د. عبدالواحد التهامي العلمي - قراءة السرد العربي القديم بين وهم المماثلة ومبدأ المغايرة دراسة في بعض النماذج - الجزء السابع

الجزء السابع


توطئة
يصدر هذا البحث عن مبدأ نظري يقر بأن الأدب مفهوم مرتبط بالتاريخ والمجتمع والثقافة؛ أي أنه يشكل معاييره وأعرافه في ارتباطه بحاجيات الإنسان الجمالية والاجتماعية. وأن أي إخلال بهذا الشرط، قد ينجم عنه إخلال بقواعد قراءة الإنتاج الأدبي والإنساني في التاريخ، على نحو ما حصل في الثقافة الأدبية الحديثة التي أفرزت قراءات لم تراع مبدأ التمايز الذي يسم الإبداع الأدبي الإنساني، مما عرض أنواعا أدبية في تراثنا إلى التهوين، لكن التحولات التي حدثت في تصورات الدارسين العرب المحدثين لمفهوم ارتباط الأدب وأنواعه وأشكاله بالوعي الجمالي السائد في الحقب التاريخية، أعاد لتلك الأنواع الأدبية التراثية قيمتها الجمالية.
3 النادرة
أ- النادرة في التراث النقدي العربي القديم
على الرغم من قلة النصوص النقدية حول النادرة إلا أن ما توفر منها يكشف عن وعي القدماء بوجود جنس أدبي يتطلب التسمية ويتطلب التفكير في صياغة معاييره وضبط حدوده البلاغية؛"لقد ورد في كتاب أبي حيان التوحيدي "البصائر والذخائر" أن " ملح النادرة في لحنها، وحرارتها في حسن مقطعها ، وحلاوتها في قصر متنها، فإن صادف هذا من الرواية لسانا ذليقا، ووجها طليقا، وحركة حلوة، مع توخي وقتها، وإصابة موضعها، وقدر الحاجة إليها، فقد قضي الوطر، وأدركت البغية".
هذا النص، يدفع المتأمل إلى التساؤل عن سر الاقتران بين النادرة واللحن، والإجابة يقدمها الجاحظ في النص الآتي بقوله: "وإذا كان موضع الحديث على أنه مضحك ومله وداخل في باب المزاح والطيب، فاستعملت فيه الإعراب، انقلب عن جهته، وإن كان في لفظه سخف وأبدلت السخافة بالجزالة صار الحديث الذي وضع على أن يسر النفوس يكربها ويأخذها بأكظامها".
ولعل هذا يعني أن النادرة تعمد إلى إقحام اللهجات الحية والعجمة، والمزج بين الجد والهزل، والازدواجية اللغوية والمزج بين الفصحى والعامية، ومناسبة الكلام للمقام.فهل يعني هذا أن ملاحتها تقترن باللحن؟ وأن الانزياح عن قواعد اللغة في الإعراب، والعدول عن الصيغ الصحيحة يضيفان إلى النادرة قيمة جمالية تعدمها في حال الالتزام بالإعراب وتحامي اللحن؟
إن ملحة النادرة تكمن في ارتباطها بصاحبها، وعلى الكاتب أن يراعي المستويات اللغوية والاجتماعية لشخصياتها، فلكل طائفة لغتها التي تتميز بها، إذ إن لغة الأعراب تختلف عن لغة المولدين، ولغة العلماء تختلف عن لغة العوام.
لكن انكباب النقد القديم على أجناس أدبية معينة كالشعر والترسل حال دون الاهتمام الواسع بأجناس السرد، ومنها النادرة التي ستحتفي بها الدراسات الحديثة.
ب- تجنيس النادرة:
كشفت قراءة محمد مشبال "بلاغة النادرة" عن طموح إلى الإسهام في تجنيس النادرة التي يراها نوعا سرديا ينطوي على سمات ومكونات. فالنادرة – حسب المؤلف – جنس أدبي مخصوص ينزع منزع الطرافة والفكاهة والضحك. ويقصد الباحث بالمكونات، العناصر الضرورية التي يقوم عليها جنس النادرة وهي: الطرافة، وصورة اللغة، والعبارة الختامية. وتعد الطرافة مكونا بلاغيا في جنس النادرة، حيث تعمل مختلف الوسائل السردية على تشكيله؛فلا وجود لجنس النادرة من دون هذا المكون.
وتعني "صورة اللغة" اقتران الكلام بصاحبه ومستواه الاجتماعي.حيث تعمد النادرة إلى التنوع الأسلوبي،عندما تدخل في تكوينها البلاغي لغات المتكلمين. وتنتهي كل نادرة من نوادر الجاحظ ب"عبارة ختامية" تعمل على إثارة الضحك والموقف المتوتر، وتنبني العبارات الختامية على المفاجأة والتلاعب بالألفاظ والمهارة في التعبير عن الموقف.
غير أن هذه المكونات التي تحدد جنس النادرة لابد لها من سمات تسندها، إذ لا يقوم بالعناصر الضرورية فقط، ولكن أيضا بالعناصر الثانوية التي تحضر وتغيب، وهو ما يسميه المؤلف بالسمات ك"الحجة الطريفة" وهي حجة تتناقض مع مقتضيات المقام.و"الحيلة" وهي تتجسد في مواقف وأفعال طريفة، و "التعجيب" الذي يقوم على جملة من المظاهر، ويستدل المؤلف ببعض النوادر التي تصور أعاجيب بخلاء الجاحظ، نادرة أبي عبد الرحمان المعجب بأكل الرؤوس، ونادرة ليلى الناعطية التي ترقع قميصا لها وتلبسه، حتى صارت لا تلبس إلا الرقع ...، ثم نادرة المغيرة بن عبد الله.
ويؤكد المؤلف أن هذه السمات الثلاث (الاحتجاج والحيلة والتعجيب) لا ينفصل بعضها عن بعض، ويقف الباحث على سمة أخرى من سمات الهزل في أدب الجاحظ عامة ونوادره خاصة، وعي ما أسماه ب"التضمين التهكمي"
و"التضمين التهكمي" سمة أسلوبية يتضافر مقومان بلاغيان في تكوينها، يتمثل المقوم الأول في "التضمين" والثاني في "التهكم". مثل تضمين الجاحظ لآية قرآنية في سياق هزلي كقوله: "وقلت: لولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله تعالى وعز الجنة بالعرض دون الطول، حيين يقول: )وجنة عرضها كعرض السماء والأرض(.
وتعد "المقابلة" سمة أخرى في النادرة، وهي تتجلى في بعض النوادر في التقابل بين فخامة الأسلوب وبين تفاهة الموضوع وضآلة قيمته، وتقابلا يتمثل في تجاور محاسن الشيء ومساوئه، وتقابلا السلامة، والتقابل بين موقفين أو مشهدين تصويريين.
يرى الباحث أن الجاحظ صارع فكرة عجز اللغة عن تمثيل الأشياء وأخذ يعتصر ما تختزنه اللغة من طاقة تصويرية كفيلة بمضاهاة الرؤية العيانية؛ فالجاحظ كان بارعا في التصوير اللغوي القائم على تشغيل جميع مظاهر الطاقة اللغوية التي يتطلبها موضوع مخصوص كتصوير الأكول الشره.
هذه خلاصة تصور الباحث الذي يبدو أنه يوسع البلاغة لتعانق رحابة الأعمال الأدبية بشتى أشكالها وأنواعها وأنماطها. هذا الطموح العلمي إلى تأصيل البلاغة الذي عبر عنه في كتاباته الأخرى، هو ما كانت ترومه الاجتهادات البلاغية العربية الحديثة مع الشيخ أمين الخولي الذي لا يفتأ يستلهمه الباحث في أكثر من مناسبة.
يتبين مما سبق أن النادرة نوع سردي هزلي يندرج ضمن جنس الخبر، وقد يستقل بذاته؛ وتشير قراءات أخرى إلى أن ما وصف بالنادرة عند أصحاب هذه القراءات يصنف في إطار الخبر كما نجد ذلك عند شكري عياد ومحمد القاضي. فلا فرق عندهما بين جنسي الخبر والنادرة؛ إلا أن فرج بن رمضان يجعل نصوص الجاحظ السردية الهزلية على الرغم من انتمائها إلى مجال الأخبار، تتميز بمكونات تضفي عليها صفة الاستقلالية عن جنس الخبر إذ إنها تعدّ "جنسا قائما بذاته صالحا للدراسة على حدة".
لقد حدد الباحث ثلاثة روابط على الأقل تشد كتاب البخلاء إلى المدونة الخبرية: رابطة التسمية، ورابطة السند، ورابطة القصصية.
-رابطة التسمية
لا يميز الجاحظ بين مصطلحي: النادرة والخبر؛ فهما في نظره مفهومان متقاربان من حيث المعنى وخاصة حين تردان عنده في صيغة الجمع "النوادر"، "الأخبار". –
-رابطة السند
لقد لاحظ الباحث أن السند "شائع" في كتاب البخلاء؛ إذ إن الجاحظ يسلك فيه طرقا مختلفة. فقد يحيل السند إلى أشخاص وأعلام مشهورين ومعروفين بأسمائهم، وقد يحيل إلى راو غير معروف أو أن الجاحظ تعمّد التستر عليه، و قد يلجأ الجاحظ إلى "التصرف في فنون الإسناد."
-رابطة القصصية:
يرى الباحث أن "القصصية" صفة ثابتة في الخبر ومتغيرة في النادرة بحيث تصبح مقوما ثانويا فيها.
ويرى أن النادرة والخبر يشتركان في مكونين هما: قصر الحجم وبساطة التركيب، كما أنهما معا يعتمدان على السند والقصصية مكونين نوعيين، إلا أن النادرة قد تستغني عن السند. أمّا ما يميز النادرة عن الخبر فهو "الهزلية" التي يفتقر إليها الخبر وتتوفر عليها النادرة.
يرى الباحث أن النادرة لا تكون نوعا أدبيا إلا بحضور مكونين أساسيين هما: القصصية والهزلية؛ وأما الاقتصار على الهزلية فإنه غير كاف لإقامة النادرة: " إذا كانت نادريّة النادرة تكمن في هزليتها وقدرتها على إثارة ضحك المتقبّل، فإنها إذا ما اقتصرت على شرط الهزلية فقدت أهم مقوماتها إذا أضيفت إلى أجناس أخرى من قبيل: الأحاديث والأخلاط والأشتات والملتقطات الشبيهة بها من قبل هزليتها لا أكثر".
وعلى هذا الأساس لا يقبل فرج بن رمضان تصنيف مجموعة من نصوص البخلاء الهزلية في إطار النادرة لأن "النادرية" أو "الهزلية" تتحققان في البخلاء فعليا من دون اللجوء إلى القصصية. أما محمد الخبو فإنه ينظر إلى النادرة باعتبارها نمطا خطابيا وليس نوعا أدبيا، إذ يرى أنها تشمل كل النصوص الهزلية في كتاب "البخلاء" كالقصص، والأقوال المطولة في شكل رسالة أو رد أو وصية، والأقوال المتبادلة من نوع ما جرى بين أبي عثمان والحزامي ومن نوع ما دار بين الجاحظ ومحمد ابن أبي المؤمل. ومن هذا المنطلق، يظهر-في نظر الباحث- أن كل نصوص كتاب "البخلاء" تندرج ضمن النوادر لتوفرها على عنصر الهزلية.
إن هذه القراءات التي كانت واعية بما يتميز به هذا الجنس الأدبي القديم الذي-وإن كان يعرض على المتلقي شكلا من أشكال القصص- إلا أنه يختلف تماما عن أشكال القصة الحديثة. وهكذا تكون هذه القراءات قد لامست مكونات النادرة والخبر على الرغم مما نجد فيها من أفكار متعارضة.
وقد رصد إبراهيم بن صالح وهند بن صالح الشويخ مكونات النادرة وسماتها في "البناء القصصي" الذي يشتمل على نواة أو نواتين سرديتين، وفي "الرواية" التي تقوم على السند والمتن، وفي "بناء الشخصية" التي تقوم على التصوير الفكاهي والإحالة على الواقع، وفي "القصدية" التي تتمثل في الإضحاك والنقد لأجل الإصلاح.
إن جعل النادرة مساوية للخبر يحصرها في النصوص السردية. فالنادرة في أصلها خبر هزلي، تتحدد بالهزل الذي يتجسد في السرد. والجدير بالذكر أن الباحثين اعتمدا في دراستهما لنصوص كتاب "البخلاء"على النصوص الهزلية؛ فالنادرة في جوهرها لا تستوعب إلا النصوص الهزلية



جريدة الشمال ، عدد يوم السبت 28 أكتوبر 2023.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى