مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - الفصل الحادي عشر من رواية مريم

استدعانى أدهم إلى مكتبه ، كان غاضباً.....
- لماذا قمت بفصل ممدوح ؟
- على مدير التحرير أن ينفذ سياسة رئيس التحرير وليس العكس ، أليست هذه أبجديات الصحافة ؟
- بلا ، ولكنه واحد من أنجح الصحفيين فى المجلة بل فى مصر كلها .
- ممدوح ليس إلا إخوانياً عميلاً .
- عميل لمن ؟!
- عميل لكل من يتأمرون على الدولة ..هذا الرجل لا يعتبركل ما حدث من اعجاز لشعب عظيم فى أقل من ثلاث سنوات إلا فوضى .
- وهل تنسى أننا بالفعل فى حالة فوضى ؟
- الفوضى حدثت بسبب أمثاله من الخونة .
- ماذا حدث منه ؟
- لازال يتعمد افتعال المواضيع ، وخلق أزمات وهمية ، وصراعات لاجدوى منها الا الإثارة ،وخلق حالة من الارتباك.
- هذا ما ننشده ، مواضيع مثيرة تجذب القارئ ، وتحقق معدل توزيع عال .
- ولكننا الآن فى وقت أزمة .
- ألم تكن أنت أستاذاً لخلق المواضيع المثيرة التى تجذب القارئ .
- هذا عندما كانت البلد فى ظروفها العادية ، الأمور مستقرة ، وقتها كان قليل من البهارات لا يضر، بل يصنع حالة من الانتباه والصحيان للناس .
- الخطأ فى كل الاحوال خطأ ، فإذا كان ما كنت تفعله فى السابق صواباً ، فلا يمكن أن تعتبره الآن خطأً .
- تقصد ماذا ؟
- أقصد أن هذه هى الصحافة ، وهؤلاء هم تلاميذك ، ولا يصح الآن أن تقنعهم بعمل غير الذى علمتهم إياه .
- تلاميذى ..هل هناك من يتذمر غير ممدوح ؟
- تقريباً كل العاملين فى حالة غضب واستياء منك .
- بسبب فصلى لممدوح ؟!
- وبسبب هذا الكم من المواضيع التى قمت برفض نشرها ، بعد ما بذلوه فيها من جهد، وتعب .
- كلها مواضيع مفبركة لا أساس لها من الصحة .
- ولكنها مواضيع ساخنة ، ستشعل المجلة .
- بل ستشعل البلد وتدمرها .
- البلد ...البلد ، منذ متى وأنت تتكلم بهذه المثالية الخرقاء ؟
- منذ أدركت أننا نتعرض لأكبر مؤامرة فى التاريخ القديم والحديث .
- أية مؤامرة ، كفاك مبالغات .
- أنت لا تؤمن بنظرية المؤامرة إذن ؟
- أنا لا أنكر وجود العديد من المؤامرات حولنا ، ولكن هذه المؤامرات تحاك وتحدث فى جميع دول العالم ، ولا يمكن أن نلقى بكل تبعاتنا عليها.
- فى حقيبتى مقال نشر فى مجلة كيفونيم الإسرائيلية ( العدد 14 فبراير 1982) يمكنك أن تطلع عليه وقتما تشاء.
؟ - من الذى نشر هذا المقال
- تم النشر بمعرفة التنظيم الصهيونى العالمى ،وهو يعرض الاستراتيجية الإسرائيلية فى الثمانينات.
- ما أهم ما جاء به ؟
- به العديد من الأشياء الهامة بل الخطيرة والتى حدث معظمها ونحاول الآن منع حدوث بقيتها.
- لهذه الدرجة ؟
التفت إلى حقيبتى ثم أخرجت منها بعض الوريقات قائلاً:-
...... سأقرأ لك بعض منه -
استعادة سيناء بمواردها الراهنة هدف ذو أولوية تحول دون الوصول إليه حتى الآن اتفاقات كامب ديفيد ويجب علينا العمل على استعادة الوضع الذى كان فى سيناء قبل زيارة السادات ، ولقد ماتت الإسطورة القائلة بأن مصر هى زعيمة العرب ، فقد فقدت فى مواجهتها لإسرائيل وبقية العالم العربى 50% من قوتها وهى جسد مركزى قد صارجثة ولاسيما بتزايد المواجهات بين المسلمين والأقباط فإنشاء دولة قبطية فى صعيد مصر وإنشاء دويلات آخرى إقليمية ضعيفة هو مفتاح التطور التاريخى ، فإذا ما تصدعت مصر فإن بلاداً آخرى مثل لبيا والسودان ستواجه نفس المصير ،أما الجبهة الغربية فهى أقل مشكلة من الجبهة الشرقية ، فإن تقسيم سوريا إلى عدة أقاليم ( شيعية بطول الساحل – سنية بحلب – ودولة آخرى فى دمشق – ثم درزية فى الجولان ) هذا التقسيم يعطينا صورة عما سوف يحدث فى مجموع العالم العربى، أما العراق فتفكيكه أعظم أهمية من تفكيك سوريا إذ هو أكبر تهديد لإسرائيل..
. هذا ما قد حدث بالفعل ، هذا مقال خطير جداً ...أكمل قرأة – إن
- أما شبه الجزيرة العربية فهى مهيأة بالكامل للتحلل بفعل الضغوط الداخلية والفساد ،والأردن هدف استراتيجى عاجل فنهاية الملك حسين ونقل السلطة إلى الفلسطينين وتوطينهم فى الأردن هو ما ينبغى أن تتوجه إليه السياسة الإسرائيلية...إعادة التوازن السكانى والاستراتيجى وإضعاف اقتصاديات الدول العربية والتحكم فى موارد المياه من بير سبع إلى الجليل الأعلى.

فغر أدهم فاه ونظر إلى طويلاً دون أن ينبس ببنت شفة ، كان مدهوشاً من هول ما قرأت عليه ، إلا أننى استطردت قائلاً :
- تعلم أن ما نقدمه من إعلام ليس محترماً ....وليس إعلاماً لدولة متحضرة ....كانت مشكلتنا الأساسية هى الاقتصاد ، ولكنها الآن أصبحت التعليم والإعلام و الصحة ، حتى نهر النيل لم يتركوه لحاله.
- تقصد تلوث النيل بماء المجارى ووحدات الصرف الصحى...هذا الموضوع رائع يمكن التركيز عليه فى العدد القادم من المجلة ؟!
- مياه ملوثة ،طعام ملوث ، هواء ملوث ، وأيضاً إعلام ملوث .
- عمر ... هل تظن أننى لست بمحباً لبلدى ؟!
- عن أى بلد تتحدث ، بلدك أم بلدى ،أم بلد الآخر؟!
- بل بلدنا نحن جميعاً .
- إنكم لم تجعلوها بلداً واحداً .
- حرام عليك ما تقوله .
- بل الحرام هو ما يفعله أبناء الحرام أولئك الذين استحلوا دماء البسطاء المعدمين ... من باعوا الوطن مقابل حفنة من الدولارات ... وكل من يساعدهم على الظهور والسيطرة على عقول الناس .
- ولكنك تتحدث عن أفراد محترمين لهم مكانتهم فى المجتمع .
- محترمون !!
... المحترمون هم من يقومون بالتصدى لهذا الاعلام القذر، الذى يسمح للخونة بأن يتصدروا المشهد وكأن البلد عقمت أن تلد الأسوياء ... المشكلة الحقيقية هى فى هذا الاعلام القذر الجاهل المخنث الذى يجرى وراء المادة ويلهث خلف أعلى نسبة بيع بصرف النظر عن المحتوى الذى يدمر شعب بأكمله ..... لا مشكلة باستبدال العرى والجنس بأشياء آخرى أقذر وأشد سخونة ...أشياء تشعل ،الوطن وتتيح الفرصة للفوضى وضياع البلد ....وطالما تظل الإثارة تظل أعلى نسبة بيع وبالتالى أعلى عائد من الاعلانات ...يعنى ببساطة ليس فى مصلحتهم أن تستقر البلد ، بل لابد أن تخرب كى يعيشوا ويزدادوا ثراءاً وإن كان هذا على حساب دم الناس وتراب الوطن .
- أنا أصدرت قراراً بإعادة ممدوح ، وترقيته ليصبح نائباً لرئيس التحرير ، وأنت لابد أن تصالحه كنوع من رد الكرامة له .
- صالحه أنت أما أنا فمستحيل أن يكون بينى وبينه أى حوار .
- عمر ...أترفض تنفيذ قرارى ؟!
- .....
- لماذا كل هذا الحقد من جانبك تجاهه ، لماذا تصر على عدم بقائه فى المجلة ؟ لماذا ترفض المصالحة معه ؟!
- بل إنه لا يستحق أن يبقى على أرض الوطن كله ،من يطلق الرصاص بشكل عشوائى على الناس دون تمييز .... فقط بغرض الترويع واثبات الذات وفرض أمر رفضه غالبية الشعب لا يستحق ان يعيش على هذه الأرض ،هو وكل من يناصره أو يعاونه أو يرضى عن فعله أو حتى لا يستاء من فعله ، بل ومن يدعو للمصالحة عليه هو أيضا أن يرحل هو ومصالحته وأيضا مصلحته التى بالتأكيد هى مصلحة مادية حقيرة . ...
للأسف إذا غرقت مصر هم أول الغارقين وهذا طبيعى لأنهم لا يمتلكون من الذكاء مثقال ذرة .....فقط كم هائل من الغباء و الجهل والتعصب.
- أنت تبالغ كثيراً الأمر ليس بهذه الدرجة من السوء ،الكل يفعل مثلما نفعل ، بل أكثر مما نفعله بكثير ، ومجلتنا هذه ليست بالقوة لتسقط بلد بحجم مصر ؟!
- أليس غريباً على عضو سابق بالحزب المنحل أن يدافع عن أحد أعضاء المحظورة ؟! أم أن المصالح قد اتفقت ، مثلما كانت دائماً تتفق قبل الثورة ؟!
- هل تظن أنك وطنى أكثر منى ؟
- كلنا يعلم أن وطنك هو المال ولا شئ غيره ، إنك لم تصنع أموالك هذه إلا على حساب البلد ، وكل أزماته كانت سبباً رئيساً فى ازدياد ثراءك.
- عمر ماذا حدث لك ؟!...أنت لست طبيعياً على الإطلاق ..لابد لك من أجازة ، تريح فيها أعصابك المرهقة... قليل من الراحة والاستجمام ،و بعدها ستعود إلى حالتك الطبيعية


فى الساعة الثانية صباحاً ، فوجئت باتصال من الأستاذ أحمد والد زيزى ، كان يستغيث بى ، على الفور توجهت إليه .....
رجل أنيق، نحيف ،شديد الوقار ،أشيب الشعر ،له هيبة وحضور خاص ،يجعلك تشعر أنك فى حضور شخصية قيادية من طراز نادر .
كانت الدموع تملأ عينيه ، بينما زيزى مدرجة فى دمائها ، تتنفس بصعوبة ، وبجوارها أحد الأشخاص يحاول إيقاف نزيف دمائها ،علمت فيما بعد أنه صيدلى يدعى سامى وهوصاحب الصيدلية الكائنة أسفل العقار .
قال لى الأستاذ أحمد والد زيزى :
- حالتها خطرة ، أخبرنى دكتور سامى بضرورة نقلها إلى المستشفى ، ولكنها ترفض ذلك الأمر بشدة ، ولا أدرى لماذا؟ أنا وحدى لا أقدر عليها ، أعلم أنها تقدرك ، كلماتها عنك دائماً تعبر عن احترام وتقدير كبير ، أسف على إقحامك فى مثل هذا الأمر ولكننى ، لم أجد أحداً سواك يعيننى عليها.
توجهت إلى زيزى ، سألتها :
- ماذا حدث لك ؟
غضت زيزى من بصرها ، إلتفتت إلى أبيها ،معاتبة إياه على استدعائى ، انتحى سامى بى جانباً ليخبرنى بخطورة حالتها وأنها يجب أن تنقل فوراً إلى أقرب مستشفى ، سمعت زيزى كلماته ، صاحت فى هلع :
- أنا لن أذهب إلى أى مكان .
تعجبت من خوفها ، واصرارها الغريب على البقاء فى المنزل رغم خطورة حالتها ، التفت إلى سامى ، نظرت إليه نظرة ذات مغزى ، فما كان منا إلا أن حملناها عنوة ، ثم وضعناها فى سيارتى وانطلقنا إلى أقرب مشفى .
قال لى أحد موظفى المستشفى :
. لابد من عمل محضر بالواقعة -
نظرت إليه فى حدة ، صاح سامى به :
- الحالة حرجة ، النزيف لا يتوقف .
صرخ والدها :
- هذا ليس وقت للجدال .
صحت فى الموظف :
- تحرك يا حيوان ألا تعلم مع من تتحدث .
- عفواً أستاذ عمر، أنت نار على علم ولكنها اللوائح والقوانين !!
نظرت إليه نظرة ذات مغزى ،ثم وضعت أمامه شيكاً بمبلغ مالى كبير .
على الفور أدخلوا زيزى غرفة العمليات، بعد برهة خرج لى أحد الأطباء:
. سيدى ، ليس أمامنا من بد ، لقد تعرضت لنزيف شديد وقد نضحى بما تحمله فى أحشائها -
تلعثمت ، من المفاجأة ، همست فى دهشة :
- تحمل ماذا؟
- كيف لا تعلم أن زوجتك حامل .. ألست بزوجها ؟
امتقع وجه والد زيزى من المفاجأة ، كاد يسقط على الأرض من الصدمة ، همس سامى:
. - هذا كان واضحاً لى ، عندما رأيتها وهى على هذه الحالة
صاحت والد زيزى به فى غضب :
لماذا لم تخبرنى ، قبل أن نأتى إلى هنا ؟
. ما يهمنى فى المقام الأول هو أن أنقذ حياتها -
لهذا كانت ترفض مغادرة المنزل ، يا ليتك تركتها تنزف حتى الموت . -
التفت الطبيب إلى فى جزع ، صاح بى مكرراً سؤاله :
- ألست بزوجها ؟
همست تلقائياً :
. نعم ...نعم أنا زوجها ..أرجوك أفعل أى شئ لإنقاذ حياتها –
قلت هذه الجملة بدون تفكير ، بعدها غادرت المستشفى بسرعة ، وكأننى أتحاشى أن يرانى أحد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى