مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - الفصل ١٥ من رواية مريم

إن بى يقين أن لى معك قصة حب قديمة قدم الأولين !!
ترى ماذا كانت تفاصيل علاقتى بك فى تلك الحقبة من الزمن ؟
هل يمكننى أن أتطهر من سطوتك ؟
أن أتخلص منك ؟!
أن أبتعد عنك ؟
وصرت أخشى الليل الطويل ، أخاف الوحدة ، أرجف منها فزعاً وألماً .
أهرب من نفسى إلى الناس والشوارع والضوضاء ، أتجنب لقائى بنفسى ، لأننى فى الحقيقة كنت أخلو بك ، أخلو بعذابات الفراق ، وألم الجفاء ، وبرودة الكون كله ، وكيف لا يواجهنى صقيع العالم كله وأنا أحاول أن أنزعك من داخلى ...أنزع امرأة ليس هناك حدود لأنوثتها ، لدفئها وحرارتها ، وعنفوان جمالها .
وأعود ثانية مذعوراً ، منهاراً لأبحث لى عن فرصة جديدة معك ، فرصة أخرى أدرك أنها شبه مستحيلة ، وكأننى أعيد إسطورة سيزيف ، ذلك الذى وصمته الألهة بتلك اللعنة السرمدية .
تتهميننى أنا بالغرور وبالزيف ، وقد صرت راهباً فى محرابك ، فكيف يكون الراهب مغروراً أو مزيفاً مع نفسه حين يكون فى معبده ؟!
إن كل الذين تعاملتى معهم ليسوا إلا مجرد قراصنة ، محترفى كذب وخديعة ، عداى أنا ، فلربما أكون أنا الصادق الوحيد بينهم .
هل كنت أحمقاً يوم صدقتك ، حين مررت بيدى المرتعشتين على شعرك الأسود الطويل ، وجذبت يديك إلى فمى ، لحظتها ، ارتعشت كل جوارحك ، ونظرت إلى فى قلق ،وأنت أثيرة ذراعى ، ثم همست بصعوبة :
- لاتكن مثلك مثل الآخرين .
حينها ألمتنى كلماتك ، وأنا لم أتذوق سوى طعم يديك المشبع بالمرارة ،طعم حلو...شديد الحلواة ، ولكنه فى الآن ذاته مشبع بالمرارة، لا أدرى كيف يمكن لهذا الشهد المر أن يكون حلواً إلى حد السكر !!!
وصدقتك ،وقتها ولم أفعل أكثر من أن أبعدتك قليلاً عن مرمى نيرانى .
فهل أنت كنت تمنحين الكل كل ما ينشدونه منك سواى أنا ؟!
أم أنك بكل إباء كنت ترفضين مسبقاً الاعتراف بحبك لى ؟!
وكأن هذا الحب هو مجرد قيد وهوان لمن هو فى مثل شخصيتك .


كل البدائل عداك مرة ، بل مستحيلة ، وأنت امرأة تمتلكين العديد من الأقنعة ، ولكل قناع حكاية وذكرى وآخر تسكنيين عنده .
هل أنت امرأة تحترف العشق ،أم تراك امرأة ليلية تكشف فى الظلام كل تخفيه نهاراً مثلك مثل العالم كله الذى يمارس كل أنواع العرى ليلاً ، وحين يصبح يرتدى ثوب البراءة؟!
اتصل بى أدهم ، قال لى :
- هل تود رؤية حبيبتك وهى بين أحضانى ؟
أصابتنى الدهشة ، صحت به :
- أدهم ، ماذا تقول ؟
- قلت لك من قبل أنها فتاة لعوب ، لا تصلح للزواج منك .
- أنت كاذب .
- لن أجادلك كثيراً، ولكن صداقتى لك تدفعنى لإنقاذك من السقوط فى ذلك المستنقع العفن .
- أنت هكذا تحطم كل أواصر الصداقة بينى وبينك .
- لماذا أنت خائف من الحقيقة ؟
- أنا لا أخاف إلا من الإدعاءات الباطلة .
- إذن تعال الآن لأريك بأم عينك من تكون هى مريم ، تعال عندى فى فيلتى بالعجمى وسأريك إياها وهى بين أحضانى فى حجرة نومى .
***
قبل أن أصل إلى فيلا أدهم ، كانت الشرطة تحاصر المكان من كل حدب وصوب ، مفاجأة مروعة مقتل أدهم بأيدى بعض العناصر الإرهابية ، التى ولت هاربة ، وقد بينت تحقيقات النيابة وجود العديد من زجاجات الخمر و بعض الحبوب المنشطة جنسياً التى كانت معه قبل الحادث مباشرة .



ترى أين يذهب أولئك الناس المحمولين فى تلك الصناديق الخشبية ، هل يمكن لواحد منهم أن يرى ما يحدث حوله من ضجة ،وضوضاء ؟
إن أدهم صديقى المقرب رغم كل شئ قد أصبح واحداً منهم ، صديق عمرى هل يمكنه الآن أن يطل برأسه من داخل الصندوق ويرى كل ما يحدث حوله ؟
ثمة من يهرول خلفه ، وآخرون يهرولون ، البعض يبكى ، والبعض يتبادل الحديث خلسة ، صراخ ونحيب ، تمزيق ملابس ، تعفير رؤوس فى التراب .
ماذا يحدث ؟!
لماذا يفعلون ذلك بأنفسهم ؟ولماذا إذن يدلفون به من تلك البوابة الحديدية الضخمة إلى ذلك المكان الرهيب ، الممتلئ بالقبور ؟
هل سيتحول هو الآخر لمجرد شاهد لقبر مكتوب عليه بعض الحروف التى تدل زائريه على كنيته ؟!
لماذا ينزلون به إلى التراب ؟
لماذا لا يتركونه فى بيته حتى ينهض وحده ، إنه كثيراً ما غفى من قبل ، ولكنه فى كل مرة كان يستيقظ ليتحول سكونه المطبق إلى حركة ،شد وجذب ، صراع مع كل من حوله ، لقد كان يؤمن بأن الحياة لحظة، لحظة بكل مرارتها وحلاوتها ، لحظة لابد أن نعيشها قبل أن تنصرم ،وها هو الآن لا يود أن ينهض ، بل إنهم هم الذين كبلوه فى هذا الزى الأبيض المسمى كفناً ، ثم وضعوه فى هذا الصندوق الخشبى المحكم الغلق .
الآن يا أدهم لا مال ولا سلطة ، لا شركات ولا أراضى ولا عقارات ، لا حزب منحل ولا حتى حاكم ، لا جماعة محظورة ولا محلولة الآن أضحى الكل سراب ، الكل عدم ، إلا هذا المصير ، وهذه النهاية المحتومة .
ها هم يخرجونه من الصندوق ، ترى هل سيحررونه من قيده ؟
لا إنهم يزجون به فى تلك الحفرة المظلمة ، المرعبة ، التى يقولون أنها تمتلئ بالملائكة ، و البعض الآخر يؤكد أنهاتمتلئ بالشياطين .
ولكنك يا أدهم ترى مع أيهما تحشر ؟!
إنك لست فى هذه الحفرة ، نعم أستطيع أن أؤكد ذلك ولكننى لاأستطيع أيضاً أن أدرك أين أنت تحديداً ،بل أين أنت قد ذهبت حقيقة ً .
ولكنك الآن بالتأكيد تعلم أن الحياة قد ولت بكل أفراحها ،وأحزانها ،وأن اللعبة حتماً قد انتهت (جيم أوفر ).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى