سعيدة تاقي - كَرمكول.. الرّاقِـدة بهدوء عـند منحنى النيل تَـشْدو

عــتـبة:
أتساءل في عتبات الحكي؛ لو كان بإمكان مسؤول الأمن في مطار محمد الخامس بالدارالبيضاء، وهو نموذج "أمْـنِيٌّ" تتشاركه للأسف جلُّ مطارات الوطن العربي، أن يدرك بعيني القلب وليس ببصره الخادع، ما أراه هل كان سيتراجع عن ذلك السؤال اللئيم الذي حملتُه معي سرّاً إلى السودان؟

أكان سيسألني وهو يتفرّس بلؤم في تأشيرة السودان المثبتة على جواز سفري "و هل هناك من يسافر إلى السودان؟".

1 ـ آسيا بين غرب إفريقيا وشرقها

خارج مقام الحكي وفي صدر مقال القلب، أشاطركم نافذتي هاته المطلّة على بلاد النيلين، لأفتح باسمها أبوابـاً للحكي، أثبت فيها بعض مشاهداتي الخاصة وبعض ما وقر في قلبي عن سفرتي إلى السودان بدعوة من جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في دورتها الثالثة. لأصدقكم القول لم أتورط من قبل في الكتابة المقالية إلا بتحفيز من صديقات وأصدقاء إعلاميين ومبدعين، وكان للسياق دوما اقتضاؤه الملّح الذي يفتح المقال على الحوار، أو يغوص به في مكامن الإبداع أو ينقله إلى إضاءة الشهادة. اليوم القول لي بعد أن أخلت شهرزاد ليالي الرواية التي لا تريد أن تطوعني وتكتمل. لكني، لأنصفَ الحديث وأفيه حقّه، لست مبتدئة فعلاً في المجال. فبالنظر إلى معرفتي الأكاديمية بفنون القول والكتابة والتأليف والنقد لا يراوح الأمر أن يكون وصلاً لمحفوظٍ بـنسق إبداعي أخر أخوضه بكل توثب، فاحتملوا نافذتي هاته، الأبواب ستُـفتَح قريباً.

قد نشر منذ أيام الكنعاني الجليل الروائي الفلسطيني رشاد أبو شاور مقاله الموسوم بـ"أربعة أيام في الخرطوم"، ولا شك أنّ سجلات أخرى ستظهر ممهورة بتوقيع الأصدقاء المبدعين الذين شاركوني هذه التجربة الفريدة، لكن التجربة الواحدة لا ترى من المنظور ذاته مهما تشابهتِ الرؤى أو تآلفت الأنساق أو تطابقت الوقائع.

نادانا السودان جميعا من أقطار مختلفة ولبّـينا النداء بكل حبور وشغف. وكان الاحتفاء والتكريم.

عدتُ بتتويج جميل وصداقات جديدة ومشاريع سردية متنوعة وأفكار عديدة. كان يغمرني توق طيلة الأيام الأربعة التي قضيناها بين النيلين الأزرق والأبيض، إلى تسجيل يومياتي هناك. لكن لم يكن في وُسع الزمن إمكانٌ آخر.

مرَّت بنا الأيامُ على مرافِق الذهول. نتابع ما تحمِله لنا من إدهاش وما تحمِّلُه قلوبَنا من محبة تفيض تدفُّـقاً في كل ثانية.

أثارتني أمور كثيرة وشغفتُ بمعالِم عديدة. لم يكن متاحاً الانسياق خلف اكتشافات عفويّة، لكن ما خوَّلَهُ لنا البرنامج المعَدّ سلفاً للرحلة كان غنى لا ينضب.

وصلتُ رفقة أستاذي وأستاذ الأجيال الروائي محمد عز الدين التازي، والصديق الناقد والروائي ابراهيم الحجري إلى الخرطوم قرابة الحادية عشرة والنصف بالتوقيت المحلي من يوم الأربعاء 20 فبراير، قادمين من مطار الدوحة الدولي، فقد اقتضى مكر الجغرافية وسوق شركة الطيران الفخمة أن تتوسَّط رحلَـتَنا قارة آسيا بين غرب إفريقيا وشرقها. أأقول إن ألِـيس ما زالت في بلاد العجائب؟؟

لم نكن نحن الثلاثة رفقاء السفر،على موعد مسبق، بل لم تكن المعرفة السابقة التي تجمعنا تبلغ مدى الحميمية التي تفتحها رحلة تمتد عبر إجراءات المطارات الثلاثة؛ منذ الثالثة من مساء الثلاثاء 19 فبراير بتوقيت الدارالبيضاء، إلى غاية الثانية عشرة من ظهيرة الأربعاء 20 فبراير بتوقيت الخرطوم. ضيَّعنا في طريق الذهاب ثلاث ساعات من زمن الراحة وما استعدناه وإن استرجعنا الساعات الثلاث أثناء العودة.

كان أستاذي التازي واسطة عقد رحلتنا، فقد أفلح مجلس أمناء جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في إيصال السرية والتكتم على أسماء الفائزين بالجوائز منتهاه، بحيث جمَّعت الرحلة دروبنا دون أن ندرك سلفاً أنّ المغاربة سيجنون ثلاث جوائز في الدورة الثالثة من الجائزة، والمعتاد فائز مغربي في كل دورة.

جمَّعنا بهو المطار الداخلي قبل الإركاب وواصلنا مسار الرحلة جمعاً. ليلتحق بنا في مطار الخرطوم رابع المغاربيين الروائي والإعلامي الجزائري اسماعيل يبرير قبل أن ينطلق برنامج الاستضافة والاحتفاء ليلـتئم شمل الجمع الجميل الذي اختارت له أمانة الجائزة هذه السنة اللقاء. واتسعت حلقة الضيوف لتكتمل بحضور الروائي والقاص الفلسطيني رشاد أبو شاور والروائي والناقد السوري نبيل سليمان والناقد والمنظِّر العراقي عبد الله ابراهيم والناقدة السورية أسماء معيكل والناقد المصري محمد عبد المطلب والقاص والإعلامي العراقي محمد الكاظم والشاعر والناقد المصري محمد عبد الباسط عيد والروائي والقاص اليمني محمد الغربي عمران، الفائز بجائزة الرواية في الدورة الثانية والذي شده الحنين إلى بهاء الاحتفال بالخرطوم.

و كان اللقاء تحت ظل الطيب صالح وفيض حبِّه الذي ينبع ويثمر ..

2 ـ شدو النيل الأزرق

لم تكن الليلة الأولى التي عقدت لنا أول موعد مع كل المحتفى بهم من سودانيين وعرب في ظل حفاوة أمناء الجائزة والشركة المحتضنة بحدائق "بابِـلـيُـو" بأقل من مبهرة. أنغام الموسيقى التي ما توقّفت طيلة الأيام الأربعة عن الصدح بمعزوفات وأغان وألحان تجتذب الأذن إلى إيقاعات ومقامات لم يألفها سمعي، رغم ما بدا لي أحيانا من تقارب بينها وبين إيقاعات أحواش والروايس في سوس والأطلسين الكبير والصغير وبعض التقاسيم الحسّانية الصحراوية، وللخبراء طبعاً في المقامات والطبوع الموسيقية الحكم والتقويم.

كان المقام الخماسي، وفق ما شرح لنا المضيفون، المقام الوازن للخصوصية الموسيقية السودانية. وهو أمر أدركناه بعمق ونحن نتابع تلاوة القارئ الشيخ السوداني الزين محمد أحمد لآيات القرآن الكريم يوم الخميس في بدء الفعاليات الختامية. فقد كان النسغ الإيقاعي ذاته واسِماً للتلاوة القرآنية بما لا تستطيع الأذن المستجِدة في إدراك ذلك التلوين الموسيقي أن تغفله.

الموسيقى لغة الفرح السوداني. لم يكن أي مجلس ليُغـيِّبها. ولم تكن المجموعات الموسيقية والغنائية التي تداولت الشدو في الليالي الأربع بمجموعات هاوية، إنها تحترف الجمال والرقي وصنع الفرح. وكأنها تعقد مع الجوارح ألفة تربو شيئا فشيئا لتلغي في الختام مسافات البعد وتحرّر الجسد في الاستجابة والتواصل من كل عِقال. وكان لليلة الخميس كل السّحر الذي غمرَ الجميع ضيوفاً ومستضيفيـن روائيين وقاصين وشعراء ونقادأ وأساتذة جامعيين وأكاديميين باحثين ومحاضرين في جامعات أمريكية قدموا للمشاركة في احتفالية الطيب صالح. استدعاهم جميعا السحر إلى حلبة الرقص تعبيراً عن الفرح والحبور. في السودان الفطرة مثل الفكر تعبِّــر بالفرح عن سمو الجمال في كل تعبيراته.

كنا طيلة الأيام الأربعة نلتقط ما وَسع قدرتنا على الالتقاط. لا أستبعدُ أنّ الكثيرين سيشيّدون على متن الزيارة شخصياتهم الروائية المستقبلية، وأن آخرين قد اقتنصوا لقطات قصصية ستنمو على مهل في ربوع أخرى. لا شك أن جميع الزّائرين قد ارتووا من نبعٍ زلال ستزهِرُ أطايبه في موعد القطاف لاحقاً، فلا يمكن لروح الإبداع أن تعـبُر بحياد صامت أمام كل ما انتصب على متون احتفال الطيب صالح وهوامشه من قيم.

أحببنا السودان منذ أدركنا خارطةَ الوطن منحوتةً في شغاف قلوبنا، ذات طفولةٍ لاهية عن امتداد الحدود ونسيج الجغرافية وعُقدِ التاريخ. لم نكن نفصله في تمثُّلاتنا المغرِقة في التخييل السينيمائي المصري عن "أمِّ الدنيا" مصر، وكأنه الجزء الجنوبي لشمالٍ يُطِلُّ على البحر الأبيض المتوسط. ولم نكن نعي أنّ التقاء النيلين الأبيض الرزين والنيل الأزرق الثائر في المقرن، وسط ولاية الخرطوم المكونة من المدن الثلاث الخرطوم عموم وأم درمان وبحري، هو الذي يمدّ النيل بالقوة التي تدفعه فتيا متدفِّقاً نحو شمال السودان لاجتياز الشلالات العديدة التي ستعترض سبيله، ليصل إلى مصر "هبة النيل".

3 ـ كرمكول الراقدة بهدوء عند منحنى النيل تدعوكم لزيارتها

هي نماذج سأشاطركم صورها بتفاوت مرصود للحكي وإسهاب مقصود للدلالة.

على الجسر الموصِل إلى قرية توتي مقـتعدة كرسياً صغيراً، كانت الجميلة السمراء برأس منحَنٍ، غير أبهٍ بالعابرين تتفحص مجلةً فنية مصرية وأمامها دلو كبير به أيس كريم من صنع بيتي. تبيع دون مناداة على بضاعتها فالعشاق الذي يعبرون الجسر أو حتى الأفراد والجماعات من المارّة يعرفونها جيداً ويعرفون محتويات دلوها المغطّى. بدا لي انطلاقاً من كل تلك العلامات، أنها بائعة مواظبة على عرض منتوجها في ذلك الموقع من الجسر. لكن ما لم أتوقعه أن تكون الجميلة طالبة جامعية في السنة الأولى من شعبة الشريعة والقانون. وما أثار انبهاري حقّاً، حين مازحتها بقولي: "نحن أمام محامية دون أن ندري" كان سرعتها في التدارك بخفة جميلة وببديهة حاضرة، قائلةً بجرأة مميَّزة: "أو قاضية". لم يكن ذلك إمكاناً آخر تعرضه أمامنا لمستقبلها لم ندرك احتمالَه، بل كان اختيارَها الفعلي لشكل المستقبل الذي تطمح بعزم وأنفة وثقة إلى تحقيقه. لم أكن أحادثها بمفردي لكني لم ألمس طيلة تطفّـلنا على مجلسها حرجاً أو خوفـاً أو ضيقاً، بل كانت تحادثنا بثقة لافتة غير مبالية أو مهتمة بمن نكون، كانت توازي بين الدراسة وموقعها ذاك، حيث تبيع في صمت حين يسمح لها دوام الدراسة بالقدوم إلى الجسر.

من خلف زجاج النافذة في الطابق التاسع من الفندق كان لقاء النيلين الأزرق والأبيض واعداً. موقع البرج الفخم الذي شيّده ذات فتح أخضر العقيد معمر القذافي، يشرف في إطلالته الفاتنة على الجسر المعلَّق ذاته حيث القاضية الجميلة تغزلُ نسيج أيامها بجد وجرأة في انتظار حلول الغد. لا يمكنك أن تلتقطي من خلف تلك الفخامة المشيَّدة بإسراف باذخ نبض الحياة في الخارج. عالمان متباعدان لكنهما يتجاوران لإتمام سيرورة حياة لا تستقيم دون المفارقات. فالمعمار في الخرطوم لا تخفى الأيادي المموِّلة الكثيرة التي شاركت في تنوعه وفخامته وجماله، وكلُّ مموِّل متدخِّلٌ في القرار والاستقرار والمآل. لكن الإنسان صانعَ المكان، يظل الروح التي تعبِّر عن السمو الحقيقي، أثناء دورات الصمود التي يعلنها في مواجهة ضعفه وتكالب الأرزاء على أغصانه الغضة، التي لم يسعِفها سيف الزمن ذات انقسام، لتظل متكاملةً متلاحِمة.

في الطابق السادس عشر من الفندق حيث يمد المطعمُ موائده، قابلتُ خديجة فتاة أخرى فاتنة لا تفارِق البسمةُ وجهها. كان يكفيها أن تعرف "مِنو أنتِ؟" لتخصِّص حديثها عن إعجابها الكبير بالحلويات والطبخ المغربيين. ولا سبيل هنا للاستغراب فلم يكن قصدها الحلويات المميّزة التي يعرضها المطعم في أطباق التحلية التي لها طابعها العالمي، بل كانت تحيل إلى الاعتزاز المثير الذي يسكن الخرطوم والسودان في كل زاوية، بانحدار الجد الأكبر من المغرب، وإلى الإصرار الجميل على الحفاظ على تلك الوشائج التي تربط الأحفاد من الجيل الرابع والخامس بانتماء إلى مغرب لم تسبق لهم زيارته، لكنهم يتوقون إلى ذلك بشدة. لم تكن خديجة بمفردها من شاركني قصة شجرة العائلة بجذورها المغربية، بل شاركني الحكاية ذاتها كل من غادة ونون ومحمد وعادل وكثيرين آخرين. وبعد إعلان أسماء الفائزين بالجائزة والتحقق من أن المغاربة قد حصدوا بالفعل ثلث الجوائز، لم يتغير ذلك الاحتضان اللامحدود من الجمهور المواكب للفعاليات في شيء، بل كان الأمر وكأن الفائزين من السودان خمسة وليس اثنان.

ليس للفرح والاحتفاء هنا علاقة بالمجاملة أو بالروح الرياضية. لقد تقدَّم إلينا مهنئا بحرارة، بعيد الإعلان، وأنا رفقة القاص والإعلامي العراقي محمد الكاظم الفائز بالجائزة الأولى عن القصة القصيرة، أستاذ سوداني محترم في منتصف العمر. وصرّح لنا بعفوية أنه قد شارك بدوره بترشيح عمله الإبداعي في الدورة، لكنه لم يكن يستحق الفوز. هو تصريح لم يكن بالتأكيد مطالباً به. بل إن رغبته في تهنئتنا في حد ذاتها تعبّر عن كرم أخلاق يستحق الإجلال والتقدير.

من بين صفوف الجلسة الثالثة تدخلت في أعقاب النقاش طالبة جامعية تدرس الطب، تدخّلت باسم جيلها الذي يريد أن يكون طرفاً في إشعاع السودان عن طريق فعاليات ثقافية تتحدّث باسمه وصوته، ويريد لمحتضني الجائزة أن يصِلُوا كذلك المستقبل بالحاضر من خلال توجيه درب الشباب التوّاق للعطاء وللبذل على نهج الطيب صالح. وكان جميلاً أن تجمعني المصادفة بطالبتين اثنتين من الشعبة ذاتها مواظبتين على حضور كل الجلسات باهتمام غريب ومتابعة لا نلمسها من مثقفينا للقاءات والمنتديات، فكيف الحال بطلبة الطب ضمن فعاليات للإبداع الكتابي؟

أعود لتدخُّل الطالبة في النقاش، ذلك النقاش الذي كان يتنافس المتنافسون للمشاركة فيه، ضمن حضور واصل الاحتشاد والمتابعة والإنصات في كل الجلسات بجدية راقية واهتمام لا يكلّ مهما طالت الساعات. لم يكن حضور المرأة ضمن المتابعين أو المشاركين أو المنظِّمين بالحضور الباهت كماً وكيفاً. مكانة المرأة وفاعيلتها داخل المجتمع السوداني تشدُّ الانتباه. لقد تعرّفت أثناء فعاليات الجائزة على أستاذات جامعيات وصحفيات وروائيات وشواعر وإعلاميات ومخرجات و.. و.. الحاضرات كنَّ نصف الحضور دون أي مبالغة. ولم يستنكفن عن المشاركة أثناء النقاش بالتعقيبات والاقتراحات والأسئلة والإضافات.

بعد العودة من الخرطوم واصلت انشغالي بموضوع مناصفة المرأة السودانية في الحياة المدنية، عبر إبحار على متن محركات البحث وجولات في الصحافة السودانية الورقية والإلكترونية. تيقَّنتُ من الأمر ليس تجميلاً لواجهة الفعاليات ولحواشيها بادرت إلى إبداعه إرادة كل اللواتي تدخَّلن أو شاركن في الإنتاج. إنها طبيعة المجتمع السوداني ذاته. ولكم أن تزوروا موقع أي صحيفة سودانية ورقية أو إلكترونية على الشابِكة، وستتأكّدون أن ما ينادي به الحراك في قطاع الهيئات النسائية من مطالب المناصفة تعيشه المرأة السودانية بالفعل وتواكبه الصحفيات السودانيات في مجتمعات السلطة الرابعة بكل تلوُّنات المسؤولية المهنية ومساحاتها الإعلامية.

أيدرك ذلك المسؤول سابق الذكر أنّ كرمكول قرية الطيب صالح الصغيرة والفقيرة والراقدة عند منحنى النيل، تدعو العالم بأكمله لزيارتها احتفاءً بمن أنجبته من صلب طينها السّامي؟؟ أيدرك أنّ أكبر شركة للاتصال في العالم العربي بأكمله تحتفل في السودان بالثقافة والإبداع والفكر والفن تخليداً لذكرى صاحب رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" التي ضُمِّنت دولياً طيَّ أفضل مائة عملٍ أدبي في التاريخ، وهو ابن تلك القرية الصغيرة والفقيرة والراقدة عند منحنى النيل؟؟

4 ـ جنوبَ الروح .. شمالَ القلب

"أنـا لا أحبُّــكِ" تلك هي العبارة الوحيدة التي خاطبني بها منذ فارقته قبل أربعة أيام. وكأنّ احتجاجه الصّامت وهو يرفض مخاطبتي هاتفياً مرة تلو أخرى قد تفجَّر أخيراً عن ثورة. إنها العبارة الوحيدة التي خصَّني بها على البعد في كل الأيام الستّة، التي استغرقتها سفرتي إلى الخرطوم ذهابـاً وإيـابـاً.

كان قد شاهدني بفضل البث المباشر لفضائية النيل الأزرق، أتسلّم الجائزة والابتسامة تعلو محيايّ. هو أمرٌ لم تتقبّله سنوات عمر إيـاد التي تشرف على ختم السنة الرابعة. كيف للعالَم أن يواصل الحياة ببساطة؟ وكيف لها أن تبتسِمَ وتفرَحَ وهي تشاهدني أجلسُ دونها أراقب احتفاءها بالآخرين وإهمالها لوجودي؟

لم أدرك هذا التحليل المتَّزِن طبعاً، وأنا ألتقط صوت إيـاد من داخل غرفة الاستقبال الشرفي بقاعة الصداقة بالخرطوم. كانت دموعي سريعة في الجري لدفع أي شبهة للابتسام التقَطها حسُّه الصغير، قبل إنهاء المكالمة الهاتفية المهنِّئة التي وصلتني من زوجي بالدارالبيضاء. لأجد نفسي فجأةً وسط الجمع المبارِك والصحافة السودانية المحتفية بفوزي أمسح البلل عن وجهي وأبرِّر للأعين المستغربة موقع الدموع من الإعراب داخل كل هذا الفرح المحتَـشِد.

كانت معاييره في القراءة، أقصد المتابعة المتأنية والاستقبال المتحمِّس، تختلِف عن معايير الجميع بالتأكيد.

فلم يكن موضع اهتمامه وهو يطالع ملامحي تطلُّ عليه من شاشة التلفاز ذلك الاحتفاء المُذهل الذي ينبع من كل زاوية داخل القاعة للأدب والفكر والثقافة والإبداع والجمال، بعد أمسية رحلة الباخرة إلى قلب النيل الأزرق وحفل الغداء وتكريم المشاركين والمحكِّمين. لم يكن موضع اهتمامه صباحُ الشهادات التي قدّمها المبدعون والمثقفون في تخطيط مدهش من مجلس أمناء الجائزة وانتقاء رامز لإفادات كل من الروائي شول دينق من جنوب السودان عن رحلته من شمال بور حيث ولد إلى الخرطوم ثم موسم هجرته للجنوب، والروائي نبيل سليمان من سوريا عن رحلته الإبداعية والنقدية من "ينداح الطوفان" و"مدارات الشرق" إلى "سمر الليالي"، والروائي رشاد أبو شاور من فلسطين عن رحلات اللجوء والإبداع منذ "أيام الحرب والموت"، و"الرب لم يسترح في اليوم السابع" إلى "شبابيك زينب".

و لم يكن موضع اهتمامه الجوائز التي تسلَّمناها تِباعاً، ونحن نعتلي الرُّكح البهيّ، ليجمعنا ذلك الامتداد الخشبي الصغير بتَساوٍ تحت ظل الرّاحل الطيب صالح من مشرق الوطن العربي ومغربه. ولم يكن موضع اهتمامه موقع السودان ضمن خارطة قضايانا وانشغالاتنا التي نرسمها بشكل يومي وفق عناوين نشرات الأخبار وهوى رؤساء أقسام التحرير.

كانَ اكتشافه المُغرِق في طفولته المتأهِّبة نحو العالَم، للخرطوم العاصمة، مفارِقاً لطعم اكتشافنا نحن. يراها في ظل معجم المدن الذي يخزَّنه مقابلاً موضوعياً للشوق الذي عاشه وقد سلبَه بغتة وعلى امتداد أيامٍ أمّه التي لم يعتد فراقها. ورغم الذَّخيرة الفوتوغرافية المتنوعة التي أطلعته عليها بعد العودة، لم يبتعد عن ذلك التحديد الذاتي للمكان. هو قطعاً لم ير المدينة التي استدعتنا جميعا من مدن متباعدة، كي نعانق عن قرب نبض السودان المشِّع جمالاً وإبداعاً وحضارة. ولا يستطيع إدراك جميع التفاصيل التي أغرقْـتُه في حكاياتها لإشباع فضوله نحو معرفة كلِّ ما لم يشارك في صنعه. لكنه رأى بدل كل ذلك، المدينةَ التي يريدني أن أصطحبه لزيارتها مستقبلاً، كي أعوِّضه ما فاته من زمن عشته في مكان آخر لا يعرفه ولا يستطيعُ عند ذكره رسْمَ معالم بصرية لحدوده، مثلما يمكنه أن يفعل عند ذِكر أيِّ شيء أو شخص أو مكان له به سابق معرفة.

"أنا لا أحبُّكِ" عبارة أرهقتني بعمق تلك الليلة بعد التتويج بالخرطوم، قبل أن أترجمها إلى عبارات أخرى من قبيل "أفتقدك كثيراً" و"لا يمكنني مواصلة الحياة بهدوء" و"لا أستطيع أن أغفر فرحك وأنا حزين بسبب غيابك". لكن لم يكن رغم ذلك وقعُ العبارات البديلة جميلاً، فقد ظلَّ في القلب متَّسعٌ لم يستوعبْه الفَرحُ.

أنْ نُدرِكَ أنّ الفرح الذي نصنعه لا يعني من نُحبّ، قد يجعلنا نعيد النظر في معاني الفرح ذاته، كي يظل الحبُّ صنيعتنا التي نتقِـن.

ذاك ضميرٌ مفرد يصقل في العلن تجربة أمومة غادرتْ مرفأها بشكل مؤقت، لتعود بعد الغياب إلى إبداع شكل جديد لتخومه ومتونه وحواشيه. فلا يمكن للسفر واكتشاف المسالك والممالك إلا أن يضعنا أمام مرايا للذات لم نعرف وجودها من قبل.

أما الضمير الجمع فلا يمكنه أن يحفظ بالكتمان ما لا يمكن للسر أن يطويه. فأن نُدركَ أنّ ما نعتَقِده إنجازاً أو استقراراً أو استقلالاً، ونرى أنَّه كذلك في أعين من يشاطروننا الهمَّ والحُلمَ والسّعي في الأمس واليوم والغد قد لا يراه الجميع بالمنظار نفسه، قد يجعلنا ننغلق على دوائرنا الضيّقة القاتلة، ويمعن كلٌّ حسب أقطابه ودوائره وحوارييه في استنساخ تقاطعاته وسلاسله هنا وهناك. فلا يتَّسِعُ حينها القلبُ جَمْعاً لأحلام أو أفراح جديدة.

كم من الأماني والأحلام ندّخرها لأبنائنا وبناتنا وأحفادنا وحفيداتنا كي يحققوها بدلاً عنّا.

عسى أن ننجح في جعلهم يرون بعض همومنا إلى جانب ما سينتجونه من هموم أجيالهم الخاصة، كي يطيب لنا أن نحيا بهم، بعد رحيلنا عن الحياة، مثلما يحيا الطيب صالح حاضراً في كلِّ السودان ويُـقـيـم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى