محمد تركي الربيعو - "12عاما في السجون": دعوات مبكرة لإصلاح الزنازين العربية

تكشف لنا بعض الحفريات التاريخية في السنوات الأخيرة، عن وجود تجارب ونصوص مبكرة حول واقع السجون العربية، تعود لبدايات القرن العشرين. وفي هذه النصوص نعثر على دعوات إصلاحية عميقة لتحسين واقع حياة السجناء، كأفراد وبشر، وليسوا مجرد مذنبين.
ولعل هذا ما نراه في تجربة السجين محمود طاهر العربي، الذي قدم قراءة مبكرة في واقع وإصلاح سجون مصر، صدرت بعنوان (12 عاما في السجن). كان الطاهر العربي قد سجن في ما عرف بمؤامرة شبرا 1912، التي اتهم على أثرها عدد من الشبان المصريين بالتحضير لقتل الخديوي عباس حلمي الثاني. وعلى خلفية هذه الحادثة سيحاكم العربي مع زملائه بالسجن لخمس عشرة سنة. حينها لم يكن قد أتم الثامنة عشرة من عمره، مع ذلك وجد نفسه داخل أحد السجون الجنائية المخصصة للمجرمين، فاذا به كما يقول «بين أحقر البيئات.. طرحوا بي وسط فوضى الأخلاق، والاعتداء على الحقوق، وتغليب جوانب الحيوانية، ونسيان كل شريعة أو دين». هذا الواقع السيئ، سيدفع السجين العربي إلى تبني رؤية أخرى في مذكراته، فبدلا من وصف أوضاعه داخل السجن، وهو ما درجت عليه كل كتب المذكرات السياسية لاحقا، نراه يقرر عوض ذلك الخوض في واقع السجون في مصر، وكيفية إصلاحها، فقد وجد العربي أن المجرمين الجنائيين هم مرضى في نفوسهم، وأن الإجرام داء ينتاب تلك النفوس، وبالتالي على إدارة السجن البحث عن الأدوية والعقاقير التي تكفل شفاءهم. في حين يظهر الواقع كما يقول، إن الكثير من المجرمين يعودون للسجون بعد خروجهم بفترة من الزمن، يعودون إليها مرة أخرى، وهو ما يؤكد أن السجون في مصر لم تتبنَ فكرة الإصلاح الاجتماعي، واقتصرت على التفنن في تعذيب السجناء، ما فاقم من أوضاعهم النفسية. وكي يوضح فكرته هنا، قرر العربي في مذكراته، الكتابة عن فكرة السجون وتاريخ الإصلاحات في داخلها منذ أيام الرومان، مرورا بالإسلام، ولاحقا السجون في الغرب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وما عرفته من إصلاحات.

تاريخ عالمي للسجون:

لا يشير العربي في تأريخه للسجون إلى المراجع التي اعتمد عليها، إلا أن معرفته باللغة الإنكليزية، بالإضافة إلى الدقة والإسهاب الطويل والغني في الكتابة عن تجربة السجون الأوروبية والأمريكية أيضا، توحي بأنه اعتمد على مراجع عديدة، وهو ما يجعل نصه يحمل الصفة الإصلاحية العلمية.
يبدأ تأريخه للسجون منذ عهد الرومان، وهنا يرى أن السجون في هذا العالم كانت عبارة عن غرف، أو قاعات غير منظمة تطلق فيها للمساجين حرية مواجهة أقربائهم وأصدقائهم، كما تتضح من كتابات سقراط. ويضيف في هذا الشأن، أن كتب الديانة المسيحية، وتاريخ الكنيسة تشير إلى أنه كانت توجد سجون في كل مدينة من مدن الإمبراطورية الرومانية. وكان الرومان يهتمون بتنويع معاملات مسجونيهم، حسب استحقاقهم، ويقيمون مأمورين بيدهم سجلات يقيدون فيها أعمار مسجونيهم وعددهم والذنوب التي ارتكبوها، والمعاملة التي ينبغي اتباعها معهم. ينتقل العربي بعد ذلك للحديث عن السجون في الإسلام، ويعتقد في هذا السياق أن فكرة السجون لم توجد حتى خلافة عمر بن الخطاب، الذي اتخذ محبسا كبيرا، وخلفه في ذلك سائر الخلفاء، ولم تزل آثار سجون العباسيين في بغداد. يقف لاحقا عند تجربة العثمانيين في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ويرى هنا أن تجربة السجون في إسطنبول قد تحسنت بعيد التنظيمات الأخيرة (في إشارة ربما للحركة الدستورية 1908). وسيلاحظ في مصر، أن البلاد شهدت مع بدايات القرن العشرين زيادة ملحوظة في عدد السجون الجنائية، وهو ما يرده لـ»انتشار روح الفساد.. ولا شك في أن جريرة ذلك إنما تقع مسؤوليتها على الحكومة والأمة على السواء». إلا أن أكثر ما يقلقه ليس انتشارها فحسب، وإنما أيضا عدم قدرتها على إصلاح وتهذيب السجناء، ولذلك نراه يركز في تتبعه لتاريخ السجون على فكرة الإصلاح في التجربة الغربية. ومما يراه هنا، أن الرومان كانوا قد اهتموا بأمر إصلاح السجون، والالتفات إلى حالة المسجونين، ولما سقط الرومان رجعت السجون في أوروبا إلى أسوأ حالاتها. وهكذا، ففي إنكلترا، كانت السجون في أسوأ الأحوال، إلى أن قام جون هوارد، وطالب بإصلاحها. فتقرر سنة 1774 قانون بإلغاء الرسم الذي كان يؤخد من المسجونين، ونشر هوارد سنة 1777 مؤلفا بحالة السجون في إنكلترا وويلز. لكن بموازاة هذه الإصلاحات، يبدو العربي متنبها أيضا إلى أن الانكليز ظلوا يتعاملون أحيانا مع السجناء بأساليب قاسية، وهو ما نراه مثلا من خلال سياساتهم التي اخترعوها سنة 1619، وتقضي بإرسال مئة مجرم إلى ولاية فرجينيا الأمريكية، وهناك يبيعونهم لأصحاب الأملاك، وفي سنة 1786 تقرر أمر إنشاء مستعمرة للمجرمين في أستراليا، وأرسلوا إليها أول مرة 850 مجرما سنة 1787، أنزلوهم قرب سيدني. فمات منهم كثيرون بالأمراض، ومن وصل منهم سالما إلى استراليا أنهكه الجوع لتعذر وجود الوسائل، وظلوا كذلك إلى أن ازداد عدد المهاجرين في أستراليا، فوجدوا لهم عملا في بناء المدن الجديدة، ورعاية المواشي والخدم، ثم أخذت الحكومة تساعدهم، وتهبهم أملاكا عند انتهاء مدة عقابهم.

تاريخ الزنازين الانفرادية

يكمل العربي في تأريخه للسجون حول العالم، ويبدو أحيانا في اختياره لبعض الزوايا، أنه كان يحاول ربطها بالواقع والصور التي شاهدها في سجون مصر.
ويرى العربي أن فكرة الزنازين الانفرادية ظهرت بقصد تحسين شؤون السجناء، ولذلك نرى قيام الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء بعضها بعد تقرير قانون سنة 1790 الحاكم بالسجن الانفرادي على الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة. وكان نظام هذه الزنازين يقضي بانفصال السجناء ليلا ونهارا كل مدة سجنهم، بينما تبدو التجربة مختلفة في هولندا، إذ قضى السجناء مدتهم معا، وأكلوا في قاعات أكل عمومية. وهناك طريقة سجن ثالثة، وهي طريقة أيرلندا، وتبدو للعربي الأكثر نجاعة وإصلاحا لحياة السجين، وتقوم على ثلاث مراحل: الأولى يجري فيها وضع السجين في غرفة انفرادية لمدة تسعة أشهر، يقضي قسما كبيرا منها في التعليم الديني. وبعدها يتاح له الخروج الى محلات أوسع، وإذا اكتسب السجين ثقة القائمين على أمره، بحسن سلوكه يرتقي منها إلى الدرجة الثالثة، فيكون له نوع من الحرية المطلقة، فلا يعارض في شيء من أعماله، ويشتغل مع رفاقه، ويمنح أيضا تخفيضا في مدة سجنه إذا داوم على حسن سلوكه.
ولذلك يبدو العربي أحيانا معترضا على بعض الأعمال الشاقة في السجون المصرية، التي في رأيه تفاقم وتعزز من عدوانية السجين، ولذلك يذهب لتعريف القارئ بسجلات العقوبات في السجون الأوروبية والأمريكية، انطلاقا من أن هذه الخلفية قد تساعد وتدعم رؤيته الإصلاحية لتحسين ظروف السجن المصرية. ولا ينسى الإشارة أيضا إلى ضرورة تحسين الواقع الطبي في السجون، ولذلك يعقد مقارنة بين واقع السجون الأوروبية التي وفرت للسجناء في ظل الإصلاحات التي عاشتها، ظروفا جيدة للحصول على العلاج والأدوية، بينما نرى في سجن مصر العمومي أن العيادة توضع في محل تحت السماء لا فراش فيه، ولا سقف. يطرح المريض فيه على الأرض، سواء أكان ذلك في الشتاء أو الصيف، وفي الغالب لا يقدم للمريض الطعام الكافي، وفي حال اشتكى من ذلك يكون الجواب من الطبيب « هو أنت معزوم عندنا في لوكاندة (فندق) يا ابن الكلب». وكان إذا مات السجين في المشفى نقل إلى المشرحة، وقد ترسل الجثة أحيانا إلى مدرسة الطب لإجراء تشريحها بمعرفة الطلبة.
ويحسب لمذكرات العربي عن السجون المصرية، أنها حاولت تقديم رؤية مبكرة حول ضرورة إصلاح السجون العربية، ولذلك فإن نصه لا يحمل فقط آثار أدب السجون السياسية، بل أيضا يمكن اعتباره واحدا من النصوص الإصلاحية المبكرة في العالم العربي. وأسلوبا فريدا أيضا في الكتابة عن ذاكرة السجون، وهو أسلوب سيختفي لاحقا بسبب العنف الذي عاشه السجناء في شرق المتوسط، ما جعلهم يركزون أكثر على عوالم الوحشية التي أخذ يعيشها المعارضون والأفراد العاديون في دولة ما بعد الاستقلال العربية.

كاتب سوري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى