د. فاروق أوهان - فرس الخضر (1)

وهل يموت التنين
طالما له عدة رؤوس

تطوّق فخذاي ، ظهـر الفـرس ، فتتلامس خلايـا الإحسـاس دفئـا ، ورقـة، وانعطافا ، فلا الكلام يعوّض ، ولا لغـة العيـون تتوسـط المشـاعر ، فهـو تلامس بالرعشات ، انقيـاد غـير مشـروط بـالدالات .. فحـرارة الالتصـاق تتنافذ عبر مساحات ، ونقاط الالتقاط ، وسريان الدم تحت الجلدين ، يحسهما كل جانب بالنبض المتزامن خـلف أقنيتهمـا .. وفـوق فـي تلافيـف المـخ ، إشارات لصور عالية الإدراك ، تهضم مفاهيم تختزن في الوعي .. وحصاني الجامح ينتصب ، بعد غفوة طال انتظارها ، في لقاء فرسـه التـي أركبها الآن ، مُنتفخ الوفاضين ، حاميهما .. فكم عـاتبني عـلى غيابهـا، واتهمني بإهمالها ، وتساءل عن مكان رحيلها .. فقد اعتلت جوانحه ، وناحت هواجسه ، وثقل همه .. فهو يحملني جسدا ، وأحمله غما ، وهمّا ، ويثقل فكري بنزواته ، ورعونة تصرفاته ، وأنا أقوده في دروب الحياة الوعـرة ، فغـابت عنه كل صهلة ، ووثبة جافلة ، صدرت منه الآن فقط ، لا إراديّا ، لكن بتوقد الشباب الغِرّ ، والمهر الهاوي ، عندما أحسني أعتـلي صهـوة عروسـه ، ولا أعلم معنى لتصرّفه هذا .. هل من الرفض ، أم من الغيرة ، أم من الفرح .. وبين هذا الانتباه والجَيشان لدى حصاني المنتشي ، بـلا توّجـه ، أحسـني شاردا على تكرار صهيله ، وتواتر ضربات حـوافره ، فتتـداعى لـدي الصـور ، عندما أتَذَكّر الحصان الأبقع ، وهو يحـاول الإفـلات مـن سائسـه ، لـدى رؤيته لشاب منتصب الأعضاء من شعر رأسه حتى أخـمص قدمـه ، يتنـاول رسـن رفيقته ليركبها بحركة انسيابية ، رشيقة ، لم تلق أية ممانعة من الفـرس ، رغم تشنج حركاته الظاهرة ، مبديـا حسـن قيـادة باطنـة ، فهمتهـا عشـيقة الأبقع ، فانقادت إليه بليونة تناوبت بين القـائد ، والمنقـاد ، فـاعتلى صهوتها ، مثل نسر متناسق الحركات ، وهـو يحـط عـلى وكـره .. رغـم صهيـل الأبقع الاحتجاجي الهـائج ، وأدار الشاب الفـرس ، بسـهولة لتتقـدم رهـط الصاعدين لجبل “كورك*” المنيع ، كأنه “نابليون” يقـود أول فـرس عربيـة أمام جيوشه الصاعدة لجبال “الألب” .. لكن طلقة طائشـة جـندلت الشـاب ، فسقط عن ظهر الفرس ، وهما في طريق النزول ، فقد تدحرجت جثته ، مثل هزيمة “بونابرت” في ليل الثلوج ، فارتاحت هواجس الأبقع من منافس غِّر عنيد.
وأراني الآن ، كجثة الشاب ، لم تبرد الدماء فيها ، أحنو ، وأهفـو عـلى الجسد المتماوج تحتي .. يتراخـى جسـدي كـريش النعـام ، منقـادا ، لينـا يتماوج مع الحركة ، فيدغدغني زمن الذكريات ، وعرقي يمتزج بلزوجة العـرق الخمري في وسائد صهوة الفرس الحمراء ، مركـوبتي ، أعتليهـا كـأنني فـوق براق ، أو مركبة فضائية ، مرهفة المجسّات ، لا توازي اللذة فوقهمـا بكـل عنفوان سماواتهما ، الشعور الداخلي الممتزج بين جسدينا ، فأنا ورغم كـل ما ورائي من انهيارات قاسـية فـي الليـل “التمـوزي” ، ألـوذ بحـاميتي ، لتحملني بكل همومي ، وذنـوبي ، وجروحـي الدفينـة ، هاربـة بـي مـن جحـيم الاقتتال .. مع فوجي الرابع ، وبأمر مـن آمـر لوائنـا الـرابع .. وكـم تمنيت ألا أدير ظهري كالفارين معي ، وأنا أنحـدر مـع المئـات لا خيـار لنا ، منهزمين ، أو مقتولين بالسـلاح الأبيـض الـذي باغتتنـا بـه عيـون أصحابه الصابرة على احتلال أرضها ، وكم تمنيت زرع العيون في قفا رأسي ، أو تركيب مجسات “رادارات” الكـون كلـه فـوق أهـدابي ، أو أصبـح خفاشـا ليليا ، يهتدي للاتجَاهات السليمة ، لا تخيفه الطلقـات الطائشـة ، وأشـم زوغان العيون حـولي ، وقـد اتسـعت إلـى أقصاهـا ، وتـراقصت اتجَاهاتهـا المضطربة لأقصى الأطراف الأربعة ، فأذوق مرارة الانهـزام مـع الفـارين المولين أدبارهم ، لا ينظرون لأي شيء خلفهم ، مهمـا عَّـز عليهـم ، كـأن حريقا هائلا ينـوي ابتلاعهـم مـع الهشـيم ، أو أن قدمـا وحشـية ، توشـك على اكتساحهم ، أو إعصارا يجتاح المساحات ، مدمرا كـل جـلمود ، فمـا بـال الفارين ، ماذا سيرون لو التفتوا ، إن الهلع سيصيبهم لينشف كل نـدى فـي جسدهم ، صائرين إلى عمود ملح ، مثل قوم سادوم ، ويسرقني تداعٍ قاسٍ ، هـو غفاءة تقسرني على دخول بوابات بلا مداخل ، ولا أنوار ، معتمة كالظلام ، مقفلة كالجدران ، باردة كالصقيع .. دهاليز جوفاء بـلا نهايـة ، أتهـاوى فيها كانزلاق القطارات في أنفاقها أفقيا .. لكنها ثوان ، .. ثم أجـدني قد أشرفت على سهل احترقت زهوره في ربيعه الدامي ، فأجد الفرس الشـهباء قد أعدمتها رصاصة طائشة مني ، وأتعَجّـب !! كـيف يحـدث ذلـك وأنـا فـي الواقع لم أجرؤ على قتلها ? وإنما فعلها نائب العريف ، في الفصيل الذي أنا قائده ، لكن أنفاسها الأخيرة المتبخـرة كغمامـة سـوداء فـوق جـدول السهل الحزين ، تُذَكّرني بشريط الأحداث ، وبذِكْرياتي التي دونتها فـي قصص لا تمحى من الذّاكِرة.
وأعود إلى طوري على صهيل جديد من “نورا” الصهبـاء ، متأسـفا ، وهـي تنحدر بي في طريقنا الطويلة ، تتأسى لحزني وسرحاني عنها ، وتوهـاني عـن قيادتها ، رغم علمنـا نحـن الاثنيـن ، بـأن القيـادة فـي يدهـا الآن .. ففارسها الذي يعتلي صهوتها ، قد شرد عنها مع فتاة من بنات جنسها ، فتاه كل انسجام وتناغم لامسته في اللحظات الأولى ، وتسري رعشة خفيفة منهـا ، تنعكس على كفيّ ، وعندما أخـذت ألامسـها ، معتـذرا ، أملّس عـلى رقبتهـا الطويلة ، وشعرها المنسرح وقد التصقت خصائله ببعض العـرق القـاني ، كـم تمنيت التعرّي في هذه الهزيمة ، ليتلاقى جسدينا دون حواجز ، فـالنبض لا يتوازن إلا بالنبض ، وفي انحدار شديد نلتصق أكثر فينام جسدي المعـروق ، من أسفل الذقن ، وحتى سرّتي على جذعها ، يتماوج مع الحركـة الحـذرة فـي مسيرها المتئد ، تارةً إلى أمام ، وتارةً إلى خلف ، وبتكرار يبدأ بطيئا ، يضطرها الانحدار للموازنة ، بين التوقف ، وبين الاندفاع الشديد ، فـأطرب مرغما مع كل خطوة جذلى في أقدامها .. فتهتاج لحظات ، منتعشة كأن نسمات عليلة هبّت على شغافها ، وترتاح ، لتسكن هنيهات أخرى كأنها أعمـاق بحـر ساكن ، وأدخل السكون المختلس ، فـأمّر بأجزائـه كأنـه دهـور طويلـة مـن السعادة ، فأتصَوّر الصهبـاء “نـورا” عروسـا سـودانية مـن أعـالي جـبل “كسلى” ، وقد خضّبت بنقوش الحنّاء أطرافها ، وزخرفت بها نهايـات حلمـات صدرها ، تقيّـد الأسـاور معصميهـا ، وتحـبس الخزامـة أنفهـا ، والأقـراط أذنيها ، وهي ترقص كالزرافة ، رقصة زفافها ، تعتلي رأسـها جـدائل الـذهب المضفور بخصلات مجعّدة من شعرها ، وأراها عروسا فراتيـة ، تقبـض كفاهـا على الخزامة ، وتتمنطق بقدّاح البرتقال ، وتحتضن جمّار النخيل البـابلي .. وأحنو إليها كعروس من أعالي “دجلة” ، ترتشف “عرق” نبيذ ، “شـيخان*” ، بطاسة الفضة التي تتوج رأسها ، أو تحتسي نبيذ كرم “بامرني*” ، وتسـتحلي طعم قمرالدين “سنجار*” وتتطّوق بقلائد تينها الناصع الاصفرار …
وينتفض في بالي هاجس قوي ، وأنا التحف الليـل ، منحـدرا مـع “نـورا” متَذَكّرا “سردار” نائب عريف الفصيل فـي هـذا الانحـدار ، والاندحـار ، فأنا وهو ، وغيرنا من الفارين ندير ، ظهورنا للأعداء: الأخوة من أهلنا ، بالانتماء والجنسـية ، وأعداؤنـا بـالبِزّة الرسـمية .. وبيـن السِّـر والعلن ، لفظة تشمل الوطن .. ندير الظهور لبعضنا في المحـن ، مثـل ركـب الخيل يسلم بالأمر حال سقوط واحد منه ، خاصة إذا مـا كسـرت لـه سـاق ، فألموت قد حتّم عليه ، ولعل ما يدور بخـلد “سـردار” صعـب يسـتعصي عـلى الفهم ، فمن هو المحِقّ ، ومن هو العدو ، ومن هو المعتدي ، وعلى أية جهـة سوف تحتسب الشهادة ، أو الخيانـة ، ومـن ، وكـيف ، ولمـن ، .. ، كـل هـذه الأسئلة تتدحْرج معي بعيدة ، أو قريبة عنـي ، أخالهـا أفكـار “سـردار” ، لكنّ ألف “سردار” فيّ ، وفينا ، فنحن أشتات هذا العصر ، “طشّرت” الشظايا عقولنا ، واتجَاهاتنا ، مثل عظام فكّ زميلي المتناثرة ، مع انفجار لغـم ، غير قريب ، وأشُمّ الدواء فـي سُّـم أفعـى حديثـة الـولادة ، يسـتعملها الجنود كرقية ضد الإصابة ، وأتوسّل الانبثاق من تحت لحـاف الليـل ، مـع رائحة الربيع ، حتى لـو قتلـت برصاصـة طائشـة فـي عتمـة هـذه المـواقف السوداء ، أو الانبعاث زهرة ، أو شجرة بلّوط تظلل الأعداء ، والأصدقـاء ، فلا يصيبها مكروه .. لكنني أمنّي النفس في “نورا” أمـلي ، وحـريتي فـي سجن الموت ، وسجن نفسي داخل تابوت العظمي الذي يحملني منهكـا ، وأحملـه ثقلا ، وتقيدا ، وإن هربت منه ، فإنني داخل سجن الـزيّ الـذي يتمنطقنـي ، وإن خلعته فأنا في سجن الحدود المرسومة حول بلادي بخطوط مـن البـارود الموقوتة .
وتفزع “نورا” لصوت انفجار ، فتدور على نفسـها كأنهـا مرضعـة تحـمل طفلها ، لتحميه غير أبهة لنفسها ، فتفقد الإحسـاس بالإتِّجـاه ، فتتـورط مثلي في الأسئلة ، وتدور ، وتدور ، تدوووووور .. فأصاب بالدوار معها .. ويتنادى إليّ من الماضي العتيق صدى صوت “سفيان” ، وهو على ظهـر الفـرس يصيح بانزعاج ، وتوسّل ، معصوب العينين ، أفقده الصـداع صوابـه ، لا يـرى إلا السواد مثلي الآن .. ويصُرّ الطبيب الشعبي ، ولا يـرضخ للتوسـلات ، والصراخ ، فدوران الفرس الهائجة ب “سفيان” بديله الناجع فـي التخـدير ، فحتى يفقد “سفيان” صوابه ، ويتخّدر ، يكون سـهل الانقيـاد لعمليـة فصـد الدم ، عند الصدغين ، وتحت الأذنين ، وعندما تبرز الدماء المفصـودة تحـت المشرط ، يروح سفيان في غفوة عميقة ، هي حلم توسله منذ أشهر ….
وأشعرني أنا الآخر ، أغوص في الموت الدافيء ، وسائل ساخن ينزلق عـلى ظهري ، فلا أرى لمصدره مكان ، فهل هو دمي الذي يشخب مـن عـروقي ، أم هـو عرق الصهباء يخدعني ، وتتلاشى حتى صور الأحلام من منـافذ أبصـاري ، ولا أرى حتى السواد الذي يظللني ، فأتصور الألوان من منافذ اللمس في أطراف أصابعي ، وذوائب جسدي الحساسة ، وأنام فوق ربيع دافيء في دمـي ، وسـائده الراحة اللذيذة على شغاف الرقة ، في أفواه الزهـور النديـة ، كلحظـاتي المعدودة الآن ، تشخب دما مفصودا ، كدمي المتلون بجـلد الصهبـاء ، وألـم حاد يطغي على كل الآلام بكـوعي ، فقـد لمس نهايـة صخريـة مدبدبـة عنـد الارتطام ، فأرتجف تارة كأنني أصطلي ببرد كـانون ، وأنـا أجـلد السـفوح الثلجية بأقدامي العارية تائها في صحراء الجليد ، باحثا عن دثار لأبعث في نفسي الدفء والقرار ، فأتوسل بجهنم ، مع ألـف طقطقـة لأضـراس الحـلق المعروق ، وأرتجف ، أررررتجف وأنا أنزف .
وتنتشلني نسمة دافئة ، كأنها تأتي من مجرى نهري يمر على نبـع ميـاه معدنية حارة ، فأستفيق من بين أجـزاء لحظـة المـوت ، كـأني أسـحب شـهقة الوليد ، متمسكا بتلابيبها ، كمرساة لنجاتي ، فلا أصّدق مذاق حلاوة غشبة اختلاط الألوان ، وتشوشها والأضواء من وراء نوافذ أبصاري فالدفء ينفثه حنان “نورا” ، وشفاهها تدور في أصقاع جسدي المرتعش ، وراء هزيمـة الـدم من منـافذ الجـروح فيـه ، تتوسـد حافاتهـا بشـغاف حناياهـا ، لتسـندها ، وتضمدها ، ولا تألو جهدها لملمتـي كهشـيم الزجـاج المنثـور فـوق رمـال البحور ، فأغفو مطمئنا ، رغـم الألـم الممـض فـي كـوعي ، فيتكـرر سـقوطي مَّرات ، ومَّرات ، من خلف أبن عمي ، وهو يطـارد فرسـه الصفـراء ، دون أن ينبهني لمسكه بالوثاق ، فأطير في الفضاء ، لأعود فأرتطم على سن صخرة في
“بسته سنجار” ، فاسقط ، أسسسقط ، وأعود لأسـقط ، ببـطء أسسسسسـقط ، وأعـود للسقوط .. السقوط الأليم ، وأنا أنـوح بيـن الفـرح ، والانجـرار ، ألتمس بمنظار الطائر الهابط مع كل سقوط ، زهور الُرمّان الحمراء بشـطحات مـن نهايات إبصاري ، وأنا أغيب عن الوعي ، وأتمنى التّوسد على حافـات زهـور المشمش ، وجوانب أوراق التين ، ألتّـف حـول الضـوء مثـل عبّـاد الشـمس ، تغطيني مياه “البستة” المتجمعة من كـل ينبـوع لعيـون ميـاه “سـنجار” ، متعطرة بالريحان ، والنعناع ، وزهور الماء الطافية ، والخـزام ، ونحـلات ، وفراشات لامست أطرافها بسرعة ، حواشي الماء مـن سـطوحه ، فـأنصت للصـوت الطفولي بداخلي ، تدغدغه أغاريد الذكورة في زهور الإنسـان ، فـأتَذَكّر كل الصبيان مثلي يسبحون عراة في مياه “البستة” بينهم يـافع بـرزت مـن بين أعضائه شعيرات كثة استهجنها ، لكن منظرها يوقظ في نفسـي ، وأعضـائي الفحولة المتحفِّزة للاستيقاظ ، لكن الألم يمّض ، فيعضني الجوع في معدة الامتصاص ، واستنجد بأبن عمي الأرعن ، وهو يفُرّ بلا انتباه ، ويجيء أبي ليلملم جسدي ، ويحتضنه ، مهددا ، متوعدا أبن أخيه ، ولاعنا أباه ..
مثل “نورا” يعالجني الشيخ “سعيد المحـمود” ، بـزيت الزيتـون وشـعر الماعز الأسود ، فيعيد كوعي إلى مكانه ، ولكن كوعي هنا قـد انفصلـت عـن جسدي لتمسك جذر شتلة بريّة ، وساقاي من الفخذين ابتعدا ليرتطمـا بسـاق شجرة جوز تجلط من الشظايا ، وشعر رأسي تعلّق متشبثا بشجرة عنب الثعلـب المتسلقة.. وتعَضّ “نورا” على الأشلاء بأوداجهـا لتنقلهـا إلـيّ عنـد قلبي المتوسط مبنى الصدر فيّ ، فهل من وعاء يلمني ، هيكـل ، كـيس يجـمع أشتاتي ، كقنديل زيت لأضيء أيامي القادمة .. ويصيح كـل العـراة حـولي ، كأنهم صبيان “البستة” ، مشيرين إلى المنقذ وهو يمُرّ على فـرس وحشـية ، كأنه ينبثق من تحت المياه ، يستل رمحه ليقتل التنيـن الـذي شـرب ميـاه “البستة” ، حتى الجفاف بعـد أن يـأكل وجبتـه المكَوّنـة مـن عذرائهـا ، فيمزّق أسنان الافـتراس النهمـة فيـه ، ويجَـرّه عـن مصـادر الينـابيع المنحبسة ، ليعود الصفاء ، وتسري السعادة على ألعاب ، وحركـات الصبيـان ، مهللين للمنقذ “الخَضِر*” ..
وكأنني أسمع “نورا” تنوح عـلى شـبابي ، وتمسـح دمـائي بدموعهـا ، لا تفارقني ، ولا تعرف إلى أين تنقاد بي ، فأنا فارسها الذي فقـدت بفنائـه كل اتِّجاه ، كل أمل ، آآآآه ، يا “نورا” محبوبـة “فنـار” الـذي انطفـأ فخبت عيونها في ليل الاختلاف ، فسبحت كل الوحوش في بحر أسود من الدماء المفصودة ، وتاهت سفن المستنجدين عن شواطِئ الأمن ، حتى يضيء سراج جديد في الفنار نورا لعيون السابحين ، وتغوص “نورا” تحتي كأنها فرس الخَضِر الوحشيّة ، فتعلّيني إلى فوق ، على منكبيها ترفعني ، وتناولني رمحي الذي علاه الصدأ ، لأفقع عيني التنين المرتشـف لدمـائي ، ودمـاء العـراة مـن الفارين حولي .. فتنطفِئ أنوار عينيه القادحة شررا ، ونارا ، وعلى خوار فنائه ، أنطفِئ ، وكأن أحدا ينتشلني ، ويطير بي .

هوامش –
————-
* كورك : جبل منيع يسيطر على مضيق جـبل ككـلي عـلي بكـك فـي شـمال
العراق .
* كسلا : اسم مدينة وجبل في السودان .
* شيخان : مدينـة فـي شـمال المـوصل تقطنهـا غالبيـة مـن الطائفـة
اليزيدية ، وتعتبر مع “سنجار” مركز هذه الطائفة .
* بامرني : كانت عامرة بكرومها ، ناحية في شمال العـراق مـن أعمـال
محافظــة “دهــوك” شــمال المــوصل تابعــة لقضــاء العماديــة هــي
مركز النقشبندية الأكراد .
* سـنجار : مدينـة شـمال غـربي العـراق ، يقطنهـا العـرب والأكـراد
واليزيديــة ، والمهــاجرين مــن أرمــن ” شــبه جــزيرة الأنــاضول”
تركيا حاليا.
* البسته : هي البستان تغطيه المياه في بعض الأحيان .
* الخَضَر : النبي المعروف ..
(1) نشرت في مجموعة هديل على الحدود عن دار سينا بالقاهرة 1997
تعلي
أعلى