شريف محيي الدين إبراهيم - الفصل ١٧ والأخير من رواية مريم ٠٠٠الفلسطينية الضائعة

الفصل ١٧ والأخير


حين ضغطت زر الجرس ، فاجأنى شخص بفتح الباب ، كان ضخماً، طويلاً، مفتول العضلات، نظر إلى شذراً ثم صاح بى :
- ماذا أتى بك إلى هنا ؟
وقبل أن أهم بفتح فمى ، لكزنى بقوة فى صدرى .
- ألم أحذرك من قبل أن تبتعد عنها ؟!
صحت من المفاجأة :
- أنت جاسر !!
- يبدو أنك لم تعتبر مما حدث لصديقك .
- بل أنت ، ماذا أتى بك إلى هنا ؟
أخرج جاسر من جانبه مسدساً صغيراً ،ثم وضع فوهته فى رأسى ،صاح بى :
- تأتى إلى فى بيتى ، ثم تقول لى ماذا أتى بك إلى هنا ؟!
أيها المصرى المخنث... امضى إلى حال سبيلك قبل أن أفرغ رصاص هذا المسدس فى صدرك .
امتلكنى غضب هائل ، صحت به :
- لا تظن أننى أخشى ما معك من سلاح ،أين كنت أنت طيلة السنوات التى عاشتها مريم فى هوان ...أنت مجرد لا شئ ؟!
فى تلك اللحظة أتيت مسرعة ،وضعت نفسك بينى وبين جاسر ،كنت ترتدين معطفاً شتوياً ، لم يمنع عنى حرارة جسدك الساخن ، صحت بى :
- ماذا أتى بك إلى هنا ؟!
ولما لاحظت الدماء تتدفق من رأسى بغزارة ، صرخت بجاسر :
- ابتعد عنه ، هل تود قتله هو أيضاً ؟
كانت الأرض تدور بى ،كدت أسقط على الأرض ، جذبتنى إلى صدرك بشدة ، أجلستنى على أحد المقاعد القريبة من باب الشقة ،لففتى رأسى المجروحة بقطعة شاش ، بعد أن دفعتى جاسر بقوة بعيداً عنى .
نظر جاسر إليك فى غضب إلا أنه قال موجهاً حديثه لى :
- لقد ماتت اسطورتكم أيها المصريون .
همست والدماء تتدفق من رأسى :
- أية أسطورة ؟
- إسطورة الزعامة والقيادة .
نظرت إلى والدماء تنزف من رأسى بغزارة ثم صحت فى جاسر :
- يجب أن نذهب به إلى أقرب مستشفى ، جرحه لازال ينزف .
- لا شأن لك به .
إلا أنك صرخت به فى قوة لم أعهدها منك :
- ابتعد عن طريقى ، كفاك كل ما أحدثته من مصائب ، هل تود تركه ينزف حتى الموت ؟
استدار جاسر إليك ،لطمك بقوة على وجهك ،صاح بك :
- الدم المصرى أغلى عندك من دمائنا .
اشتبكت معه فى عراك عنيف ، كان يضربك بقسوة شديدة ،فى هذه اللحظة لا أدرى كيف واتتنى كل هذه القوة الهائلة التى جعلتنى أقفز نحو جاسر .
أسقطه أرضاً ، أوسعته ضرباً حتى سالت الدماء بغزارة من أنفه ، دفعتك بعيداً ،وأنت تحاولين الفصل بيننا .
حين أمسكت المسدس وصوبته إلى رأس جاسر ، صحت بى :
- أرجوك لا تفعل .
- إنه لا يستحق سوى الموت .
- إذا كنت تحبنى بحق أرجوك لا تفعل .
نظرت إليك فى ألم ، همست :
- لماذا تدافعين عن هذا الحقير؟
- من وجهة نظرك أنت هو كذلك ولكنه من وجهة نظر أخرى ....
- مناضل ، بطل ؟!!
- هذه للأسف هى الحقيقة .
- أية حقيقة ؟! إنه إرهابى خائن .
- هذا ما تبقى لنا من سلاح لمواجهة العدو .
- مفاهيمكم صارت مغلوطة ، سلاحكم الوحيد ليس الإرهاب وخيانة إخوانكم من المصريين .
- بصرف النظر عن اختلافاتنا ، أرجوك دعه ولا تسمح لنفسك بالوقوع فى خطيئة قتله .
نظرت إلى جاسر وهو ملقى على الأرض مصوباً نظرات عينيه إلى ، ثم ألقيت بالمسدس الذى معى فى وجهه ، وانصرفت خارجاً .
***

هل يمكن للحياة أن تكون خادعة ؟
تعطى السراب ، الوهم الضياع ...إن كل ما أعرفه أن لكل فعل رد فعل مساوى له فى المقدار ومضاد له فى الإتجاه ...ما من شئ يضيع سدى ...ولكن أحياناً كل الأشياء تؤدى إلى نفس النهاية الأليمة.
هل الخطيئة تكمن فى العدل نفسه ، أم أن العدل أن يتحول الإنسان إلى الضياع ...؟؟
هل يمكن للحروف أن تخدعنى ؟
قد تراوغنى حيناً أو تستعصى على حيناً آخر ، ولكن هل يمكن لها أن تتربص بى بعد أن قدمت كل المغريات والأحلام لتسلب منى أحلى سنوات عمرى؟!
لأجد نفسى فجأة وبدون سابق تمهيد ملقى على جانب طريق الحياة ...
لا صديقة ...لا رفيقة ...لا حبيبة....!!
داخل عالم يمتلئ فقط بالحروف والكلمات المجردة ، لا يوجد به أى لمسة دفء أو حب ...عالم يمتلئ فقط بالأحاجى والألغاز !!
هل ضاع منى طريقى وأنا أبحث عن حرف أو كلمة وتسرب منى الزمن لأجد نفسى فجأة كائن هش ضعيف ، مجرد تمثال زجاجى ، يمتلئ بالخواء والفراغ ؟
عالمى أضحى يخلو من أى مكسبات طعم أو لون أو رائحة ...عالم لا يوجد به من الألوان سوى اللون الرمادى.
الوصول إلى حنكة الكلمات وروعة الحروف ، يا له من شرك محكم إنها ليست مجرد قصة حب فاشلة، ولكنها قصة عمر ..حياة بأكملها ...سلسلة من التوازنات والانهيارات وأيضاً التناقضات ..قصة فترة ..عهد ...زمن ضائع!!!
ماذا يمكن أن يكون مستتراً بين خبايا المستقبل ؟
لابد من بقاء الأمل ، والحياة بالتأكيد هى ليست ظالمة ، وليست عبثية أيضاً.
إذا كنت قد أحببتك و قدمت لك كل ما أملك ولكنك رفضتنى ، فلايمكننى حتى أن أتمالك نفسى ... إن قوانين الطبيعة لنيوتن واينشتين بل وزويل نفسه لا يمكن تطبيقها على النفس البشرية ،وخاصة المرأة ، وأى امرأة ...امرأة ذات مواصفات خاصة جداً، ويأتينى صوتك صارخة:
- الحياة لن تتوقف .
- بالنسبة لى هى قد توقفت فعلاً.
- لك عقل فى داخلك ، وليس قلب فقط ...يجب أن تستمر لا أن تتوقف ، لابد من المحاولة والإصرار لابد أن تبدأ من جديد .
- من قال لك أن البداية الجديدة دائماً هى شرط من شروط الاستمرار ؟
- الحياة هى لعبة ، وأهم شرط من شروط اللعب هو الاستمرار.
- يا له من استمرار مر ، قد يكون التوقف أقل مرارة منه !!
- الاستمرار والتوقف ، الصعود والهبوط ، البحث دائماً عن فرصة .
- أية فرصة ؟!
- دائماً ثمة فرصة جديدة .
- أين ؟!
- اصنعها بنفسك .
- صعب .
- الحياة تستحق التعب ، الشقاء ، الكفاح ، الحياة ليست لعبة .
- كلماتك متناقضة ...منذ قليل قلت أنها لعبة ، ثم عدت الآن لتؤكدى أنها ليست لعبة .
- إنها لعبة بالمفهوم الواسع ، وليست لعبة بالمفهوم الضيق !!
- عدت إلى الألغاز كشأنك معى دائماً .
- الحياة لغز كبير ، لوغاريتم مطلوب منك دائماً أن تحاول فك شفرته .
- أنت أكبر لغز فى حياتى .
- إذن فلتحاول أن تحل هذا اللغز .
- وإذا فشلت ؟
- ومن قال أنك ستنجح ؟!
- إذن لما تطلبين منى ذلك ؟!
- لأنه لابد أن يطلب منك ذلك ...أنت موجود طالما تحاول فك سر هذا اللغز ،فى اللحظة التى تتوقف فيها عن المحاولة ، فى تلك اللحظة ثق تماماً أنك ستصبح عدم ...سراب .
- أهى قصة حب أم قصة وطن أم أنها قصة الحياة كلها ؟!
- إن فى أعماقك إحساس متناقض بالغيرة والحنق والغضب ، وكذلك الازدراء ، ولا أدرى أيهم أكثر صدقاً ؟
- ليس فى أعماقى سوى فراغ كبير ، وإحساس بالعدم ، وبعض الأفكار والمعتقدات الساذجة عن الماضى والحاضر ، بل والمستقبل أيضاً .
- هل مات حبك لى ؟
- أنفاسك الملتهبة ، شعرك الغزير الناعم ،نظراتك العميقة لى، بتلك العينين العسليتين الناريتين المحملتين باشتهاء عنيف ، كل هذا كان يناقض تصرفاتك التى دوماً كانت تأخذك بعيداً عنى ، ولا أدرى لماذا؟
- مشاعرك جياشة ، شأنك شأن كل الفنانين !!
- الفنان هو كاذب محترف ، لكنه يقول أشياء حقيقية ، فهو يكذب بشكل عبقرى ، يخلب لب كل من حوله ، وبرغم أنهم يعلمون أنه يكذب لكنهم يتناسون ذلك تماماً ، ويصدقونه بكل خلجاتهم .
- ربما كنت أنا ملهمتك ؟
- الناس الذين يلهموننا مجرد أشخاص توقفنا أمامهم لبرهة من الزمن وجعلونا نغير أشياء كثيرة فى نظرتنا للحياة ، ولكنها فترة لا أكثر .
- أم أنهم أشخاص نحبهم ؟
- يفترض أننى أحبك .
- ويفترض أننى لم أسمعك أيضاً .
- أنت لم تكونى امرأة واحدة ، بل مدينة كاملة من النساء المتناقضات والمختلفات فى الجوهر والشكل ، بل فى الطبائع والملابس والأعمار أيضاً .
- كلامك لازال يسكرنى ، ولكنك لابد أن تعترف .
- اعترف بماذا ؟
- اعترف أنك خذلتنى كصديق .
- فى الحقيقة أنا لم أكن أدرى أننى ألعب معك لعبة أخرى فى ميدان قتال قد يكلفنى إياك طول العمر ...أردتك كحبيبة ، وأردتنى كصديق .
- لقد رفعتك من منزلة الحبيب إلى منزلة الصديق .
- تقصدين أنك هويت بى من منزلة الحبيب إلى حضيض الصداقة .
- بل رفعتك من منزلة الحبيب بكل صراعاته وجنونه ونزقه ، وتهوره ، وأنانيته إلى منزلة الصداقة بكل عذريتها ونقائها وصدقها وحميميتها ، وطهارتها ،ولكنك للأسف لم تقدر لى ذلك .
- بعد كل ما فعلته لك ، تقولين هذا!!!
- أنا لست بجاحدة ، ولا أستطيع أن أنكر كل ما قدمته لى من رعاية ، ومساعدة ، ولكن يا ليتك كنت تفعل كل هذا بدون أن تلعب دور المحب ...كنت تقدم كل هذا تحت بند أننى امرأتك.
- بل حبيبتى .
- تقصد جاريتك .
- يلح على خاطرى سؤال غريب ،هل ترين أن كل ما فعله أبوك البطل هو شىء لا معنى له ؟
- ماذا تقصد ؟
- هل ضحى أبوك بحياته وشرد عائلته فى مقابل لا شىء ؟!
- لماذا تقول هذا ؟
- ليس هناك أى تقدم حقيقى فى كل ما يحدث ، وكأننا ندور فى دائرة مفرغة ، دائرة جهنمية لا تتوقف أبداً عن ضخ المزيد من الدماء ، والأرض كما هى فى يد المحتل والإخوة إما غارقين فى الضعف أوالخيانة والتواطوء مع القطب الأوحد .
وتصمتين طويلاً ، تشردين فى سنوات طوال فائتة ضائعة ، وتنظرين إلى الغد المظلم ، وما يحدث فى الحاضر من أعاصير وزوابع ، وترتسم على وجهك كل علامات الحيرة والحزن إلا أنك تداهميننى بسؤال غريب :
- لقد أعيتنى كل الحيل لفهم طبيعة العلاقة بينى وبينك ، فهل ما بينى وبينك هو حب حقيقى أم أنه حب مصطنع ؟!
أنظر إليك أتساءل فى دهشة :
- أى جنون هذا الذى اقترفته ؟!
كيف لى أن أدخلك إلى عالمى ، إلى حياتى ، إلى ذاتى، وأحولك إلى جزء منى ، جزء من سعادتى وشقائى ،أكنت وقتها أعى ما أفعله ، أم هى الحماقة التى تدفعنا إلى فعل أشياء قد يستحيل التخلص من عواقبها فيما بعد ؟!
- إنك كنت دوماً تغرينى بالحب .
- وهل نجحت حقاً أن أجعلك تحبيننى ؟
ولم تجيبينى بأكثر من إبتسامة ، ونظرة طويلة تمتلئ بالعتاب والمكر .
- أنت أنثى تحترف فن المرواغة .
- وأنت تستدرجنى دائماً إلى نفس النقطة .
- أنت غامضة إلى حد الوضوح المبهر ، وواضحة إلى حد الغموض المطبق.
- أنت رائع .
قلتها ثم غرقت فى خجل أنثوى صارخ ، لحظتها كانتا عيناك أعمق وأجمل من كل مرة رأيتك فيها ، صحت بك لأهرب من نار عينيك :
- من أنت ؟!
- أنا أضعف امرأة على وجه الأرض .
- ضعفك هذا هو سر قوتك الرهيبة ،أوقات كثيرة أشعر أنك مولعة بى ، وليس بحبى .
- وهل هناك فارق؟
- الفارق كبير .
- إن من يولع بشخص بالتأكيد هو يحبه .
- مفوهمك للحب ، بل وللحياة كلها يختلف كثيراً عنى ، يختلف أحياناً إلى حد التناقض .
- العواطف والمشاعر ، كلها أشياء تمتلىء بالتناقضات .
- أتمنى لو ضممتك إلى صدرى .
- هل هى رغبة رجل ؟
- تقصدين مجرد شهوة بين رجل وامرأة ؟
- أحياناً يخال لى أننى لو احتضنتك سيعود إلى وطنى ...وطنى الضائع على كل أرصفة الشوارع ، فى دولة القطب الأعظم ، القطب الأوحد .
- وأنا يخال لى أنه حين أخذك بين ذراعى ستعود إلى نفسى ، روحى المعزبة الهائمة .
- ربما يوماً ما نلتقى ، نتعانق هذا العناق الحار الأسطورى .
- فى كل مرة كنت فيها معى ، كانت تغمرنى مخاوف شتى من أن يكون لقاءنا هذا هو اللقاء الأخير .
- وأنا فى كل مرة كنت ألقاك كنت أود ألا أخلصك أبداً من أسر عينى ، وقيد كلماتى التى كانت تأخذك معى بعيداً كل البعد عن كل العالم .
- وأنا لا أدرى لماذا تعلقت بك ، لماذا ارتبط بك كل هذا الارتباط ، وكأننى جنين يتعلق بالحبل السرى لأمه .
- الجنين لابد أن يأتى يوم ويغادر بطن أمه ، يخرج إلى الحياة بكل تناقضاتها .
- هل هو بالفعل لقاءنا الأخير ؟
- ربما يكون الأول ...ربما يكون الأخير ..ربما ...ربما ....ربما !!!
كانت هذه أخر كلماتك ، بعدها لم يأتنى منك سوى الصمت المطبق ........!!!!
***
وبت لا أخشى شيئاً سوى صمتك !!!
لن أرجوك أن تمنحينى صوتك.
صوتك القادم من أعماقى،هل هو نار تحرقنى أم ماء يحيينى ؟!
بكل حيرتى، وعبثى ،وجنونى صار القلم سكيناً، وبات الحبر نزيفاًمن دمى .
يا أيتها الفلسطينية الضائعة ...!!!
هل يوماً ستعودين إلى...بكل أشجانك ..بكل غرورك ،وغموضك ، وحيرتك المستمرة؟!
أيتها الأنيقة المغرية دائماً ،هل يمكن لى أن أشفى منك ،وأنت أشهى امرأة بين نساء الأرض؟!


النهاية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى