مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - الفصل العاشر من رواية مريم

وتنظرين إلى طويلاً ثم تهمسين فى خجل :
. فى فترة غيابك إلتقيت بأدهم فى حديقة المنتزه -
- أهو الذى طلب لقائك ؟
- بل أنا، لقد كنت فى حالة سيئة ، خاصة بعد مشاجرة حامية بينى وبين والدتى.
. بالتأكيد حالتك هذه كانت فرصة كبيرة له -
- أدهم وقتها اتهمنى بأننى فتاة لعوب ،وأننى سأسيء إلى سمعته ، وأنه علينا أن نفترق فراقاً نهائياً ، غضبت وقتها أيما غضب ، وحاولت الاتصال بك كى أشكو لك سوء معاملة صديقك ، ولكن هاتفك كان مغلقاً.
. أدهم لا يحب سوى نفسه -
. ولكننى كنت أرى فيه الصديق الذى تدخره لوقت الشدة -
!! ما بينك وبينه لم يكن قط مجرد علاقة صداقة .. أرجوك ،إن كذبك الآن لم يعد له أى معنى -
. وأنت أيضاً كاذب -
- كذبت على من ؟
- كذبت أسوأ أنواع الكذب .... كنت تعلم أننى أحبه ولكنك كذبت نفسك واختلقت لها عشرات المبررات للنفى ، وإلا ما كنت ظللت على علاقتك بى.
- كلنا نكذب ، لا أحد لا يكذب ، ولكن الكذب على النفس قد يكون مبعثاً لسكينتها ، ومسكناً لأوجاعها ، أما مشكلتك أنت أنك تكذبين دون أن تدرى أنك تكذبين.
- وهل حين كذبت على نفسك كنت تعلم فى أعماقك أنك تكذب ؟
- فى الحقيقةهذه مشكلتك أنت ، فأنت من كثرة كذبك صدقت نفسك ، أما أنا فقد كنت أعلم جيداً خطورة ما أنا فيه.
- هل تذكر يوم استبدلت سيارتك القديمة بسيارة جديدة فارهة ، وقمت بتغير كبير فى مظهرك ،وملابسك التى أضحت مسايرة لأحدث خطوط الموضة العالمية ،حتى قصة شعرك قمت بتعديلها لتماثل نفس قصة شعر أدهم ،كنت أعلم جيداً أنك تحاول إغوائى.
. هذه نصيحة أدهم ، لقد قال لى إنك مثلك مثل كل النساء، تعشقين المظاهر -
. أنا لا أنكر أن لهذه المظاهر بريق ، بريق يغوى كل البشر نساءاً ورجالاً -
- لقد رأيت منك أفعال كثيرة تؤيد كل كلماته ، ففى الوقت الذى كنت تمنعين عنى أية فتاة تحاول مجرد الاقتراب منى ، وكأننى صرت ملك لك ، كنت فى الوقت نفسه ترفعين سماعة التليفون وتدعين أدهم لمقابلتك والخروج معك وحدكما .
- عمر تحديداً ماذا تريد منى؟
- بل أنت أرجوك أخبرينى ماذا تريدين ؟
. إن حياتى تمتلئ بالمشاكل ، وأنا أخشى عليك منها -
- لا داعى لأى كلمات فارغة ، قولى لى أنك لا تحبيننى ....
فقط قوليها واضحة ، فهذا شأنك أنت وحدك ، وعندئذ سأبتعد تماماً من حياتك .
- أنت لا تفهم أى شىء .
زادت حدة انفعالى ،صرخت بك :
- حين أطلب منك تحديد موقفك تتهميننى بعدم الفهم !!
- أرجوك اهدأ قليلاً.
- أى مخلوق أنت ؟
- أنا امرأة عادية .
استشط غضباً حتى أننى صحت بك :
- بل أنت شيطان فى ثوب امرأة .
انهمرت دموعك غزيرة ،نهضت غاضبة ، بينما أنا تجمدت فى مكانى حزيناً حائراً .

احتد الخلاف بينى وبين ممدوح مدير التحرير ، أمام اصراره على المضى قدماً فى نفس سياسة الإثارة والفبركة الصحفية التى يتبعها ، مبرراً فعلته بأنه هكذا يحافظ على مكانة المجلة وتحقيق نسبة توزيع عالية .
- ممدوح ليس من المقبول بعد أن تمر البلد بثورة عظيمة ، أن يظل حالنا فى المجلة كما هو .
- عن أى ثورة تتحدث ؟!
- 30 يونيو .
- عذراً أستاذ عمر ، ما حدث لا يسمى إلا هوجة أو فوضى أو ..
قاطعته محتداً:
- أو انقلاب أليس كذالك ؟!...
عموماً أنا لن أناقشك فى ماهية ما حدث ، ولن أحاول تعديل رأيك ، يبدو أنه من المستحيل أن تتخل عن هواك الإخوانى ...!!
- أنا لست إخوانياً ،وليس لى أى علاقة بأى تنظيمات دينية أو سياسية .
- واضح أنك موجه .
- موجه ممن ؟
- من الداخل والخارج ، الخونة كثيرون .
صاح ممدوح فى إنفعال :
- هذه إهانة كبيرة ، لا يمكننى السكوت عليها .
- وأنا أيضاً لا يمكن أن أسمح لك بالبقاء فى هذه المجلة .
***
ممدوح من أسرة متواضعة ،من أقاصى الصعيد ، الأب مزارع يمتلك بضعة قراريط ، والأم ربة منزل بسيطة ، لديه من الإخوة خمسة ، لم يكمل أحداً منهم تعليمه لضيق ذات يد الأب ، عين ممدوح فى المجلة منذ بدء نشأتها بتوصية من أدهم ،دوماً حاولت أن أعرف سر علاقته الوطيده به ، تلك العلاقة التى جعلته يتخطى رؤسائه ويصل إلى منصب مدير التحرير ، لم يمتلك ممدوح موهبة فذة تؤهله لهذا المنصب ،فهو لديه مقومات الموظف الروتينى ، المنفذ الجيد للتعليمات ، هو يعرف أصول العمل الصحفى كمثل التلميذ الحافظ لمواده الدراسية حفظاً أصماً بدون فهماً حقيقياً أو قدرة على الإبداع والتطوير ، ولكنه فى الآن ذاته كان على علاقة حسنة بكل زملائه ، فهو دائماً أول من يجامل فى المناسابات الفرحة ، وأول من يعزى ويشاطر أى مكلوم فى فقد عزيز لديه ، وأيضاً فى ظروف المرض تجده إلى جوار المريض وكأنه أحد أفراد أسرته ، وما أن يعلم بحاجة أحد الزملاء للمال إلا وتجده أول المتبرعين ، والعجيب أنه كان يساعد بما يتجاوز راتبه المعروف لدينا بكثير ،أحبه معظم زملائه لسلوكه الناعم معهم ، حتى فى وقت الصلاة كانوا يجعلونه يصلى بهم إماماً وفيهم من هو أكبر منه سناً وعلماً ، وكيف لا وهو أكثرهم إحساناً، وهو الحافظ للقرآن ،الصائم دائماً ، والحاج لبيت الله الحرام عدة مرات رغم صغر سنه .
***
كل ما بينى وبينك أصابه شيء ، و بكل ما أوتيت من قوة بنيت بينى وبينك حاجزاً كبيراً ، حسبته من فولاذ ، صرت أتحدث معك بحساب ، أتعامل معك مثلما أتعامل مع أى شخص فى المجلة ، بل إننى دفنت لهفتى وشوقى عليك فى قلبى ، وفى الوقت الذى كنت فيه أشتاق إلى سماع صوتك ، وتنسم عبيرك المسكر ، ورؤية ملامحك الفريدة ، فى الوقت الذى كان الهوى فيه يعصف بى اشتياقاً حتى إلى لمسة من أناملك ، أو رشفة من نفس الكأس الذى ارتويت منه ، فى ذلك الوقت كنت أنا أحارب نفسى حتى لا أضعف وأرفع سماعة الهاتف وأدعوك إلى ممارسة نفس لعبتك معى ، نفس لعبة حواء القديمة ، وأوصلت نفسى إلى حد الانتحار حين كنت ألمحك صدفة بين أروقة المجلة ، وأتظاهر بعدم رؤياك ، وبكل ما أتويت من قوة أتجاهلك إلى حد الفتور المميت ، وأنا قلبى ينتفض بين ضلوعى ، ينزف ألماً ولوعة واشتياقاً إلى قطرة من عسلك ......
دخلت على زيزى المكتب بغتة وسحبت من يدى كأس خمرك التى ظننتها دوائى من داءك ، صاحت بى :
- أستاذ عمر ...ماذا أصابك ؟!...هذه أول مرة أراك فيها تشرب الخمر .
- بل تجرعتها كثيراً من قبل ، ولكن ليس فى مثل هذا الكأس .
- ولكن على الأقل ليس فى مقر عملك ... ماذا حدث لك ؟
إن حالك من سئ إلى أسوأ ..هزال وشحوب ، اضطراب ، وعصبية ، وحزن رهيب يسكن ملامحك .
- لا شأن لك بى ...أرجوك اتركينى وحدى .
- كيف أتركك وأنت بمثل هذه الحالة ؟
...أأتركك لحزنك وألمك ، أم أتركك لزجاجات خمرك حتى تهوى صريعاً؟!
أرجوك انهض من كبوتك ، لا تستسلم لأحزانك ، فكم من الأحداث عبرت حياتنا وأصبحت مجرد ذكرى بعد أن كنا نحسبها مصائب لا فكاك منها .
. زيزى لا تقلقى على ... أنا لن أموت -
- أستاذ عمر كلنا نعلم أنك رجل صلب ، كم تحديت الكثير من العقبات ،وكم خضت العديد من المعارك الشرسة ، حتى تصنع ذلك الاسم اللامع فى تاريخ الصحافة والإعلام.
أستاذ عمر استحلفك بحق قلمك الذى لم ينكسر يوماً أو يهن أن تفق من غفوتك ...أن تخرج من كبوتك .
يا أيها المعلم ، يا من نستمد منه طاقتنا ،أرجوك لا تسمح لنفسك بالوصول إلى هذه الحالة من الوهن واليأس .
كانت الدموع تترقق على صفحة وجه زيزى ، وكان صوتها يتهدج بالكلمات وكأنها تخاطب روحى ، تحاول أن تنتشلها من جوف الضياع .
نهضت من مكانى ، احتويتها بين ذراعى ، قبلتها فى جبينها ، مسحت دموعها بشفتى ، وهى مشدوهة ، تنتفض كالعصفور الصغير بين ذراعى ، وعلى حين غرة وجدتك فوق رأسى .....
جذبت زيزى نفسها من بين يدى وولت هاربة ، وأنت يا مريم واقفة للحظات لا تنبسين بكلمة ، تركت ما معك من أوراق يتساقط من بين يديك ، وثمة دمعة هاربة من مقلتيك ، داريتها بسرعة ، وانطلقت إلى الخارج ، مذعورة ، وكنت أنا مع كأسى وحيرتى و ألمى .

***
فى اليوم التالى اعتذرت لزيزى عما حدث بينى وبينها ، وارجعت تصرفى معها إلى حالة السكر التى كنت عليها وكيف أن الخمر تدير الرؤوس ، و للغرابة الشديدة ،هى لم تبد أى ضيق ،أو غضب ، بل إنها بدت وكأنها سعيدة ، حتى أنها واصلت عملها معى وكأن شيئاً لم يحدث على الاطلاق ، عجيب أمر المرأة ، عجيب فى كل أحوالها ، فرحاً أو حزناً أو غضباً ...حباً ، كرهاً ، أو حتى صمتاً .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى