حسب الله‮ ‬يحيى - أصابع سبايكر.. قصة قصيرة

كان التيه والقلق والحزن الدامي.. كانت الحيرة والبحث المضني واللاجدوى.. كما تجمعنا على مائدة الانتظار .. !

نلتقي في الساحات وامام ابواب الوزارات، وعند المسؤولين، وعند ابواب السجون والمستشفيات ..كانت الأوقات.. كل الأوقات تضج بأوجاعنا ونداءاتنا وحسراتنا.. كانت الرياح تأخذ بأوراقنا ومستمسكاتنا وصور ابنائنا ومطاليبنا.. تأخذ باصوات وتتلقى الغبار وهو يضرب بقوة في وجوهنا ..

كان الشتاء وكان الصيف.. كان يأخذ حصته القاسية من اجسادنا ويحولها الى كائنات لاقدرة لها على التمييز بين شتاء قارس وصيف لاهب.. أمام المحن التي تعتمل في صدرونا.. حتى اصبحت الفصول كلها لاتعنينا، بقدر مايعنينا أمر أبنائنا.. واين ألقت بهم عاصفة الحرب ؟

كانت الكلمات والصور ونشرات الاخبار في الفضائيات والصحف تتناول صور شبابنا الذين ودعناهم وهم يتوجهون لأنقاذ بلادنا من عتمة افكار ودموية وشذوذ اولئك الذين قطفوا ورود الحياة من كل واحد منا.. نحن الفقراء الذين نكون في المألوف.. أول من يضحي وآخر من يريد أن يأخذ حصته من العيش السعيد والمستقر..

توقفنا عند الصور.. وانتابنا الشك في أن تكون هذه الوجوه، وهذه الملابس، وهذه الاصابع، وهذا الذراع، وذاك الوشم، وتلك السمرة، وتلك الأذن، وهذا الأنف لواحد من أبنائنا ..

نتفق على التوجه للبحث عن ابنائنا في الصحراء.. في أرض جرذاء قيل ان ابناءنا دفنوا فيها .

ربما كانت جثثهم هناك.. نمضي.. وهناك نتبين من بعيد اشياء صغيرة تبزغ.. وقد زجتنا في اليأس والبحث معاً .

ربما كانت آمالنا سراباً، وليست إنعكاساً لمخيلة تشغلنا، وتوجهنا الى ما نهوى ونريد ونتمنى في وقت تعز علينا الابتسامة !

تلك أشياء، لا قلب لي على تشخيصها من بعيد.. إنها ليست حجارة ولا نباتاً برياً، ولا بقايا لمجهول .

ليس بوسعي أن أحكم، وليس بوسع من معي، الوصول الى ما هو أكيد وثابت ومقنع .

كنا خمسة آباء، لخمسة مفقودين.. لم يتوصل أي منا الى مايشرح الصدر أو يؤمن المعلوم ويريح البال .

كنا في التيه نفسه، والمجهول ذاته، والحيرة مجتمعة بنا .

كنا أقرب الى اليأس منا الى الأمل.. غير ان كل واحد منا كان يتخفى داخل روحه المحبطة، والحاحه المضني للوصول الى وضع حدّ لحالة الانتظار المر التي يعيشها كل منا منذ فقدان فلذة كبده.. لكنه يعاند ذاته ويفتش.. يفتش، علّه يعثر على علامة ما، أو على مؤشر أو لمحة أو رمز دال.. حتى تهدأ الحيرة، ويستقر البال .

-قد يكون طائراً.. هلك ظماً .

قال أحدنا :

-وقد يكون مرتفعاً.. فالأرض لاتستوي .

قال آخر :

-.. ربما أفعى صحراوية .

قال ثالث :

-أو حيوان مجهول .

قال رابع :

أما أنا، فلم أجد سبباً وجيهاً للنبوءة ولا للتخمين.. لذلك وجدت ان الرأي الأكثر ملاءمة لي، هو دعوتهم للتوجه الى تلك الأشياء والتعرف على حقيقتها بأنفسنا .

إتفقوا مع (حكمتي) مع أنني كنت اعاني من فراغ كلي لذاكرتي وحالي واحوالي.. ورضيت بجهالتي.. أنا فاقد الشيء.. أعطيه.. اعطي ما انا فاقده، كيف ؟

لا علم لي بعلم، أنا المفرغ.. الممتلئ بفراغي ؟

نتقدم بحذر، ونسير ممتلئين باليأس، ونحيا بأرواح الموتى، ونتحدث مع بعضنا.. أحاديث استهلكناها مراراً .

أصواتنا بحت، وجلود طبولنا تمزقت، واصابعنا التي بها نقسم ونتحدى ونحفر ونعد ونتعب.. كانت قد تعبت وملّت واخشوشنت وجفت.. وصارت جلودها تتكسر وتدمى ..

كانت اقدامنا قد ارهقت الاحذية ومزقتها، لذلك راحت اصابع اقدامنا تأخذ شكل الأحذية التي عافتها الألوان، ومزقتها المسافات وداستها الطرق، بدل أن تدوس هي..هي تلك الطرق !

في البداية، خدشت، ومن ثم تخثر فيها الدم، وبعدئذ اعتاد التشقق فيها ان يحتوي ما يشاء من حجارة وتراب وحشرات.. بعد ان فقدت إرادة الأحساس.. ولم يعد الشعور يشعرها بشيء !

وكلما كنا نقترب، لانتلمس جديداً، ذلك أن البصر، لم يعد يبصر، والنظر.. لاينظر ابعد من الشيخوخة التي لاتحس إلا بالعجز شيئاً فشيئاً، والتعب.. يريد منا ألا نتعب !

اقتربنا من المكان.. وصلناه، تلمسنا هذه الاشياء التي إخترقت الارض وبانت للعيون.. و.. و.. ذهلنا.. حدق كل منا بوجه الآخر، بحث عن جواب لدى صاحبه، يؤكد قناعته، يتلمس ما لمس، يدرك ما ادركه، يعي ما توصل اليه وعيه ..

ليست هذه الاشياء النابتة في الأرض، التي شقت الأرض وتنفست الحياة، ليست نباتاً ولا حجراً ولا كائناً حياً ولا.. ولا .. قلت :

-إنها أصابع بشرية .

صرخ أحدهم :

-أصابعهم، أصابع أبنائنا .

هتف آخر :

-هل هذا معقول.. هل تخترق أصابع الموتى جفاف الارض ؟!

صاح ثالث :

-بل هي اصابع اكثر من إنسان !

بكى رابع وارتمى ارضاً وراح يقبل تلك الاشياء الجافة التي لم يعد أي واحد منا.. أنها اصابع.. واصابع اولادنا الذين فقدناهم في ذلك المكان المشؤوم الذي يطلق عليه معسكر (سبايكر) .

إنتابني إحساس بالذهول وسألت من كان معي :

-ألم يدفنوهم، هل تركوهم هكذا في العراء، وقد دفنتهم الرياح، ولم تحسن الدفن .. ؟!

واندفعنا نحفر بأصابع اللهفة والحيرة والتيه.. وإندفعت الشيخوخة التي نسيت سنوات العجز.. وراحت تفتش عن وشيجة الدم ونبض القلب ولهفة الترقب..

-هذا جسد شاب اعرفه .

-هذا آخر بملابسه العسكرية .

-هذا ثالث بشاربه الذي بالكاد ينبت .

-هم.. هم.. هم أنفسنا فلذات اكبادنا .. هم ..

-هذا إبني ..

-هذا صديق لأبني ..

-انهم مكدسون، الواحد فوق الآخر ..

-طبقات.. طبقات من الأرواح التي دفنت هكذا على عجل .

راحت اصواتنا تتعالى، وتختلط مع بعضها.. وفي كل منا ترقب لاحتمال الدهشة التي تحاصره وتترقب النتائج حين يجد ولده ..

واحد منا فقط وجد ضالته.. وجد إبنه، فارتمى على جثته وراح يقبله ويحتضنه ويعمل على حمله على كتفه دون ان يقوى.. فيما كنا نحن الذين لم نجد ابناءنا في حيرة من امرنا .

حدقت في الوجوه.. كانت تمثلني وامثلها.. تتعاطف مع بعضها، ونلتم على بعضنا، وفي كل منا لهفة بالعثور على ما تبقى من ابنه.. فيما كان الآخر يداوي تلك اللهفة بكائن ينتـــــمي إليه ويحيا ميتاً فوق صدره ..

تأملت الجثث.. كانت اشبه ببوابه فتحت امامنا، حتى نهتدي الى بوابات أخر، والى أدلة جديدة، والى حياة نحيا فيها على ان نرى ابناءنا في مكان ما، في زمان ما .

حاولنا ان نحمل ما رأيناه فوق اكتافنا، فلم نفلح، لكننا رحنا نعيد التراب الى من وجدناهم، فيما حملنا الابن وابيه.. اموات/ احياء، كما لو أننا نحمل انفسنا احياء/ اموات !

كان الرجل يحمل جثته، كانت جثة الشهيد تبدو فوق رؤوسنا علماً أو حمامة تحلق في السماء مفتوحة الجناحين على كل الآفاق ..فيما كانت اصابع سبايكر التي وجدناها صدفة، تملأ صدورنا بالحزن العميق والامل الدامي الذي يترقب فاجعة يجمع فيها السواد، لتصبح أرضها.. أرض سواد لا بالزرع والضرع، وإنما بالارواح التي امتلأت بها طبقات الارض السبع.. حتى ضاقت بالمكان، وراحت اصابع الفجيعة تعلن عن نفسها، وتتنفس الشهادة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى