا .. وكان يعجب لأنهم يعيشون فى الحضيض ولا يرتفعون بأنفسهم أبدا وحتى فى السنوات التى يبيعون فيها المحاصيل بأسعار مرتفعة .. يظلون كما هم .. يعيشون فى مساكن قذرة .. مع البهائم ولا يأكلون الطعام الجيد ولا يشربون الماء النقى ..
ثم أدرك أخيرا أن ما ينقصهم هو صحة الادراك للأمور لأنهم جهلاء .. وعندما يتعلمون وتنمحى منهم الأمية .. سيدخل النور عقولهم .. وسيرتفع مستواهم وإدراكهم للحياة .. وسينقشع الظلام عن أبصارهم .. وسيفهمون الحياة .. ويعيشونها كما يعيش الإنسان ..
وسمع جرس التليفون فى الصالة .. وكان على وشك أن يتحرك من الفراش ويرد عليه .. لكن صوت الجرس انقطع فبقى فى فراشه متكاسلا .. وسمع حس فطوم خادمته الكبيرة .. ثم انقطع الصوت وخيم السكون على البيت إذ لم يكن ينام معه فى هذا الطابق سوى فطوم ..
وأخذ همام يفكر .. فى بعد زوجته عنه .. وفى المولود الذى سيجىء بعد أيام .. وفى الزراعة وفى كل ما يشغل الزراع .. وعجب لأرقه وسهره .. فى الليل .. ولم يدرك البواعث العميقة فى النفس التى تجعل الإنسان يأرق ويتقلب فى الفراش دون سبب ظاهر ..
وسمع صهيل جواده مرزوق وخشى أن يكون هناك من تسلل إلى الإسطبل فنهض من الفراش وذهب إلى النافذة .. فلم ير أحدا فى الحوش ولم يسمع حسا .. فرجع إلى مكانه .. وعاد الجواد إلى الصهيل المتصل .. فلبس همام خفه ونزل .. إلى هناك ..
***
وعندما دخل الحوش وتفقد المواشى .. لم يجد سوى نرجس .. تحلب وحدها .. حلبة الفجر ..
وقالت عندما أحست به :
ـ فيه حاجة يا سيدى ..؟
ـ سمعت .. حس الحصان ..
ـ ما أعرفشى .. هو بيعمل كده فى الليل .. الأيام دى ..
ـ ما أعرفشى ..
وظهر على وجهها الخجل .. وعرف سر خجلها .. فقد خجلت أن تقول له أن الحصان يريد أنثى ..
وعندما نظر إليها بعد ذلك وهى محمرة الخدين منكسة الرأس وقد عادت تحلب البقرة أحس بسوط يلهب ظهره .. وأدرك سر قلقه .. واضطراب أعصابه وأرقه فى الليل ..
وأخذ ينظر إلى الفتاة وهى تتظاهر بأنها منصرفة إلى عملها لا تشغل نفسها به .. ولكنها فى الواقع كانت تحس به ومضطربة لوجوده معها فى الليل فى هذا المكان .. وأخذ يجد سببا للبقاء فى الحوش .. ففتح مخزن العلف وملأ " قفة " صغيرة بالفول المخلوط بالنخالة .. وأخذ يوزعه على المخاول .. ولاحظ أنه لم يتحرك لهذا العلف الجديد الذى جاء فى غير ميعاده إلا القليل من البهائم الراقدة ..
***
وعندما امتلأ القدر باللبن .. حملته نرجس ووضعته بعيدا عن صغار البقر .. وأخذت تصلح من ثوبها لتذهب .. ونظر إليها همام .. وقال بصوت مضطرب :
ـ هاتى شوية تبن للبهائم يا نرجس ..
وكانت تود أن تقول له :
ـ البهايم قدامها تبن ..
ولكنها حملت الملقط .. ودخلت شونة التبن دون أن تتكلم .. وعندما وقفت أمام هدار التبن وانحنت لتملأ الملقط .. وجدته واقفا وراءها .. صامتا .. ينظر إليها نظرة لم تألفها وعيناه تلمعان فى الظلام .. فاستدارت إليه وقالت بصوت خافت :
ـ إيه يا سيدى ..؟
ولكنه لم يرد ..
لأنه أمسك بها وشدها إليه وألقاها على التبن .. وكانت هناك حفرة عميقة فى جوف التبن فغابا فيها ..
***
وعندما نهضت أخذت تنفض ما علق بثوبها من التبن الأبيض .. وهى صامتة .. ولما تناولت قدر اللبن .. وأخذت ترفعه إلى رأسها اندلق منها على الأرض .. وتشاءم همام من هذا الحادث إذ كان يسمع الأساطير عن اللبن الأبيض المراق على الأرض السوداء .. وأخذت نرجس تبكى .. ولم يكن يدرى أبكت على اللبن أم على شىء آخر ..
***
وخرج من الحوش منسلا خائفا يتوجس أن يراه أحد الخدم .. وعجب لخوفه وهو سيد البيت .. وأدرك كيف تذل الغريزة الإنسان وتعريه وتجرده من كل سطوة وتجعله أقرب إلى الحيوان الذليل ..
***
وعندما عاد من الغيط مساء اليوم التالى .. كان كل ما يتمناه أن يسمع حس نرجس .. فلما لم يسمع صوتها اضطرب .. وود أن يسأل عنها فطوم ولكنه ضبط عواطفه .. حتى رآها تدخل عليه .. حاملة صينية العشاء .. ووضعتها أمامه على المائدة .. ورأى وجهها هادئا ساكنا فاطمئن ..
***
وشعر بالنار تشتعل مرة أخرى واشتاق أن يضمها إلى صدره .. ويلثم فمها العذرى .. وتحين الفرصة حتى واتته .. وتسلل وراءها وهى صاعدة إلى الفرن ساعة الفجر تعد الخبيز .. وسحبها من يدها إلى غرفة مهجورة وخافت الفتاة من الفضيحة فاستسلمت .. ومضى الأمر سريعا .. ولكنه أطفأ جذوة .. وأصبحت بعد هذا اللقاء تحت سلطانه .. وصارت ترغب فيه وتشتاق إليه كما يشتاق إليها .. فكان يلاقيها كلما خلا لهما الجو .. وانغمرا فى بحر اللذة الخفية ونسى زوجته ..
***
وعادت زوجته علية بعد غياب ثلاثة أشهر ومعها مولود ذكر .. وسر بذلك كثيرا .. وأخذ ينسى ما حدث ..
***
وكانت نرجس لا تزال فى البيت ولكن بعد عودة سيدتها لاحظ أنها حزينة ذليلة ..
***
وذات ليلة حدثته زوجته بأنها سمعت همسا بين الخدم .. وأن نرجس حبلى ودردير هو الذى " عملها " فى الحوش .. وطلبت علية من همام أن يأتى بدردير ليزوجه الفتاة .. قبل أن يعرف أهلها وتشيع الفضيحة ..
فقال همام لزوجته :
ـ بس لما نتأكد .. دى مسألة مش بسيطة ..
ـ نتأكد من إيه .. بقولك حبلى ..
ـ من الفاعل ..؟
ـ كل الناس عارفه أنه دردير .. ومع كده .. أنا حاسألها النهارده ..
وابيض وجه همام .. ولم تلاحظ زوجته ذلك وتركها لبعض أعماله ..
***
لكن الفتاة لم تنتظر حتى تسألها سيدتها .. فقد هربت فى الليل .. دون أن تأخذ معها شيئا من ملابسها .. وسارت فى طريق النيل ..
***
وذات يوم ..
وجد أهل القرية دردير مقتولا وملقى على حافة ترعة .. وتنفس الناس الصعداء وقالوا :
" غرر بالفتاة المسكينة فلقى القصاص .. "
وطويت صفحة .. ولكن لم يسدل الستار ..
فقد رأى الفلاحون بعد الغروب حصان همام راجعا وحده إلى الإسطبل .. وكان مسرجا .. وعليه معطفه .. وزمزميته ..
***
وخرجت القرية تبحث عن الرجل .. ووجدوه ملقى بين المزارع .. والدم ينزف منه وبجانبه .. مسدسه .. وقد انطلقت منه رصاصة واحدة ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى