كاظم الجماسي - غوايات القص وحتوفه

لم يك هناك غيري، وحدي كنت أتلقى هسيسا مصحوبا بأخيلة مندفقة بنحو متتابع وكثيف، ولم يك معي سوى بضعة ظلال لأسماء، ظننتني أعرفها، ولم أكُ أعرفها..
هناك.. كنت وحيداً وعارياً من أيّما عاطفة، من أيّما فكرة، كما لو أنني نطفة محض في رحم الوجود، ليس في أفقها أبداً الرغبة في الحضور، مكتفية بحظها من الوجود، سوى أنها ظلت مأخوذة بالهسيس والأخيلة..
هلامٌ حاشدٌ بالضجيج يحيطني ماسكاً بأعنتي، يختلط بمحمولات تحتج وتدين وتعاضد وتناكف وتبكي وتضحك وتستكين، كما لو كانت حجرا من دون ملامح، أو بياضا أو سوادا بلا علامة فارقة، هلامٌ يختزن الكثير.. الكثير، في الوقت الذي يشخص فيه فارغا كما الجرة الفاضية الملصومة على حلقها..
في المنعطفات تكمن على الدوام غواية ما، تتبدى في نصاعة جيد مرمري أو طراوة نهد نافر أو تهدّل شفة فاغرة أو ملاس بطن ضامرة أو تكوّر إلية ترفة، غواية تومض على الدوام بدعوة للظفر...
في طريقي الذي اختارني ولم أخترْه، كانت المنعطفات بتناسلها المستمر، أشبه بشبابيك لقلعة شاخصة في فضاء من العدم، ما أن أنفذ من أحدى ضلفاتها، كما يحدث لأي كائن، حتى أهوي سراعاً نحو حتف قاتل.
ومن حتف الى غواية، ومن غواية الى حتف، مضت أيامي وأندلق عمري كماء في قدح طش فوق أرض سبخاء..
منها غواية أن أجمل قبح المرئي المعاش، كيما أستسيغ النظر إليه، مضيت مع الفرشاة وقبلها قلم الرصاص، ساقني الأخير في توقيعاته القطبية، سواء في فضاءات البياض أو في عتمات السواد، الى مفتتح للتيه... كانت وطأة القبح ثقيلة بما لا يضاهى ورهافة نبلة الرصاص..
ومن ثم اختارني اللونُ ليمنحني عدة جديدة للنفاذ خلل أسوار العيش، فلك أن تكون أزرقَ كازرقاق وجهِ ميت، في الوقت الذي يمكنك فيه أن تبحر مبتهجا مع فيروز الشطآن..
وكذا... لك أن تتماهى مع اصفرار شمس ما بعد الثانية ظهرا، معلنا سكون الوجود، في الوقت الذي يطوح فيك اصفرار شعر شقراء، كما لو كانت خصلات ذلك الشعر، حشد سنابل يغوي بالقطاف في شساعات حقول يانعة للقمح..
ومنها الى غواية أخرى، تصدمك كثافة اللغة, اقتصادها الشديد، ونفاذها المبهر الى معنى المعنى، يقول الجاحظ الكبير (خير الكلام ما قل و دل وجل وأفصح عن المعنى..) فيما ترتبط بوثاق عتيد نصوص الميثيولوجيا وتناصّات الكتب السماوية معها جميعا، لتكرس معنى (جلالة) كثافة اللغة ذاتها.. وراح رهط كبير من ممتهني الشعر يوغلون، امس واليوم وربما غداً، في الغطس أعمق فأعمق في مصاهر ذهب الكلام وفضته وربما (خشالتهما) للخروج بصيد يمنحهم خلودا مفترضا، وقد طأطأت منصاعا، إزاء هذا، تابعا لتلك الغواية، وبالنسبة لي، لو كان لها من فضيلة، فقد كانت التهذيب ومن ثم التهذيب لـما (يجل) من المعنى..
وما بعد ليس كل ما تريد قوله في الكثافة والاقتصاد، مُستطاع قوله، اليومي والواقعي بل والتاريخي مندلق كسيل هادر، هناك تفاصيل وهناك دقائق وصف، وهناك هذيانات، بل هناك فوضى، أن تكون كنّاسا في شارع بلا أية شروط إنسانية، أو موظفا في مكتب مكيف، وأيضا بلا أي اعتبار لإنسانيتك، الأمر سيان، ومن ثم سؤال الوجود الذي لا يسكن، بطرقه المتواصل، صاما الوجدان، من أين ولماذا والى أين؟
واحدة من تلك الغوايات بدت أكثر موثوقية من أخواتها، فقد شبه لي إنها ربما ستكون العزاء الأفضل لاغترابي وعزلتي، وقد صدقت حينها أن كل الآلام التي نكابدها، بوصفنا بشر، يمكن احتمالها لو قصصناها في قصة، كما أن استلابنا الواقعي، من لحظة أن ولدنا من دون اختيار وحتى لحظة أن نموت، يمكننا الاستعاضة عنه، بعون من تصديق الوهم، بواقع افتراضي يمكن للقصة أن تنهض بمهمة إقامته.
وفي الطريق الى (القصة) كان علي مكابدة الكثير من المشاق بل الحتوف، فكيف لي الوصول الى بيتها، وهي الغواية ذاتها؟ كانت تختبئ كهيفاء ناضحة بالفتنة خلف سنديانة مورقة تهمس لي: أن تعال، فأهرع مهتاجا، أصطدم بالجذوع، أو أرطم جبهتي بالحواف الباشطة للصخور، أو تتعالق ساقاي بتشابك أغصان وفروع الشجر، لأغدو من ثم محض رميم..
زوادتي في المكابدة والعناء، وأنا في الطريق الى( القصة) ما خلفه أسلافي، التكرلي وغوغول وخضير وتشيخوف وجنداري وأوهنري والأسدي وجويس وإدريس والقيسي ومحفوظ وخلف والبساطي وكريدي وطاهر والعبادي وتامر والمطير وشكري ومعيوف ...رهط مبدع يطول تعداد ذكر أسمائه، سكن البعض منهم بيت القصة واحتاز فتنتها، ورهط آخر تلاهم يجد في قص الأثر ورائهم مكدودا، عله يحظى ببعض مما حضي به أولئك الأسلاف..
النطفة التي هي أنا ظلت موثقة بوثاقات الرحم، الأبوين والأخوات والأخوة ومن ثم طامة الزوجة والأبناء، وتلك الوثاقات جميعها حتوف مؤكدة، لمن يفتش عما هو خارج التأريخ، الأمر الذي كلف نطفتي المستلبة حتى اللحظة الكثير الكثير..ولما كان الاستلاب والاغتراب قدر الإنسان، فله أن ينتقي واحدا من خيارين: العيش موهوما (ليس للمرء سوى أن يوهم النفس ويغويها فمن وهم الى وهم حتى مطلع الفجر) قال ما يشبه هذا سامي مهدي..أو ان يقتفي حكمة الساموراي بوضع نهاية لائقة لذلك الاغتراب و الاستلاب بالاختيار الخالص للمصير...إذ أن على العبد الذي إلف طاعة أوامر سيده طوال عمر عبوديته قولة (لا) مدوية في لحظة حاسمة قاطعة جازمة تعادل بالضبط سني حياته برمتها...
النطفة التي هي أنا.. طأطأت كثيرا عزة خيارها المفترض، وابتلعت الكثير الكثير من الذل والمهانة، وفعلت ذلك فقط من اجل وثاقية رحمها الذي يشتمل أيضا إنسانيتها، غير أن عفتها منعتها أبدا من الانصياع لأوامر السادة أيا كانوا، وارتضت الظل الحاسر النعمة والكفيف العيش سقفا لها.. أتساءل الآن: أيكون أذن حالها هذا أشبه بضلالة ما مادام الكائن يعيش مرة واحدة ليس إلا؟ وأجيب: كلا..فحتى لو كان ما اعتقدته جميعه وهما، إلا أنني أريد أن أكون جديرا به في كل لحظة، كما قال ما يشبه هذا كافكا..
النطفة التي هي أنا، تقول: أصغوا جيدا لما يقوله العشب... وترووا وتمهلوا فليس مشوار العمر بقصير أبدا، إنما الأطول والأشق منه هو الصدق، الصدق ليس إلا. وحين تكونون موقنين من هذا، ستفتح (القصة) ذراعيها على سعتهما لتضمكم الى صدرها الرؤوم...





كاظم جماسي
‎كاظم جماسي‎ is on Facebook. Join Facebook to connect with ‎كاظم جماسي‎ and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com www.facebook.com






كاظم جماسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى