كاظم جماسي - نرد بوجهتين

في رواحه وعودته متبضعا من السوق، كل يوم وطوال سنوات ضنك الحصار، يتوقف عند الكشك الذي أتخذته سكنا وفي الوقت نفسه، عملا لبيع لعب الأطفال المستعملة، يشتري مني عددا من اللعب، وقبل أن يدفع ثمنها، يسألني ذات السؤال في كل مرة: كم سعر قنينة العرق اليوم؟ وحين أخبره، ينقدني ضعف ثمن ما اشتراه، ويمضي مقهقها مرددا ذات العبارة: عش يومك .. عش يومك ..
ذات ليلة، أباحت لي ونحن على السرير، نجية الأرملة التي تقوم على خدمته ساعات محددة من النهار، وتزورني ساعة أو أكثر في جوف الليل، أن الشيخ قضى في الأسر ما يزيد على الثلاثة عشر عاما، وأنقطعت، أبان السنوات الأولى من أسره، أخباره عن ذويه، حتى حسبوه" شهيدا"، ولما عاد فوجىء مصعوقا بزواج أخيه من زوجته، وقد فكت مع الأخير عقدتها المستعصية في الإنجاب، وصار لها، مع زوجها الجديد، نصف دزينة من صبايا وصبيان ..
حين تيقن صاحبنا مما حدث، فضل أن يظل" شهيدا" في إعتقاد ذويه، فغادرمن فوره والى الأبد مدينته الجنوبية ولجأ الى مدينتنا، مرتزقا من مهنة العرافة والسحر.
كنت قد شرعت بفتح دكاني ـ مسكني ضحى هذا اليوم، ولم أكد أكمل توضيب بضاعتي أمام الدكان، حتى قدمت نجية راكضة، ثوبها الصيفي يلتصق، بنحو مثير، على مكورات صدرها وبطنها وفخذيها، الأمر الذي كادت تتكسر له رقاب الذكور، الملتفتين اليها، في السوق جميعهم، فضلا عن حسد وحقد الأناث .. أستغربت: - خير .. ماالذي جاء بك؟
ـ حال الشيخ جد سيئة، يريد حضورك
أجابت لاهثة.
هرعنا معا أليه، وجدناه لما وصلناه، هيكلاً عظميا بجلد شاحب مسجى على السرير، أشار لنجية أن تخرج، لنبقى منفردين معا في الغرفة، غاب بعدها في إغفاءة .. جلت بناظري في المكان، بمحاذاة السرير تماما حائط مثقل برفوف لعب الأطفال، تذكرت أن نجية قد أخبرتني حين سألتها مرة لمن يشتري الشيخ كل هذه اللعب؟ أجابت: يقسمها حصتين حصة يحتفظ بها لنفسه، والآخرى يهبها لأبني. ولم يك حمودي أبنها قد بلغ عامه الأول، حين توقفت سيارة" الكروان"، قبل ثلاث سنوات، أمام باب دارهما حاملة نعش أبيه المكفن بالعلم الوطني.
..
حيطان الغرفة الأخر كانت مكسوة جميعها بقماش ساتان أخضر لامعا، وفي المنتصف من أرضية الغرفة، مبخرة متوسطة وعليها أحجار فحم متوهج، لم تزل تفح دخان بخور عابق الرائحة، فيما نافذتها الصغيرة، بزجاجها المطلي بالأخضر أيضا، مقفلة تماما، ما جعل جو الغرفة معتما ثقيلا خانقا، سارعت الى فتح النافذة، لعل ثمة أوكسجين وبعض حزم ضوء نهارية ينعشان جسد الشيخ الراقد .. سألته إن كان علي نقله الى المشفى، أشار ب" لا"
تحسست جبهته فكانت ملتهبة، طلبت من نجية جلب طاسة ماء بارد ومنشفة، ورحت أبلل وجهه أكمله، بعد دقائق فتح حدقتيه حد سعتيهما متسائلا: أين أنا؟ تحرى ببصره الإتجاهات جميعها، وأنتهى ناظرا وجهي، هز رأسه برضا ثم
أمسك بيديه كفي كلتيهما وراح يبحر في عيني، بعينيه المضمحلتين المزروعتين أسفل جبهته المخددة بالتجاعيد، تصدران ومضا غريبا، يهم بكلام يتحشرج في بلعومه، يريد أن يخرج ولا يخرج .. جسده الذاوي يرتجف بشدة، على الرغم من ثقل البطانية التي يلتحفها في عز حر آب.
ـ لعبة .. سمجة .. لعبة سمجة ..
انتبهت الى صوته آتيا من غور عميق، وثمة إشراقة نطقت فوق سحنة وجهه وحبات عرق تلألئت على جبينه، فيما شاربه ولحيته الكثان، راحا يرتعشان بوضوح .
- خذ .. المفتاح .. المعلق .. على صدري. قال بصوت خافت. أزحت قليلا طرف البطانية عن أعلى هيكل أضلاع قفصه الصدري، وخلصت بحذر وبطء الخيط الذي يحمل المفتاح من رقبته البالغة النحافة، وأعدت دثاره، لدقائق غشيته غيبوبة ..
وأنا، برما، أنتظر منه أمرا آخر، فز يقظا يسألني:- هل أنت متزوج؟ .. أجبته بلا.
- إياك .. إياك .. ستجني على نفسك وعلى آخرين .. قال ثم أضاف:- .. الصندوق كله لك .. وأشار الى ما خلف رأسه.
لم أكن قد أنتبهت لوجوده من قبل، صندوقا خشبيا كبيرا كان، يحتل الزاوية لصق السرير، صندوق عتيق، بدا لي خشبه من الزان مطليا كله بطلاء أسود مائل الى الحمرة كما القار، ترصعه، متناغمة، رؤوس مسامير فضية ..
انتبهت إلى الشيخ تعصف به، قشعريرة حادة، فيما مسامات جلده تنث عرقا غزيرا، لم يلبث حتى مد يمناه المرتعشة فأمسك بكف يدي، رفعها الى فمه، حاول أن يبقيها ساكنة على شفاهه، تمتم ببضع كلمات لم أفهم منها شيئا، وبادلني نظرات طفحت بحنو وتوسل لايوصفان، ثم سكن بعدها تماما.
لما أيقنت أنه مات، سحبت يدي من فوق فمه، ساهما أخذت أنظر إلى قسمات وجهه وقد أرتسم بوضوح ظل إبتسامة سخرية مرة ..، بينما عادت جبهته، كما جبهة طفل غرير، رائقة صافية نقية تبث شعاعا غريبا ..
فكرت: ماذا علي أن أفعل الآن؟ .. فورا توجهت الى الصندوق، صر عاويا حين فتحته، رأيت كتابا بحجم سجل كبير، ذو غلاف من الجلد منقوش بزخرف بديع مبهر، خط في أعلاه" كتاب الجفر" ..والى جواره عدد آخر من الكتب وعدد من المحابر و قصبات خط، في جهة أخرى علبة معدنية عريضة مغلقة بغطاء زهري، رفعت الغطاء فوجدتها ممتلئة بأصناف من فصوص الاحجار الكريمة والمسابح والخواتم، بينما تحتل قاع الصندوق، معظمه، حقيبة سفر كبيرة، سحبت زنجيلها فبدت مختنقة برزم مال كثير .. بالكاد أخرجت الحقيبة ودحست الكتاب وعلبة المسابح والخواتم في عبي، ثم ألقيت نظرة أخيرة في جوف الصندوق، ولما لم يكن هناك ما أنا بحاجة اليه، أنزلت الغطاء وأعدت القفل محله .
وأنا في طريقي خارجا، قذفت بمفتاح الصندوق حيث جثمان الشيخ.
كانت نجية، وسط الحوش في إنتظاري ، واقفة متخشبة كما تمثال، قبالتها وقفت، فتحت الحقيبة بصمت، منحتها عددا من رزم المال، ومفاتيح دكاني، فيما ظلت تبحلق بوجهي، معقود لسانها بدهشة نطقت بها عيناها، تركتها وغادرت.
لم يكن غير إيقاع متصاعد مموسق يصدح في دخيلتي، تتمايل على وقع انغامه انحاء جسدي جميعها، وانا أرتقي سلم الطائرة:
عش يومك .. عش يومك ..

كاظم جماسي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى