سيدة بن جازية - العنقاء تتجول

روى لي أحد الطائفين مرة أحجية ، التقيته صدفة حين أداء بعض المناسك وقد سرني لطفه و سمره :

_ لا أحد ينكر القصة لكنــّه يتردّد في ذكر أدقّّ التفاصيل يا ولدي ، تشعَّبت الأحداث و تطوّرت دون توقفت منذ استيقظ الطمع يسيل لعابه على لحم طريّ شهيّ يتوضّأ خمس بماء عذب نقيّ . . .

تتوسّط القاعة تنتظر دورها في الإدلاء بشهادتها، كانت تحاول ترتيب أفكارها كما لقّنتها تلك العجوز الشمطاء،" رأيت الرجل يدنو من الشرفة، قدَّمَتْ له كيسا أسود حمله مسرعا إلى العربة و امتطى السيارة مختفيا بجنح الظلام، كان يرتدي قميصا أبيض وسروالا أزرق، طويل القامة ، بدين... "
كرَّرت ألف مرة في سرِّها محفوظتها التي ستدلي بها للحكام .

سمعت صوتا أجشّ ينادي ، خرجت من حيث دخلت، أسرع خلفها مقتفيا أثرها ... لكنها غابت عن العيان.
عاد إلى القاضي يخبره بما جرى، فأرسل فيها برقية تفتيش.

حين أحضروها بلّـغها أمرا جللا،
_ أعلمك أنك ٱصبحت متهمة في هذه القضية، ولزام عليك الاعتراف بالتهمة و إلا.....
أنكرت في البداية محاولة جاهدة التحكم في انفعالاتها ثم اعترفت أنها قد اقترفت فعلتها تحت التهديد، العجوز الشمطاء من أجبرها على إخفاء كل الوثائق و المدخرات و حرّضتها على اتهام السيدة المسكينة و السائق الوفيّ .
_ لماذا خطّطت لذلك؟
_ لا أعلم فأنا مجرد خادمة مأمورة.
_ وما المقابل؟
_ أن تقدم لي حصة من المسروق، قطعة أرض أبني عليها بيتا يأويني و عيالي بعد أن تطرد زوجة ابنها من بيت شيّدته بعرق جبينها.
_ بعت ذمة عن طواعية و أقنعتك بالعطاء! ...يا لغباءك!

_ سنتّفق إذا، أخفي عنها هذا التصريح و سنستدعيها لنسمع أقوالها، حتى نعرف ما تحوكه من ألاعيب. عليك بالصمت والتعاون معنا حتى نفرج عنك.

مضت المسكينة إلى حال سبيلها خائفة من عواقب هذا التصرف لأن العجوز لا ترحم...
بينما تم استدعاء العجوز لأخذ أقوالها و متابعة القضية.
حاولت استمالة قلوبهم و استدرار عطفهم في البداية ،
تجيب بكل دهاء ، و أتقن من داول التحقيق الدور كمتمرس لا يشق له غبار وعندما حان دور توقيعها على أقوالها طلبوا منها حسن الإنصات...

تلا الكاتب على مسامعها أقوالها كشف فيها الحقيقة ، حدّقت مليا فيهم، ثم استفسرت مذعورة :
_ ما هذا الذي تقوله؟ لِمَ غيّرتَ أقوالي؟
_ هذا ما أدليتِ به قبل حين.
_ لا ! ليس صحيحا ، هذا افتراء ...
_ نحن أربعة رجال أنكذب ؟ سمعنا و سجّلنا كل كلمة دون تغيير، احترمي هيبة القضاء يا سيدة.
_ متى قلت ذلك؟ !
_ الآن، وقّعي بسرعة. لسنا مسؤولين عن حالة الخرف التي تنتابك، الأمر مقضيّ...

أنكرت و امتنعت عن التوقيع على أقوالها ، طلب منها القاضي أن تدفع مقابل إسقاط الدعوى عشرة فدادين و أن تغادر البيت إلى مكان آخر...
صدمت لما سمعته و قد ثبّتت عينيها على شعار العدالة الذي يتصدّر الحائط، رأت دفّة الميزان تكبر و تكبر و تتحرّك من إطارها ، تتجه صوب عينيها، تحاول الهرب لتتقي شر خطر داهم فتسقط مغشيا عليها، وقد سال دمها أحمر قانيا غطّى وجهها وشالها الأبيض...
ارتبك من في القاعة وقد استعجلوا الإسعاف، ارتعشت يد القاضي وهي تمسك بالمطرقة لأول مرة شعر بثقلها و قد أطبق صدره وضاقت أنفاسه، فاستشعر سرّا تخفيه أطوار القضية. أعاد مراجعة كل الوثائق منتبها إلى التباس في بعض التمفصلات، فالأم لم تكن أما بيولوجية للمرحوم بل بالتبني، كانت تحاول حماية ميراثه الذي تركه لطفلين يتيمين... وتختار الخادمة لتساعدها أي دهاء هذا؟ ما ذنب زوجته حتى تجرّدها من ممتلكاتها ؟

بعد إسعاف العجوز و استعادة وعيها وافقت التفريط في كل ممتلكاتها مقابل إسقاط الدعوى.
لم يفهم أحد غاية العجوز من صنيعها، و لعب الشيطان بأدمغة نهبها الجشع فاتفقوا على تقاسم الغنيمة بينما طردت الزوجة المسكينة خارج القرية و امّحى شبح الخطر عن العجوز و الخادمة.
لم تمرّ بضعة أشهر و استعادت العجوز عافيتها وقرّرت الأخذ بثأرها من القضاء ، فاشتكتهم إلى المخفر مستعينة ببعض التسجيلات، سخروا منها في البداية و استهزؤوا بسخافتها لكنها استبسلت في الدفاع عن ممتلكات العائلة وقايضتهم باستعادة ممتلكاتها وإضافة بعض آخر مقابل سحب الدعوى و التظاهر بالغباء و الفصام....
انصاعوا لخطتها و نفذوا ما طلبت لكن حالما نجحت خطتها زجت بهم في السجن وراحت تبحث عن فريسة بلهاء.
و أصبحت عقب كل عملية استيلاء تتخلص من ضحاياها بالزجّ بهم في المشافي أو السجون.
كبرت الممتلكات و زادت الأطماع ومقابل ذلك زادت مخاوف الناس من شرّها فهي لا تستثني أحدا من غدرها.
أضحى الكل يخشى بطشها ويقرأ لها ألف حساب بينما البعض الآخر يتودّد لها و يسترضيها بالغالي و النفيس. وانتشر خبرها في المناطق المجاورة و اتسعت الرقعة، ولكن لا أحد يعرف من تكون وما أصلها أو فصلها وهي العاقر التي لم تنجب و المعدمة التي لا يعرف عنها أصلا ولا فصلا..
دار الحديث بين البعض كونها مدعومة من العائلة المالكة و بعضها يردد سرا أنها سليلة عرق مستشرق و بعض كبار السن نسبوها إلى بعض الرحل و البدو المستعرب..
انتفخت أوداجها و عظمت رقبتها وتيبست يداها و قد تطاير الشر من عينيها حتى خالها الصغار غولة أما الكبار فرددوا فيما بينهم كلما شاهدوها تتجول بين فدادينها العنقاء تتجوّل لا بارك الله في خطوها.

لكن بعض المتزلفين كادوا لبعض وتناقلت بعض أخبار مجالسهم فسلّطت عليهم شر العقوبات كأن تبعث بمن يخرّب ممتلكاتهم أو يزرع الفتنة بين عائلاتهم فيبتلع لسانه و يخرس إلى الأبد.

استفاقوا ذات صباح على صوت صياح الخادمة على العجوز مهدّدة إياها بالبوح. حاولت قتلها لكنها بعد كل محاولة ترتوي من خضاب الدماء فتستعيد ريعان شبابها و تواصل حلمها المتلفع بكوابيس الأبرياء. سألها الحانوتي :
حتى متى؟
أرعبها السؤال الذي لم تفكّر فيه و عجزت عن الجواب في حيرة و استهزاء وكانت هذه هي المرّة الوحيدة التي تعجز فيها ما دامت لم تتلقّ مساعدة من جديد كما وعدوها...

استجمع القوم قواهم وقرّروا البحث عن حلّ جذريّ للمصيبة
بعد صلاة العشاء في باحة المسجد العتيق ومنذ ذلك العهد أخذ عدد الرجال يتناقص ...
سألني مرافقي في حيرة : أ لك حلّ لهذه الأحجية؟

طلبت مهلة للتفكير و انسللت هاربا بين الطائفين.

سيدة بن جازية تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى