مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - الفصل الخامس من رواية مريم

لم يكن فى حسبانى حضور أدهم فجأة ،خاصةً بعدما استبدلنا المطعم الذى كنا نلتقى به بكافيتريا أخرى فى منطقة العجمى .
نظر أدهم إلىَّ والإبتسامة الصفراء تكسو وجهه ، ثم قال بهدوء مريب :
- مفاجأة ليست فى الحسبان أليس كذلك ؟!
- ...
- عموماً أنا كنت ماراً بسيارتى من أمام الكافيتريا ، ولما لمحت سيارتك واقفة بالخارج ، قلت فرصة أتحدث معك فى بعض الأمور ، ولاسيما أنك فى المجلة دائماً مشغول ولا أستطيع أن أتحدث معك بحرية .
كان أدهم يوجه حديثه لى ، وكأنه لا يبصرك، بينما كنت أنت تعانين حالة من الارتباك الشديد ، إلا أنك سرعان ما تمالكت نفسك ثم نهضت على حين غرة مهرولة إلى الخارج ، وأنت تتمتمين :
- لقد تأخرت لابد أن أنصرف الآن .
جلس أدهم قبالتى ، متشاغلاً بإشعال سيجارة ، وبعد برهة من الصمت ، التفت إليه قائلاً:
- أدهم لا تفهم الموقف خطأ .
نظر أدهم إلىَّ نظرة طويلة ذات مغزى عميق ، ثم همس :
- لا داعى للحديث فى مثل هذه الترهات .
- ألست غاضباً منى ؟
- أنت أعز صديق لى ...كيف لى أن أغضب منك ؟!
- ما بينى وبين مريم علاقة مختلفة .
- تقصد علاقة غير جسدية ؟
- لم يحدث بينى وبينها أى شئ على الاطلاق ، فهى مجرد شخص أشعر نحوه ...
- بماذا ؟!
-...
- تشعر نحوه بماذا ؟! لا تقل لى بالعطف والصداقة ، وتلك التفاهات .
- تفاهات !!
- هل تأتى إلى العجمى قاطعاً كل هذه المسافة لأجل العطف!
بعد انصراف أدهم ، حاولت الاتصال بك ، إلا أنك كنت تغلقين الهاتف فى وجهى ، وبعد محاولات عدة أجبتنى ولكن بجفاء شديد :
- ماذا بك ؟
- لا شئ .
- لماذا إذن تغلقين الخط فى وجهى؟
- أستاذ عمر ..لا يصح أن تحادثنى فى مثل هذا الوقت المتأخر من الليل .
- إذن سأهاتفك فى الصباح لعلك تكونين أهدأ حالاً .
- أرجوك لا تتصل بى على الاطلاق .
- ماذا؟!
- أستاذ عمر ..أرجوك لا تتصل بى ثانية ً .
وأغلقت هاتفك بمنتهى القسوة حتى من دون أن تسمعى منى أية كلمة .


لماذا كل هذه الرغبة الملحة فى التحدث والاستماع إليك !؟
لماذا باتت حياتى متوقفة على مجرد ابتسامة منك أو حتى مجرد إشارة خفية ؟!
أين كرامتى ؟
...أين غضبتى لنفسى حين أغلقت الهاتف فى وجهى ؟!
ولأول مرة أسترجع كل ما حدث منذ اللحظة التى رأيتك فيها ، واقتحمنى طوفان من الأسئلة الحائرة ...
ماذا حدث لى ؟!
هل أنا أحبك حقاً ؟!
وهل هناك فعلاً شئ يسمى الحب ؟!
إننى أنكرت هذا المعنى منذ زمن ليس بالقصير ، بل إننى كفرت به ، ولكننى لم أكفر أبداً بالصداقة ،كيف لى إذن أن أغدر بصديق عمرى أدهم ؟
وهل لى أن أنسى دورى الأساسى فى لقائى الأول بك أنت وأدهم ، حينها لم أكن سوى أداة طيعة ، يستخدمها أدهم للتستر على علاقته بك ، وأنا الذى حصلت منه على رقم هاتفك بعد أن أوهمته بمحاولتى للاصلاح بينكما بعد أن صب جام غضبه عليك حال معرفته بعلاقتك الخفية بجاسر!!
ترى من هذا الجاسر الآخر ؟!
هل أنت فعلاً على علاقة خفية به ؟!
أم أنك حبيبة أدهم ؟!
نعم أدهم ...صديقى الذى يحبك .
هل هوبالفعل يحبك ؟!
ولكن كيف وهو متزوج من علياء وله منها ابنة جميلة ؟!
هو يحب علياء ....نعم يحبها .
إنه صديقى وأنا أعرفه حق المعرفة بل إن الجميع يعلم أنه يحب زوجته ، بل يعشقها .
ولكن .....
ولكن ماذا ؟! .....
منتهى الحيرة ..منتهى الغضب...منتهى الألم .

***

حاولت أن أهرب منك ، على أتوه فى مدينتى الساحلية ، عروس كل البحور ...أصوات الباعة الجائلين..بائعى الاذرة المشوى ، والفريسكا ، ونباح كلب يلاعب صاحبه ، وصيحات فتاة تداعب رفيقها ، ومجموعة نسوة يستحمن فى البحر ، وبعض الأطفال يضربن الكرة بقوة ، وأنت لازلت كما أنت لم تبرحى عقلى قيد أنملة ..كم تشبهين مدينتى التى تبدو شابة عفية ، متجددة متعطرة دائماً ، وهى فى الحقيقة عجوز قد تجاوز عمرها مئات السنين .
مدينتى عشاقها كثيرون ..غزاتها ما ألعنهم ..ما أكذبهم ..يا ليتنى كنت أنا الإسكندر الأكبر صاحبها الحقيقى ...يا ليتنى كنت أول قدم تطأ أرضها ، ولكننى للأسف أعرف جيداً أن ألاف الأقدام قد وطأتها من قبلى ...كم تشبهينها حقاً ..بل هى أنت ...إسكندرية الحب والجمال ،وأيضاً المجون والجنون .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى