كاظم جماسي - توق قديم

كأي لص، ظل مستثارا متربصا، منذ أن هجع ليلا أفراد عائلته جميعهم، أمه وأبوه وأخوته ذكورا وأناثا، وقد توزعت مناماتهم سطح الدار.
كانت الساعة، على وجه التقريب، قد جاوزت منتصف الليل، وهو وقت يكون فيه سكان المدينة قد غطوا في نوم عميق، بعد نهار تعب ومشقة في طلب الخبز.
حين أخذ يرفع رأسه شيئا فشيئا، كان القمر الخريفي واهنا في إضاءة الموجودات بما يجعل حدود هياكلها غائمة، أجال ببصره، بتركيز مضاعف، في أنحاء السطح ليطمئن من خلود الجميع الى النوم، ثم جلس متوفزا، مستقيم الظهر، متلفتا يمينا ويسارا، وشحنات مختلطة من الأثارة والخوف تنشط، كديدان تنغزه، متغلغلة في زوايا جسمه كلها، مالبث أن دب، محني الظهر، على أربع، متوجها ناحية الستارة المبنية من الطابوق، والفاصلة بين سطح دارهم والدار المجاورة، هناك حيث تتجمع اللحظة، بنحو بالغ القوة والكثافة، كل جوارحه في بلوغ غايته المنشودة..
كان رأسه أسفل حافة الستارة، فيما جسده يلتصق بها، كما لوكان حيوانا رخويا لزجا، تنز مسامات جلده أجمعها، خوفا وشبقا دافقين..
ببطء شديد، رفع جبهته مستطلعا، وهاله أن رأى عشرات العيون المتسعة المحيطة بأطراف ستارة سطح الجيران، شزرا تبحلق فيه...ومن خلفها تراءت منارة الجامع كرمح غليظ يشهق نحو الأعالي، أرتد فزعا وخفض رأسه بسرعة البرق، فرك عينيه لمرات، فكر أن الأمر لايعدو أن يكون وهما محضا، بعد دقائق عاود الكرة، فرأى ثلاثة أجساد تفترش أرض السطح ومهد لرضيع أقرب منها، وبدا سكون النوم وثقله مخيما على المكان، تمالك نفسه، وبذات اللزوجة تسلق الستارة، ليمسي الآن خامس الأجساد على السطح المجاور. جمد للحظة، مسح المكان مستنفرا حواسه كلها، ثم توجه الى حيث مهد الرضيع مستترا به، وفي لحظة عبرت غيمة وجه القمر فأضيء المكان، وحانت منه إلتفاتة، بغيرما أرادة، الى وجه الرضيع، كانت أبتسامة وادعة تنداح على بشرة نقية صافية، أرسل بصره عبر غلالة المهد الشفيفة فصعق لمرأى فخذين بضين ممتلئين ينفرجان وطرف الثوب ينحسر حتى المنتصف منهما.
كانت سمات الجسد الباذخة المشدودة، الواهبة المتمنعة، الصارمة الجذلة، مصدر عناء كبير، لا، بل شقاء ممض يسكنه منذ شهور طوال.
الجسد الفارع من دون إستطالة، الممتلىء من دون بدانة، السامق سكونا والراقص حركة، المهيمن في صحوه ومنامه، هاهو ذا الآن، مطروحا أمامه، كاشفا، ويعد بالمزيد، عن بعض ثمراته المشتهاة، يدعوه، وهو الجائع حد المرض، والضامىء حد التيبس، لأن يثب عليه..
على أربع حبا هذه المرة، متقدما نحو أسفل جسد " بتول" المتجبر حتى في رقدته، غير مكترث بالمتر الفاصل بين فراشها والفراش الذي يحتوي ضآلة جثمان زوجها الكفيف، ولا بالجسد الذي يليه، أبنهما الصبي،. صار الآن مقعيا عند راحتي رجليها بالضبط، وقد غدا بأكمله منتصبا، كسهم متوتر مشدود للغاية، يهم بالإنطلاق..
للحظة هجس ثمة من يرقبه، أدار بصره فأقشعر بدنه لما رأى ذات العيون المحدقة تقابله على حافات الستارة، وعددها قد تضاعف، ومحاجرها أكثر إتساعا.. ورأس المنارة البيضوي وقد غدا خازوقا .. فرك عينيه، ثم راح يطمئن نفسه أنه ذات الوهم، وهم محض .
أنحنى مادا ذراعه، فأمسك بطرف الثوب ليكمل إنحساره حتى الخصر، وأي خصر رأى؟! .. لا .. هتف لنفسه: ليس خصرا أبدا، بل معجزة!! يحق لمبدعها أن يفخر بصنعها. مرت في الأثناء غيمة شفيفة على وجه القمر، فتبدى الجسد أمامه أزرق كأزرقاق لهب، أو كأمواه بحر..
نظر الى وجه بتول، أجفانها المنسدلة، أنفها المستدق، وجنتاها، وقد رسمتا ظل إبتسامة محيرة، شفتاها الشهيتان تينتين قرمزيتين ناضجتين، عنقها المتلألىء بلور صاف، وقد أطرت جانبا منه خصلة شعر منداة ينتهي طرفها بين تفاحتي صدرها النافرتين...، ياألهي، خاطب نفسه، لست أطلب شيئا أبدا، فقط أتركني لما تبقى من حياتي هنا..
يدري أو لايدري، بل، يريد أو لايريد، مضت أصابعه الى مثلث الكلسون، شاهرة الوسطى، التي أخذت تنزل ببطء ورهبة وإلتذاذ، عند رأس المثلث المقلوب والذي يتوج منبت الساقين، فتغور أبعد فأبعد في لدانة اللحم المترف الحار، .. هنيهات فقط وندت عن فم بتول آهة مديدة، ولكن في اللحظة ذاتها، بدأ الرضيع يجهش ثم يعلو صوته بالصراخ، فزع صاحبنا وأنكفأ ملدوغا هاربا, ليقرفص خلف المهد، كما لو كان جرذا مهددا بالهلاك.
لم يكن القمر ليرسل أي خيط من ضوء، حين سمع نحنحة الزوج مناديا:- بتول .. بتول .. أقعدي .. الطفل يبكي.
سمعها تتثاءب وتغمغم، ثم تدنو من المهد، تتناول الرضيع لتلقمه ثديها.
مستمرا بالقرفصة تمنى لوكان مكان الرضيع، يبكي كما بكى، لتدنو منه بتول فتضمه الى حضنها، حينئذ لن يعود خائفا أبدا.. تلقمه ثديها، حينئذ لن يعود جائعا أو ظامئا أبدا..
وفيما هو على هذا المنوال، ثقلت أجفانه وراح جسده مخدرا يطفو، قسما فقسما على وسائد مترفة من أحلام وردية..
في الفجر، ولحاف الليل يبدأ أنحساره، ليكشف عن دفعة أولى من نورالشمس، فيما مأذنة الجامع القريب أخذت تصدح: الله أكبــــــــــــر .. الله أكبر .. صحا مغمغما متثائبا، على لكزات توقظه..
كانت أمه، تسأله بإستغراب:
- خيرك بني؟ ماالذي جرى لك، تترك فراشك وتنام في حضني؟.





كاظم جماسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى