د. فاتحة الطايب - التعدد اللغوي والثقافي في المغرب

إذا استثنينا كتابات بعض حماة "الفرنكفونية "، والمدافعين عن الفرنسية أكثر من الفرنسيين أنفسهم لما تدره عليهم من امتيازات خاصة، في سياق علاقة القوة السائدة بينها وبين العربية الضعيفة الحضور في القطاعات الاقتصادية والتكنولوجية الحديثة ، واستثنينا في المقابل كتابات "المنفعلين" سواء من هذا التيار الذي يقصي التاريخ باسم "قدسية" اللغة ، أم من ذاك الذي يتجاهل السيرورة التاريخية انتصارا " للجوهرانية "،نكتشف أن الكتابات الرزينة في موضوع التعدد اللغوي والثقافي في المغرب ، تتأسس في المجمل على معطيين متداخلين : يصل المعطى الأول منهما بين "سياسة الاختلاف" و "سياسة الكرامة الإنسانية "، ويجعل المعطى الثاني من" الهجنة " قدر الإنسانية مذكرا بارتباط تاريخ التعدد الإثن- ثقافي بصفته جوهرا وجوديا بتاريخ البشرية. ففي البدء كان الاختلاف ، وفي البدء تكلم آدم لغة تتضمن كل اللغات (1) ، مما يفيد أن التعدد الإثني- ومن ثم الاختلاف والتداخل الثقافيين - لايعد سمة خاصة بالمجتمعات الحديثة .(2)

وبما أن الأساس الذي انبنت عليه الدول- الأمم ، وتوزعت به السلط في أرجاء العالم الحديث ، أدى إما إلى محاولات طمس التعدد بوسائل مختلفة وبمبررات متنوعة ، وإما إلى تدبيره بكيفية غير عادلة. فإن التفكير في تشعب وتعقد طرق ملاءمة تنوع العالم (3)، يقتضي منا استحضار بعديه الدولي والوطني .

1- البعد الدولي :

أدت مسلمة وجود اختلافات بين الشعوب إلى صياغة مفاهيم معبرة عنها من قبيل" روح الشعوب " و" الخصوصية الوطنية "، في ذات الوقت الذي تطمح فيه الإنسانية إلى عالم موحد يتجاوز كل الحدود . إلا أن مفاهيم الديمقراطية والحرية والتفاعل وحقوق الشعوب ، اصطدمت بسعي الدول المنتجة والمصدرة لهذه المفاهيم- في الزمن الحديث- إلى إرساء تراتبية عبر السيطرة على لغات الشعوب المهيمن عليها،وجعل لغاتها الخاصة قنوات يتم بواسطتها إضفاء طابع أبدي على بنية هذه التراتبية (4)،التي تترجم علائق القوة السائدة بين اللغات والثقافات .مما أدى في النهاية إلى تشكل فئات اجتماعية تتبنى صورا سلبية عن ذواتها ولغاتها وثقافاتها ، لصالح لغات وثقافات المستعمرين .

ويتم العمل في إطار دراسات ما بعد الاستعمار ،على هدم التراتبية و تغيير زوايا النظر من أجل الحصول على تمثيلية تساوي بين الشعوب المستعمرة والمستعمرة سابقا ، على أساس احترام الاختلافات الثقافية واللغوية في ظل عالم هجين يتم التمييز فيه بين مطلب اختراق الحدود تثمينا للتفاعل، وهو مطلب إنساني، وسياسة التنميط وهي استراتيجية استعمارية تفرغ الاختلاف من جوهره بتحنيطها التنوع الثقافي داخل متحف عالمي .

في هذا السياق،تجدر الإشارة إلى أن واقع ما بعد الاستعمار الهجين والمعقد- الذي صير لغة المستعمرين السابقين لغات رسمية في مجموعة من البلدان ،ليناقض بذلك واقع البيت والشارع واقع المدرسة والإدارة ، أو لغات تنافس اللغات الرسمية والوطنية في عقر دارها ،والذي تزايدت فيه الهجرات من الجنوب إلى بلدان الشمال محدثة بالتدريج تغييرات جذرية لا ترضى عنها أحزاب اليمين في هذه البلدان - قد فرض من بين ما فرضه (أي واقع مابعد الاستعمار ) توجيه التفكير السائد حول العلاقة بين اللغة والثقافة بصفة اللغة هي مصدر الثقافة ،نحو العلاقة بين الخطاب والثقافة أي نحو الفكرة التي تتشكل داخل الخطاب باعتباره لغة مضافا إليها تميز استعمالها .

وتشكل الهوية بصفتها ظاهرة لغوية و ثقافية أس الجدال الدائر في المغرب، الذي تندرج ثقافته ضمن ثقافات ما بعد الاستعمار.

2- البعد الوطني :

يتضح أن النموذج الذي بنيت على أساسه الدول -الأمم في العالم بأسره هو نموذج إدماج سياسي واجتماعي لمجموعات إثن- ثقافية متمايزة بشكل كلي أو جزئي، بحيث أن سيرورات تأسيس هذه الدول لم تؤد إلى محو الخصوصيات الجهوية كما يدل على ذلك التفاوت الكبير بين عدد الدول - الأمم و عدد المجموعات الإثن - ثقافية ، ففي مقابل 190 دولة - أمة ذات سيادة نجد اليوم 5000 مجموعة إثنية تملك كل واحدة منها لغتها الخاصة تنتمي إلى 600 مجموعة لغوية .(5)

استنادا إلى هذا المعطى، يكتسي مطلب مطالبة الدولة بسن سياسة الاعتراف بالتعدد اللغوي والتنوع الثقافي الذي يميز ساكنتها طابعا عالميا ، تماما كماهو الشأن بالنسبة لردود الأفعال القوية ضد هذا المطلب ، الذي يستهدف إقامة نمط اندماج سياسي واجتماعي مختلف عن النموذج الذي تأسست عليه الدول- الأمم والذي يتقصد في المجمل تذويب الاختلافات .

إن مسألة التعدد اللغوي و الثقافي ، لا تنفصل عن مسألة التكوين الديمقراطي للدولة ، بحيث يتوجب على الدولة الديمقراطية التزام الحياد و الاعتراف بتعدد المجموعات الاثن- ثقافية التي تشكل ساكنتها، فالعمل بعد ذلك على تدبير هذا التنوع الثقافي بطريقة عادلة ووفق تصور منطقي وواضح ، يسير في اتجاه تعميق الديمقراطية ، والحد من الإقصاء و التهميش اللذين يخلقان أشكالا مرضية تنعكس سلبا على السير الطبيعي للمجتمع . إلا أن التداخل الحتمي بين الثقافي و السياسي يشكل عقبة أمام انتشار مد التعدد الثقافي، إذ يجعل منه حقلا مليئا بالمشاكل و حافلا بالالتباسات .

ويشهد المغرب ، على غرار بقية دول المعمور، جدلا ساخنا و نقاشات حادة بخصوص سياسة التعدد اللغوي والثقافي تترجم اختلاف التصورات حول الرابط الاجتماعي ومفهوم الهوية من جهة ، و سوء فهم أو مبالغة في التقدير من جهة أخرى . هذا مع أن الواقع المتحرك للتعدد الثقافي داخل عالم متحرك على الدوام ، يلزمنا بالنظر إلى الهوية ـ التي تتجاذبها اتجاهات سياسية واجتماعية وإثنية وثقافية ونفسية متشعبة - بصفتها بناء متحركا لا يعرف الثبات (6)،أي بالنظر إلى "روح الشعوب" باعتبارها خاصية مشتركة بين الذين يشخصون وجودها بطرق مختلفة ومتعارضة في الغالب.فزاوية النظر التي ننظر منها إلى الهوية هي التي تجعلها قاتلة وضد العقل والحرية الإنسانية ، أو تجعلها بخلاف ذلك اعترافا إيجابيا بالاختلاف والتعدد المنسجم مع جوهر الكون والخلق، والمضاد في الآن ذاته للتنميط والتذويب أو للنزعة العرقية الضيقة .

ولعل الارتكاز على الطبيعة الديمقراطية للتعدد الثقافي ، والوعي بضرورة توضيح الرؤية ومراجعة التصور عن الهوية من منطلق الحياد الاثن-ثقافي للدولة، كفيلان بتبديد سوء الفهم .



هامش :

1- انظر : باتريك سافيدان ، الدولة والتعدد الثقافي ، ت. المصطفى حسوني ، دار توبقال ، 2011
2- انظر : فيليب ديريبارن ، التفكير في تنوع العالم ، ت. محمد الهلالي ، دار توبقال ، 2011
3- انظر في هذا الشأن :
- عبد الفتاح كيليطو ، لسان آدم ،ت.عبد الكبيرالشرقاوي ، دار توبقال ، 1995
- Umberto Eco , La recherche de la langue parfaite dans la culture européenne. Traduit par Jean- Paul Manganaro , Seuil ,1994
4- بيل أشكروفت ،غاريت غريفيت ، هيلين تيفن ، الرد بالكتابة (النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة) ، ت. شهرت العالم ، المنظمة العربية للترجمة ، ط1 ، 2006،ص25
5- باتريك سافيدان ، م. س.، ص13
6- انظر: علاء عبد الهادي ، شعرية الهوية ونقض فكرة الأصل ( الأنا بوصفها أنا أخرى )، عالم الفكر (الكويتية) ، عدد يوليو - سبتمبر 2007


د. فاتحة الطايب



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى