مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - الفصل الثالث من رواية مريم (الفلسطينية الضائعة)

تعددت لقاءاتى بك ، كانت فى البداية بحجة السعى للاصلاح بينك وبين أدهم ،إلا أنها سرعان ما اتخذت منحى آخر تماماً ........
هل هو القدر الذى وضعك فى طريقى أم انها مجرد مصادفة لا معنى لها ؟
تغافليننى لتضعى كل ما تريدين من أفكار فى رأسى ...تأخذيننى من عقلى ...تنزعى عنى كل ما ارتديته من عادات ، ومعتقدات ألاف السنين ، فقط تجعلينها مجرد موروثات بالية.
قد تكونين كل شئ ، وقد لا تكونى.
هل أنت مجرد خيالات وأطياف قد صنعها عقلى واستقبلها بلهفة مدهشة قلبى الموجوع دائماً ؟
أأنت جنية من جنيات ألف ليلة ؟
أم أنت شهرزاد نفسها صاحبة الأسرار والحكايات المثيرة !!!
- مريم ...احك لى عن سنوات طفولتك .
- طفولتى ...أه ..يا لها من ذكريات .
وبعد أن تشردين لبرهة من الزمن تنطلق منك تنهيدة حزينة ، ثم تردفين :
- حين كنت أفرغ من اليوم الدراسى فى مدرسة القاهرة الإبتدائية ، وأعود إلى بيتى فى منطقة الرمال بغزة ..ذلك البيت المكون من دوريين وحديقة كبيرة تمتلئ بالعنب ، والليمون ، وشجر اللارنج ، ألهو مثلى ، مثل كل الأطفال بين الحدائق والأفدنة ، كنا ننتقل بين بيارة دار الشوا ، واليازجى ، وأبو شعبان ، وقتها كنا ننظر للعالم كله بمنتهى البراءة والأمل ، رغماً عن كل ما يحدث حولنا من صراعات ، وحروب فى تلك الفترة ، وخاصة بعد حرب 67 وما أعقبها من حركات شديدة للمقاومة ، وحين كنا نهبط إلى شاطئ البحر كان يواجهنا مخيم الشاطئ ، ذلك المخيم الذى تحول من بعض الخيم إلى بضعة حجرات من الصفيح ، ثم مؤخراً استبدل الصفيح بالطوب والاسمنت ، ذلك المخيم كان يشكل قطعة رمادية اللون ملقاة على شاطئ البحر ، وكنا ننظر إليه بفضول وبراءة لا تخلو من حزن عميق ، لا نعرف مصدره ...وظل الحال ماضياً حتى جاء اليوم الموعود بقرار عسكرى لإخلاء البيت الكبير ، الذى سيتم تفجيره ، بعد اعتقال كل رجال العائلة ، ليلقوا فى معتقل أنصار 6 فى النقب ..وأمى تقف حائرة بينما الحاكم العسكرى يأمرها قائلاً :عودى إلى بلدك ...عودى إلى مصر .
ولم أكن أدرى وقتها ماذا فعل أبى ليحدث كل هذا الانقلاب فى حياتى ...علمت بعد عودتى إلى الإسكندرية أن أبى كان قد قام بعملية فدائية كبيرة حيث أنه كان أحد الأبطال من فصائل المقاومة .
- وماذا بعد ؟
- فقط فقدت بيتى ووطنى وأبى ، وعدت إلى الأسكندرية ، إلى أهل أمى ، أولئك الذين اعتبروا أمى من قبل فتاة طائشة ضالة ، لأنها فى نظرهم قد جلبت لهم العار والفضيحة بزواجها من ذلك الفلسطينى الغريب .
- منذ متى ونحن ننظر إليكم كغرباء ؟!
إنكم تعاملون كأبناء لوطن واحد ،هو وطننا جميعاً.
- هذه مجرد كلمات لتجار الكلمات منكم من الأدباء والشعراء والفنانين .
- كيف تسخرين من الأدباء والفنانين ؟! رغم كونك تنتمين إلى هذا الفصيل ، وكأنك تقللين من دور الكلمة!!
هل نسيتى هرتز ذلك الأب الروحى للصهيونية العالمية ؟
هل نسيتى أنه فى الأساس مسرحى بارع ؟ وأنه لولا موهبته الفذة فى القدرة على التخيل ، وبناء الأحداث ، لما كانت هناك دولة إسرائيل .
أنا وأنت وهو والزمن والكون كله مجرد لغز محير!!
هل يعقل كل ما يحدث لى ؟ !
أين عقلى ، وأنت مجرد فتاة عربية ، كانت ثمرة حب لأب فلسطينى مناضل وأم سكندرية .
فلسطينية أنت ، سكندرية أنت !!
وأنا !!
حقاً من أنا ؟ ومن أنت ؟!
هل أنت مجرد أنثى ...أم أنت مدينة كاملة من الغموض والسحر ؟!
هل أنت بدايتى المفقودة ؟! أم أنك نهايتى الحزينة ؟!
رجل وامرأة ...حياة ، أم موت ؟!
عدم ...ألم ...صمت أو بكاء .

***
فى مفاجأة غريبة اقتحمت علينا علياء(زوجة أدهم ) ، مقر الجريدة ، كانت غاضبة ،مستاءة ، وكنت غارقاً فى تفصيلات كثيرة تخص بعض التعديلات التى أنوى إجرائها فى بعض أبواب المجلة...ترامى إلى سمعى مشاجرة حامية بينك وبينها ...
- لا يصح أن تحادثيننى بمثل هذا الإسلوب .
- ومن أنت حتى تعلميننى الصواب والخطأ ؟!
وضربت علياء بقدمها باب حجرة مكتبى ، مندفعة نحوى بينما كنت فى أثرها تحاولين منعها .
طلبت منك أن تنصرفى ، ثم استدرت إلى علياء ، التى بادرتنى قائلة :
- هذه الفتاة المستهترة لابد من طردها من الجريدة فوراً .
- لا تنسى أننى رئيس التحرير ، وكونك زوجة رئيس مجلس الإدارة ، لا يعطيك حق التحكم فى الموظفين .
- وأين هو رئيس مجلس الإدارة هذا ؟ صديقك غائب عن بيته منذ عدة أيام.
- جئت هنا لتبحثى عن زوجك ، أم جئت لتطردى مريم ؟!
- إنها فتاة لعوب ، لابد أنها تقيم علاقة معك أنت أيضاً.
- ماذا تقولين ؟!
- لا تحسب أننى غافلة عما يحدث ....
قل لصديقك إن لى عيون فى كل مكان ، تنقل لى كل حركاته ، بل وسكناته .
- طالما أنك تملكين أقوى جهاز مخابرات على زوجك ، إذن كيف لا تعرفي أين يوجد ؟
لماذا لا تسألى بصاصينك المحترفين ؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى