ميسلون هادي - رجل وسيم أنيق الهندام..

خالتي مفيدة تأخرت أمنيتها بأن ترى عبد الحليم حافظ في حياته.. وبعد سنوات طويلة استطاعت أن تزور قبره في مصر.. فقالت إن موته جعلها تلخص حكايتها من الألف إلى الياء.. إنها لا تنال شيئاً بدون حساب أو ثمن..

لولا الطلاق لما سافرت إلى مصر.. ولولا الموت لما استطاعت أن تجلس قريبة من عبد الحليم حافظ على مصطبة خشبية خضراء متقشر طلاؤها على الدوام.. هذه هي الحياة كما تراها… زخرفة جامحة من طلاء يتقشر ببطء، ويتغير شكله دون أن يشعر به أحد، يحدث ذلك ولا يتوقعه أحد أن يحدث أبداً.. أي أن تسافر وتبتعد عن بغداد، فترى بدلاً عنها تلك الزخرفة التي تركها الزمن على طلاء المصطبة الخضراء… وتجد فيها ما يعوضها عن صيحات الأطفال العائدين من المدارس وقت الظهيرة. تسألهم عن معنى كلمة خلطة بيطة.. يتضاحك الطلاب ويقهقهون.. فتخبرهم بأن هذه الكلمة استعملها عبد الحليم حافظ في فلم (حكاية حب) مع مريم فخر الدين.

ظلت تنادي على زوجها لطعام الغداء قبل أن يبرد الأكل، وعندما جاء أخيراً نهضت هي على عجل من المائدة فرمى عليها يمين الطلاق.. ظنها قد نهضت فجأة لانزعاجها من مباراة لكرة القدم أخّرته قرابة عشر دقائق عن الجلوس معها على الغداء، وهي في الحقيقة قد أوقعت قدح الماء على المنضدة، ونهضت لتأتي بمنديل ورقي تمسح به الماء المسكوب. تنفست هواء الحرية منذ تلك اللحظة.. وعرفت معنى الحياة منذ ذلك اليوم.. أخذت تعشق البدايات، وشعرت بأن الأرض كلها قد ولدت وازدهرت من جديد.. تملّكها شغف رهيب ببداية كل شيء جديد، بعد أن ظنت أنها ستضيع، ويخيب أملها بسبب منديل ورقي..

الاختيار بين الجنطة السوداء والبيج هو سبب آخر للطلاق والانطلاق.. أو أن ذلك التأخر في محل الحقائب هو مما أوقع طلاقها السابق، قبل حادثة المنديل الورقي طبعاً.. فعصبية زوجها لا تظهر إلا حين يدخل إلى البيت.. وعند باب البيت يتحول إلى رجل آخر تميّزه جيداً من طريقة سحبه الستارة.. من صوت إغلاق الباب…. من شخيره أثناء النوم.. حيث لا يعود هو نفسه ذلك الإنسان المرح لطيف المعشر، الذي لا يتحدث سوى بحقوق المرأة وحرية المرأة واحترام المرأة.. وما نحتاجه في هذا العالم من العدل والمساواة مع المرأة. كل تلك الأفكار والمفاهيم الراسخة أمام الناس، ليست إلا جرعة من الماء يمضمض بها صورته كرجل وسيم أنيق الهندام، أما داخل البيت فتتطاير الصفات والفقاعات، ويتسلل إلى صورته الصحيحة الناشفة، عبر انتقاد مستمر لما تفعله زوجته، وتذمر مزمن من طريقة ملبسها وطبيعة جسمها.. بل وإلقاء اللوم عليها في كل خطأ يحدث في قنالات التلفزيون، ورفوف المخزن أو مكائن الحلاقة.. ألم يتزحلق مرة في حمام الفندق بأربيل.. وعندما عاد الى بغداد ودخل الى الحمام، قال لها لطالما اخبرتك أن تضعي ممسحة خارج الدوش تفادياً للسقوط!

لا تعرف كيف ترد عليه.. لأنه لا يوجد رد أو حل وسط.. هذه هي صورته التي يجب أن تتقبلها أو ترفضها.. تتهادن معها أحياناً بالبكاء المر، أو الصمت الرهيب، وتواصل تقليم الزرع في الحديقة حتى لا يضيع منها الرمق الأخير في مواصلة الطريق. تقول أن السقطة حدثت في أربيل، فما علاقة بلاطات حمامها بها، وكيف يلومها على حادثة وقعت بعيداً عنها كل البعد، ولا يد لأحد فيها غير قدمه اليمين؟ ردها الوحيد لكي تطمطم غضبها حول حادثة الحمام، يكون بتفريغ شحنة غضبها في مسح الأخشاب من الغبار، أو ترتيب خزانات الملابس، أو الانحناء لتقليم الورد وقطف أوراق النعناع من حوض الخضروات المزروع بقرب حنفية الماء في الحديقة.

ظهرها المحدودب، مع عنقها، يعبران عن مدى حنانها، واتقانها لعملها.. ثلاثة خيوط تتدلى منها ثلاث عيون.. واحدة للقراءة وواحدة للتلفزيون وواحدة لرؤية كل شيء.. الناس والنعناع وأزرار الملابس… طريقة استعمالها لتلك النظارات تلخص حدبها على كل شيء يقع بين يديها قميصاً كان أو باقة خضروات:

هات لارتق لك هذا المفرش.
هات لأحفر لك الباذنجان.
هات لأثبت لك الأزرار المقطوعة.

وتبدأ عملها كما لو أنها تنقذ شخصاً عزيزا من الموت، أو تجلس إلى طبق طعام لذيذ.. كل غرزة تعلو وتهبط، هي ملعقة طعام.. وكل قضمة خيط، تقطعه بأسنانها، هو لقمة تستحق الاحترام. لم يكن أحد يتصور، ولو في أقصى درجات الخيال أنها ستمتلك لحظة حريتها بسبب منديل ورقي أخف من ريش الحمام.. وكل الواسطات والتحايلات لم تقنعها بالعودة من مصر إلى زوجها بعد الطلاق.. إنه طلاقها الثالث، ولا يمكن العودة إليه إلا برجل آخر وسيم وأنيق الهندام.

الطلاق الأول كان بسبب ليفة الحمام، والطلاق الثاني كان بسبب حقيبة شكرية اللون، والثالث بسبب منديل ورقي، وهذا كله هو الذي جعلها في النهاية تحقق أمنيتها بالجلوس على مصطبة خشبية تقشر طلاؤها عن طير مفرود الجناحين.. قرب قبر عبد الحليم حافظ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى