د. أحمد الحطاب - المنظومة التربوية.. -ملف-[ج2] (12...26)

تابع[2]


12- إضراب نساء ورجال التَّربية والتَّعليم، إضرابٌ له مُبرِّراتُه

أولا، ما يجب التَّذكيرُ به هو أن الاعتناءَ بوضعِ هيئةَ التَّدريس اجتماعيا وماديا هو الشرطُ الأساسي لنجاح المنظومة التَّعليمية والتَّربوية في أداء مهامهما.

ثانيا، ما يجب أن أستهلَّ به هذه المقالة، هو لماذا نقول "التَّربية والتَّعليم"؟ لأن هناك خلطاً واضحاً بين هذين المفهومين، لا من طرف المسئولين ولا في الوسط المدرسي. مفهومان يكتسيان أهمِّيةً بالغة لإدراك ما يجري داخلَ المدرسة، وبالأخص، داخلَ الأقسام.

التَّعليمُ عبارة عن عمليةٍ أو عمليات تتِمُّ بين شخصٍ يعرف أو له ما يكفي من المؤهِّلات ليعرف celui qui connaît ou qui possède les pré-requis pour connaître وشخصٍ آخر لا يعرف أو يريد أن يعرفَ أو يطمح ليعرف celui qui ne connaît pas ou celui qui veut ou souhaite connaître. وبعبارة أخرى، التَّعليم هو عمليةُ نقلِ المعرفة من المدرس إلى المتعلِّمِ.

أما التربية، فهي مسخَّرةٌ مباشرة لتكوين أو لبناء شخصية المتعلِّم. والدعامة الأساسية للتربية، أي لبناء شخصية المتعلِّمِ، هي المعرفة، أو بالأحرى، طريقة نقلُ المعرفة. وحتى يكون نقلُ المعرفة، في آنٍ واحدٍ، تثقيفاً وتربيةً، كل الثِّقل يقع على عاتق المدرس الذي هو مُطالبٌ بأن يختارَ الطريقةَ الملائمةَ لهذا النقل.

من هنا، يتَّضح الدَّورُ الأساسي للمدرس في التثقيف وفي بناءِ شخصية المتعلِّمين، في آنٍ واحدٍ. وكل معرفةٍ، منقولة من المدرس إلى المتعلِّمين، لا تدخل في هذا السِّياق، فهي مجرَّد حشوٍ للأدمغة ولا تسمن ولا تغني من جوع. وهذا يعني أن المدرِّسَ، في آنٍ واحدٍ، مُعَلِّمٌ (يُمارس التَّعليم) ومُربِّي (يُساهم في بناء شخصية المتعلِّم).

وللتذكير كذلك، الحياة اليومية والحياة العملية لا تشتغلان بالمعرفة المجردة، أي االمنعزلة عن الواقع المعاش. وبعبارة أوضح، المجتمع ليس في حاجة إلى أدمغة محشوة بمعارف لا تسمن ولا تغني من جوع. المجتمع يتطوَّر. وتطوُّره هذا في حاجة إلى أجيال لها ما يكفي من الفكر النقدي esprit critique ومن التّحرُّر الاجتماعي والتَّفتُّح الفكري émancipation sociale et épanouissement intellectuel. هكذا تسير وتُسَيَّرُ الحياةُ اليوميةُ والعمليةُ، وخصوصا أن المعرفةَ تتطوَّر وتتغيَّر بسرعة فائقة يصعبُ على المدرسة مواكبتُها.

إذن، المجتمع، بحُكم التَّغييرات المتسارعة التي يعرفها، في حاجة إلى متعلِّمين قادرين على التَّأقلُم والتكيُّف مع هذه التَّغييرات. وأحسن طريقة للوصول لهذا النوع من المتعلِّمين، هو أن تُكرِّسَ المدرسة جهودَها لتمكين المتعلِّمِ من "أن يتعلَّمَ كيف يتعلَّم".

ومن هنا، يظهر، بكل وضوحٍ، الدَّورُ، التَّعليمي والتَّربوي، المُلقى على عاتق المدرس. وهو الدور الذي، إلى حدِّ الآن، لا تريد، وأقول وأعِيد، لا تريد أيَّةُ حكومةٍ من الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، وبالأخص، الوزارة الوصية، أن تستوعبه وتكرِّسَ جهودَها لترسيخه وجعله واحدا من ثوابت المنظومة التَّعلمية والتَّربوية للبلاد. ومن هنا، يظهر كذلك فشلُ الإصلاحات التي خضعت لها المنظومة التَّعلمية والتَّربوية بدون جدوى. من هنا، تظهر كذلك المرتبة المُتأخِّرة التي تحتلها منظومتُنا التَّعلمية والتَّربوية في التصنيفات العالمية. ومن هنا، نقف كذلك على نقائص هذه المنظومة من خلال اختبار مكتسبات المتعلِّمين التي يُظهرُها برنامج PISA.

وعِوضَ أن تجعل الحكومات المتعاقِبة على تدبير الشأن العام، هيئةَ التَّدريسِ في قلب الإصلاحات المتتالية، فإنها تصدَّت لهذه الهيئة بإخضاعِها لنظام أساسي خاص بها دون التفكير في وضعِها المادي الذي لا يبعث على الارتياح. إنه، فعلا وفي الحقيقة، أمرٌ مثيرٌ لشيءٍ من الغرابة والتساؤل!

فإذا لم تُدرك الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، وخصوصا الوزارة الوصية، أن هيئةَ التَّدريس هي حجرُ الزاوية لنجاح أية منظومة تربوية في أداء مهامها، فإن أي إصلاح لهذه المنظومة هو بمثابة "صَبِّ الماء في الرَّمل".

وحتى نتفادى "صَبَّ الماء في الرَّمل"، هناك، في نظري، شرطان أساسيان، لا محيدَ عنهما، يضمنان، كما سبق الذِّكرُ، نجاحَ المنظومة التَّعلمية والتَّربوية في أداء مهامها. هذان الشرطان الأساسيان يتمثلان في تكوينٍ رفيعِ المستوى للمدرسين والاعتناء بوضعهم الاجتماعي والمادي.

مما لا شكَّ فيه أن تكويناً ذا جودة عالية للمدرسين، سينعكس إيجابيا على جودة تَعَلُّمات المتعلِّمين. لأنه، كما يُقال، فاقد الشيء لا يُعطيه. والمقصود بتكوينٍ عالي الجودة، هو تكوين يجعل من المدرس، ليس فقط مبلِّغاً ماهرأً للمعرفة، ولكن كذلك مُساهِماً، من خلال هذا التبليغ وإلى حدٍّ بعيدٍ، في تكوين أو بناء شخصية المتعلِّمين. لأنه، كلما كان تكوين المدرس ذا جودة عالية، كلما استفاد المتعلِّمون من هذه الجودة. وكلما كان تكوين المدرس ذا جودةٍ عاليةٍ، كلما تحسنت العلاقةُ البيداغوجية بين هذا الأخير والمتعلٍّمين. علاقةٌ مفيدةً ولها وقعٌ إيجابي على تكوين أو بناء شخصية هِؤلاء المتعلِّمين…

وباختصارٍ شديدٍ، جودة التَّعليم والتَّربية أو، بالأحرى، جودةُ ما يقدٍّمه المدرِّسُ من خدمات داخلَ الأقسام رهينةٌ بجودة تكوين المدرسين. وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أن أباءَ وأولياء المتعلمين لا يتصوَّرون المدرسةَ إلا من خلال جودة أداء مهامها اجتماعيا، تعليميا وتربويا. وتجدر الإشارةُ كذلك إلى أن المدرسَ هو المحرِّك الأساسي لما يجري داخلَ الأقسام. فهو الذي يُترجِم البرامج التَّعليمية إلى أنشطةٍ بيداغوجية. وهو الذي يُكيِّف تدخُّلاتِه داخلَ الأقسام مع تطلُّعات المتعلِّمين. وهو الذي يؤثِّر على شخصية المتعلِّمين ويُسانهم في بناء قدراتهم أو نموّهم المعرفي développement cognitif. وهو الذي يقودهم نحو التَّفتُّح والتَّحرُّر الفكريين. وفضلا عن كل هذه الأشياء، المدرس هو الذي يفكِّر في تحسين تواصله مع المتعلمين ويسعى إلى تهذيبهم وتعليمهم وتبليغ المعارف لهم وتربيتهم وتسيهيل تعلُّماتِهم…

وليقومَ المدرِّسُ بهذه المهام المتعدِّدة والمختلفة، من الصعب عليه أن يعتمِدَ فقط على موهبتِه sa vocation. إن هذه الأخيرة، رغم أهمِّيتِها، غير كافية. بالفعل، عندما يتدخَّل المدرسُ داخلَ القسم، فإنه في حاجةٍ إلى نظريات وممارسات وطرقٍ… تنتمي إلى العديد من حقول المعرفة كالبيداغوجيا pédagogie والديداكتيك didactique وعلمُ النفس psychologie وعلم النفس التَّربوي psychopédagogie والإبستيمولوجيا épistémologie ونطريات التَّعلُّم théories d'apprentissage وعلم التَّواصل communication ومَلَكَةُ التَّعرُّف cognition… الموهبة وحدها لا تكفي لامتلاك كل هذه المعارف. من هنا تظهر أهمِّيةُ تكوين المدرسين تكوينا رفيعَ المستمى وعاليَ الجودة، علما أن هذا التَّكوين هو مُكمِّلٌ للموهبة…

إلى جانب تكوين المدرسين تكوينا عاليَ الجودة، يجب الاعتناء بوضعهم الاجتماعي والمادي.

من الناحية الاجتماعية، يجب أن تحظى مهنة التَّدريس أو مهنةُ المدرٍّس بالمكانة التي كانت تحظى بها خلال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. كان المدرس عنصرا يحظى بالاحترام والتَّقدير من طرف المجتمع. كما كان يساهم، بمعِية الأسرة، في تهذيب المتعلِّمين، سواءً داخلَ المدرسة أوحارجها.

من الناحية المادية، كان على الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، أن تُدركَ أن المنظومة التَّعليمية والتَّربوية هي التي تبني مستقبلَ البلاد، من خلال ما تُنتِجه من أجيال حاملة لفكرٍ نقدي وللقيمات المضافة التي تمكِّنها من المساهمة، مساهمةً فعالة، في تقدُّم البلاد وازدهارها. بل تُساهم في خلق الثروة الكفيلة بضمان كرامة عيش المواطنين. وتتجلَّى هذه القيم المضافة، أولا وقبل كل شيءٍ، في المواطنة citoyenneté وحبِّ الوطن patriotisme.

وما لم تُردْ الحكومات السابقة إدراكَه، فعلى الحكومة الحالية واجبُ إدراكه لأن الأمرَ يتعلَّق بمصير بلادٍ بأكملها. وأول ما يجب عليها أن تُدركَه (ولا شكَّ أنها، هي وسابقاتُها، يدركون كل الأشياء) هو أن الراتبَ الشهري الذي يتقاضاه المدرِّسُ، إضافةً إلى تكوينه تكوينا عالي الجودة، هو بمثابة محفِّزٍ قوي لهذا المدرس ليكونَ في مستوى المهام التّعليمية والتَّربوية الملقاة على عاتِقه.

وعليه، فمن واجب الحكومة الحالية، إن هي أرادت وتريد الخيرَ للبلاد، أن تكونَ الرواتب الشهرية للمدرسين متساوية مع الرواتب الشهرية المخصَّصة للأطر العليا cadres supérieurs للبلاد. في هذه الحالة، فإن مهنةَ التَّعليم ستستقطِب أحسن العناصر المتخرٍّجة من المدارس والمعاهد العليا وأحسن العناصر المتخرِّجين من الكلِّيات. وهدا ليس كلامٌ أتٍ من فراغ! لقد بيَّنت الدراسات، وخصوصا تالك التي تقوم بها منظمة التَّعاون والتنمية الاقتصادية OCDE، أن أحسنَ وأنجعَ وأجودَ المنظومات التَّربوية هي تلك التي تُخصِّص لمدرِّسيها أعلى الرواتب.

فمن واجب الحكومة، كيفما كانت توجُّخاتُها السياسية، أن تختارَإما تقدُّم البلاد وازدهارَها اجتماعيا، ثقافيا، اقتصاديا، علميا، تكنولوجياً، صناعيا، زراعيا… وإما أن تستمر في تمويل منظومة تعليمية وتربوية مُدخلاتُها جَشِعة ومُخرجاتُها ضعيفة جدا. والاستمرارُ في تمويل غولٍ جَشِعٍ هو بمثابة الاستمرار في إضعافِ هذه المنظومة، وفي نفس الوقت، الاستمرار في هدرِ المال والزمن المدرسي، التَّعليمي، التَّربوي والتًّنموي للبلاد! لأذُنٍ دقيقةِ الاستماعِ، تحيةٌ A bon entendeur salut.


***

13- مآلُ مُرتكزات السياسة التَّعليمية مباشرةً بعد الاستقلال

مباشرةً بعد استقلال البلاد سنة 1956، كانت السياسة التَّعليمية ترتكز على أربعة مبادئ هي : التوحيد، التعميم، المَغرَبة والتعريب.

التوحيد unification يعني توفير نموذج تعليم واحد يتساوى أمامه المواطنون بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي، أي التعليم العمومي المجاني. تعليم مُنصف يضمن الجودةَ وتكافؤ الفرص للجميع، لا فرق فيه بين الغني والفقير. هل تحقق التوحيد؟ من قال ويقول نعم، فإنه بكل بساطة يعيش في كوكبٍ آخر. لماذا؟

لأن الواقع ضَربَ ويضرِب عرضَ الحائط هذا المبدأ! ودون الدخول في التفاصيل، عندما أصبح التَّعليم بِضاعةً تُباع وتُشترى أو بِضاعة قابلة للاستثمار، أصبح المغاربة أمام نوعين من التَّعليم : تعليم للفقراء وهو التعليم العمومي المجاني وتعليم للأغنياء والميسورين وهو التًعليم الخصوصي. وحتى هذا الأخير فيه درجات : تعليم خصوصي للطبقة الراقية من مدارس عليا وجامعات أجنبية حطَّت الرحالَ بالبلاد، تعليم خصوصي للطبقة المتوسِّطة المُضحِّية بالغالي والنفيس من أجل مستقبل فلدات أكبادها وتعليم خصوصي منتشر في الأحياء الشعبية يُنهك إلى حد كبير القدرة الشرائية لمَن يُرسلون إليه بناتِهم و أبناءَهم، فارِّينَ من التعليم العمومي الذي تدنَّت سُمعتُه إلى أقصى حدٍّ. ولا داعي للقول أن تساكنَ هذه الأنواع من التعليم زمانا ومكانا وَأدَ وقتلَ ودَفَن إلى ما لا نهاية مبدأ تكافؤ الفرص. ناهيك عن أن التَّعليم الخصوصي متروكٌ لحاله يتصرَّف فيه المستثمرون (جلُّهم تجَّار الشكارة) كما يشاؤون.

التَّعميم généralisation يعني أن تكونَ المدارسُ في متناول فَلدات أكباد progénitures المواطنين على الأقل مند سِنِّ التَّمدرُس إلى غاية سن 15 سنة للاستفادة من التعليم الأساسي الإجباري. عن أي تعميم نتحدث والعديد من الأطفال يقطعون يوميا مسافةَ الكيلومترات للالتحاق بالأقسام برداً، شتاءً و حرّاً. عن أي تعميم نتحدث والسلطة الوصيَّة على التعليم لا تُحرِّك ساكنا عندما لا تُحترم إجباريةُ التَّعليم الأساسي. وعن أي تعميم نتحدث عندما لا تتوفَّر العديدُ من المدارس على أدنى شروط الدراسة. والتَّعميم لا يجب أن يُختَرلَ في نسبة التَّمدرُس (في غالب الأحيان، تقترب من 100%) وأرقام جافة لا تعني أيَّ شيء إذا لم يتم تحليلُها تحليلا عقلانيا. ما يهمُّ في تَعميم ناجع، هو ما هي نسبة المتمدرسين الذين ينتقلون من المرحلة الابتدائية إلى مرحلة الثانوي الإعدادي، ومن الإعدادي إلى التأهيلي، ومن التأهيلي إلى العالي. وما يهمُّ كذلك، هو ما هي نسبة الطلبة الذين يُنهون دراستَهم العليا بالحصول على شواهد. فإذا قارنا هذه النسبة مع الأفواج الضخمة التي تلتحق سنويا بالتعليم الابتدائي، فسنجد أن المنظومة التربويةَ تعاني من هدرٍ كبيرٍ ومُخيفٍ. ما يجب استنتاجُه هنا، هو أن مبدأ التَّعميم لم يُؤتِ أكلَه رغم الجهود المبذولة من طرف السلطة الوصيَّة على القطاع.

المَغْرَبَة marocanisation تعني حُلولَ مُدرِّسين مغاربة مكانَ المدرِّسين الفرنسيين الذين كانوا يعملون بالمدارس المغربية أثناء الحِماية وإلى غاية الثمانينيات. المغربة ضرورية وإجبارية تفرضها المواطنة وحب الوطن. لكن أن تتِمَّ بدون بُعد تظرٍ ورؤية واضحة، فإنها تصبح وبالاً على المنظومة التربوية تُعرقل سيرَها نحو الجودة والنجاعة. عن أية مغربة نتحدث وأفواجُ من المُدرِّسين بأكملها لم تخضع لأي تكوين لا أساسي ولا تربوي. وإن خضعت للتَّكوين، فغالبا ما يكون هذا الأخير قصيرَ المدَّة لا يُغني ولا يُسمن من جوع. والطامة الكبرى أن هذه الأفواج بقيت عشرات السنين تُمارس مهنةَ التَّعليم بدون تكوين يُذكرُ وبدون تداريب دورية. فمن يؤدِّي ضريبةَ هذا الإهمال أو دعونا نقول التَّسرُّع في اتٍّخاذ القرارات؟

إنهم بكل بساطة المتعلِّمون، ومن خلالهم، المجتمع، ومن خلاله، البلاد برمَّتها. أليس هذا تهوُّرٌ واستخفافٌ بالمسئولية وعدم مراعاة مصلحة البلاد؟ لا أزال أتذكر الأفواجَ الهائلة من المصريين والجزائريين والرومانيين الذين استقطبتهم وزارة التربية الوطنية من أجل التدريس بالمدارس الثانوية المغربية. لماذا؟ بكل بساطة، هذا الاستقطاب ناتج عن التَّسرُّع في اتِّخاذ القرارات. إن المَغربةَ، كمبدأ وطني مشروع، شابَها قدرٌ كبيرٌ من الارتجال وعِوَض أن تساهمَ في نجاعة المنظومة التربوية، فإنها كسَّرتها إلى حدٍّ كبير. وحتى لما فطِنت السلطة الوصية وأدركت أهميةَ التَّكوين وأنشأت العديدَ من مراكز التكوين، فإنها لم تتخلَّص من الارتجال. والدَّليل على ذلك، أن هذه المراكز أصبحت تكوِّن، وخصوصا في الثمانينيات، أعدادا هائلةً من المدرِّسين تفوق بكثير الحاجات الحقيقية للمنظومة التربوية. فأٌغرِقَتْ المؤسَّسات التعليمية بالمدرِّسن الفائضين.

التعريب arabisation يعني بكل بساطة استعمال اللغة العربية كلغة للتدريس في جميع مراحل التعليم. وأول مُحاولة للبدء في التَّعريب كان قد قام بها المرحوم محمد الفاسي سنة 1960 لما كان وزيرا للتربية الوطنية. كانت هذه المحاولةُ تهدف إلى تعريب المرحلة الابتدائية لكنها فشلت فشلا ذريعا. التعريب شيءٌ مرغوبٌ فيه ولا جدالَ في تبنِّيه. لكن، إذا انطلق حصريا من مُرتكزات غير علمية وغير مضبوطة كالوطنية patriotisme والعروبة arabisme والقومية العربية nationalisme arabe...، فمآله الفشل وبالأخص، فشل المنظومة التربوية. و هنا، يُطرح السؤال الذي لا مفر ّمنه : هل المنظومة التربوية، بالأمس واليوم، مهيَّأة لتصبح مُعرَّبة برمَّتها؟ كل إنسان عاقل، بعيد النظر ويحب الخير لبلاده، سيقول : لا! لماذا؟

لأن استعمالَ اللغة العربية في التدريس يعني أن هذه اللغة نفسَها مهيَّأة ومُؤهَّلة لتقوم بهذا الغرض. والحقيقة أن هذا التهييئ لم يكن مُتوفِّرا لا بالأمس ولا اليوم. والتهييئ يبدأ أولا وقبل كل شيء ومنطقيا بتوفير المصطلحات وخصوصا منها العلمية، التي هي أساس لغة التدريس. كما يتطلَّبًُ التهييئ توفيرَ المراجع الخاصة بالمتعلِّم والمدرِّس إضافةً إلى تكوين المدرِّسين. كل هذه الأمور تعاملت معها السلطة الوصية بتهوُّرٍ و تسرُّعٍ في اتخاذ القرار. بل الحقيقة أن هذه السلطة تصرَّفت تحت ضغط المشاعر بعيدا عن الرُّؤية العلمية المتبصِّرة. وهذا يعني أن الديماغوجية تغلَّبت على العقل دون اعتبار ما لهذه الديماغوجية من انعكاسات سلبية على المنظومة التربوية وعلى مَن يتردَّدون عليها وعلى مَن يدرِّسون بها. وهنا، يُطرحُ سؤال آخر : لماذا لم تُقْدم إلى يومنا هذا السلطةُ الوصيَّةُ على تعريب التعليم العالي العلمي؟

الجواب أبسط من السذاجة! لأن البحث العلمي ببلادنا فاته الرَّكبُ ومنذ عشرات السنين من حيث توفير المصطلحات العلمية المُعرَّبة. فاته الرَّكبُ أولا لأن المصطلحات العلمية تُنتَجُ في البلدان الغربية، وغالبا باللغة الإنجليزية. ثانيا، لا توجد ببلادنا مؤسسة علمية تواكب إنتاجَ المصطلحات العلمية بهذه البلدان وتقوم بترجمتها من اللغة الأصلية إلى اللغة العربية. ثالثا، دعونا من الديماغوجية لنقول بكل صراحة أن اللغةَ العربية، حسب الوضع الذي هي عليه اليوم، ليست مؤهَّلةً، على الإطلاق، لتكون لغةَ تدريس العلوم بجميع أصنافها. وهنا، لا بدَّ من الإشارة أن الدستورَ المغربي ينص على إنشاء أكاديمية اللغة العربية التي من مهامها تطوير اللغة العربية لجعلها أداة تواكب التَّطوُّر العلمي والتكنولوجي وتُستعمل كوسيط لإجراء الأبحاث العلمية وإنتاج المعرفة. غير أن هذه الأكاديمية لم تَرَ النورَ رغم الحديث عنها مند بداية الألفية الثالثة.

لا أريد أن أطيلَ لأن الموضوعَ متعدِّدةٌ أبعاده ومتداخلة. لكن، قبل أن أختمَ، أريد فقط أن أثيرَ انتباهَ القراء إلى الكيفية التي يتعامل بها المسئولون مع القضايا الحساسة التي يرتبط بها مصير البلاد والعِباد. تعاملٌ فيه نسبة عالية من الارتجال وجرعة مُضاعفة من الديماغوجية. كل المبادئ الأربعة السالفة الذكر لم تكن إلا شعارات فارغة لذرِّ الرماد على العيون.

ولا مبدأٌ واحدٌ تمَّ إكمالُ تنزيله على أرض الواقع. فعوض أن يوجَّدَ التَّعليم، تم تفكيكُه démembrement. وعوض أن يُعمَّمَ التعليمُ، تمَّ تركيزُه في المُدن على حساب العالم القروي وخصوصا العالم القروي المعزول جغرافيا. وعوض أن يُمَغرَبَ التَّعليم بالتَّدريج وحسب رؤية مضبوطة ومدروسة، غلبت العشوائية على الجِدِّية. وعوض أن يُعرَّبَ التعليم، هو الآخر حسب خطة عقلانية، غلبت مشاعر العروبة والقومية العربية على العقل والتَّأنِّي وبُعد النظر.

فلا غرابةَ أن تفشلَ كل الإصلاحات التي خضعت لها المنظومة التَّربوية منذ استقلال البلاد. لماذا؟ لأنه، كلما فشل إصلاح في تقويم اعوجاجات المنظومة التَّربوية، كلما تراكمت مشاكِلُها. وكلما طالت مدَّةُ هذا التَّراكم، كلما استعصى إصلاحُ عيوب المنظومة التَّربوية. وهذا هو ما لم يرِدِ السياسيون والحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، إدراكَه إلى يومنا هذا. لك الله يا وطني!

***

14- من أسباب فشل المدرسة العمومية

دور المدرسة المتعارف عليه كونيا هو تربية وتهذيب وتكوين وإعداد الأجيال الصاعدة لتحمُّل مسئولية الاندماج في الحياة الاجتماعية والعملية، وكذلك المساهمة في تطوُّر البلاد وتقدمها اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، صناعيا، تكنولوجيا… غير أن هذه المدرسة لم تستطع، إلى يومنا هذا، أن تؤدِّيَ هذا الدورَ كما هو مطلوب منها لأسباب مختلفة.

وأسباب فشل المدرسة المغربية في أداء مهامها، على أحسن وجهٍ، كثيرة ومتنوِّعة. منها ما هو مرتبطٌ ببِنية المنظومة التربوية نفسها ومنها ما هو مرتبطٌ بما يجري داخل الأقسام من أساليب بيداغوجية وتربوية ومنها ما هو مرتبطٌ بجودة أداء المدرسين ومنها ما هو مرتبطٌ بتكوينهم ومنها ما هو مرتبطٌ بظروف و وسائل عملهم ومنها ما هو مرتبطٌ بوضعهم الاجتماعي والمادي ومنها ما هو مرتبطٌ بنوعية المضامين والمقررات ومنها ما هو مرتبطٌ بالوضع التَّربوي والنفسي للمتعلمين…

وتداخُلُ هذه الأسباب وعدمُ التَّصدي لها بكيفية شمولية ونَخرُها للمنظومة التَّربوية طيلةَ عقود، جعلوا الإصلاحات المتتالية غير قادرة على استئصال هذه الأسباب من جذورها، وهو الشيء الذي أدَّى إلى مضاعفة الفشل الذي تُعاني منه هذه المنظومة التربوية بكيفية مزمنة.
وفيما يلي، هذه بعض الأسباب التي تُساهم في تفاقم الفشل الذي يكاد يصبح بنيويا structurel :

1.الخلفية النَّظرية للمنظومة التربوية تجاوزها الزمان

بعد حصول المغرب على الاستقلال، كانت السياسة التَّعليمية ترتكز على أربعة مبادئ هي : التَّوحيد، التَّعميم، المَغربة والتَّعريب. وهذا شيء طبيعي ومنطقي لأن البلادَ حديثةُ العهد باستقلالها وتريد أن تكونَ لها منظومة تربوية وطنية مترسِّخة ومتجدِّرة في المجتمع المغربي الذي، بدوره، يريد أن تكونَ المدرسة، كغيرها من المرافق الوطنية، رافعةً من رافعات التنمية الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية.
التوحيد unification كان يسعى إلى ترسيخ نمط واحد من التعليم العمومي يساوي بين المغاربة كيفما كان انتمائهم الاجتماعي. التعميم généralisation كان يسعى إلى إيصال المدرسة إلى جميع أنحاء البلاد ليستفيدَ منها كل الأطفال الذين بلغوا سِنَّ التَّمدرس scolarisation بدون استثناء. المَغرَبَةُ marocanisation كانت كانت تسعى إلى تعويض المدرسين الفرنسيين بمدرسين مغاربة. التَّعريب arabisation كان يسعى إلى إحلال اللغة العربية مكانَ اللغة الفرنسية التي كانت تُدرَّس بها، آنذاك، جلُّ المواد المدرسية. لا أريد أن أدخلَ في نقاش يُبيِّن هل نجحت المنظومة التربوية في ترسيخ هذه المبادئ على أرض الواقع لأنه ليس هذا هو موضوع هذه المقالة. لكن، يجب أن لا ننسى أن عدَمَ التَّجسيد الكلي لهذه المبادئ الأربعة على أرض الواقع قد يزيد من تأزيم مشاكل المنظومة التَّربوية. لقد خصَّصتُ لتنزيل هذه المبادئ على أرض الواقع مقالةً خاصة تحت عنوان : مآلُ مُرتكزات السياسة التَّعليمية مباشرةً بعد الاستقلال.

ما أريد إيثارةَ الانتباه إليه هو أن المعرفة التي كانت تنقلها المدرسةُ إلى المتعلِّمين كانت معرفةً ضروريةً لتكوين الأطر التي كانت البلادُ في حاجة ماسة إليهم. وخصوصا أنه في تلك الفترة، لا وجودَ لشبكات التواصل الاجتماعي ولا لتكنولوجيات التعليم والتَّعلُّم، كما هو الشأن اليوم، والتي تضع شتى أنواع المعارف رهن إشارة مَن يرغب في الاستفادة منها. ولهذا، إذا كانت المدرسة في الماضي هي الوحيدة التي تنقل المعرفةَ للوافدين عليها، فهذه المعرفة متوفِّرة اليوم في الشبكات المذكورة. إذن، ما الذي يجب أن يتغيَّرَ؟
الذي يجب أن يتغيَّرَ هو الهدف من تبليغ المعرفة transmission des connaissances للمتعلمين. تبليغ المعرفة، اليوم، لا يجب، على الإطلاق، أن يكونَ هدفُه هو شحنُ أدمغة bourrer les crânes المتعلمين بمعارف قد يُرهقهم حِفظُها. المعرفة، إن كانت ذات أهمية، يجب أن تكونَ دعامةً لبناء شخصية personnalité المتعلمين وتفتُّحهم épanouissement وتحرُّرهم émancipation الفكري والاجتماعي. ليس المهم هو حِفظُ هذه المعارف عن ظهر قلب apprendre par coeur. المهم هو تعلُّم البحث عنها والوقوف على أهميتها فكريا، علميا، اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا… والتَّمكُّن من الوصول إليها كلما دعت الضرورةُ إلى ذلك. وكل هذه الاعتبارات تستدعي إعادةَ النظر في الخلفية النظرية للمنظومة التربوية! أي، ماذا نريد؟ هل نريد رؤوسا جيِّدةَ التَّركيب des têtes bien faites أم رؤوسا مشحونة بمعارف جافة لا تصلح إلا للامتحانات!

2.موتُ التَّفاعلُ الذي كان قائما في الماضي بين المدرسة والمجتمع

انعزلت المدرسة عن المجتمع إلى درجة أنها أصبحت حاليا عبارةً عن جسم غريب يتحمَّله المجتمع غصبا عنه. عادةً، المدرسة هي التي تُنتِج المجتمعَ والمجتمع هو الذي يُنتِج المدرسةَ. أو بعبارة أخرى، المدرسة صورة لمجتمعها والمجتمع صورة لمدرسته. في غياب هذا التَّرابط، تصبح المدرسة عبارةً عن معمل usine يُنتِج أشخاصا مُنمَّطين individus stéréotypés، وأكثر من هذا، غرباء عن محيطهم الاجتماعي والاقتصادي. في غياب التًَّفاعل القائم عادةً بين المدرسة والمجتمع، يصيب هذه الأخيرةَ الجمودُ immobilisme والركودُ stagnation والانزواء isolement على نفسِها. والغريب في الأمر، أن ما يُنفقُه المغاربة على المنظومة التربوية غير متوازن مع ما تُفرزُه المدرسة من نتائج هزيلة. إن لم تستجب المدرسة لتطلُّعات المجتمع، فهي غولٌ يلتهم الأموالَ ويُنتِج الأهوالَ. وكل منظومة تربوية أصابها الجمودُ والركودُ والانزواء، تصبح، كما سبق الذكرُ، جسما غريبا يتحمَّله المجتمع غصبا عنه.

3.المدرسة والبيت وسطان أساسيان للتنشئة الاجتماعية ولتحضير وبناء مستقبل المتعلِّمين

في الماضي، كانت المدرسةُ والأسرةُ تتعاونان، عن قُربٍ، لضمان تَنشئةٍ اجتماعيةٍ للمتعلمين تتماشى مع ما يتطلَّبه المجتمعُ من قيمٍ وأخلاق وسلوكات ومواطنة… كان هذا التعاون ممكِنا نظرا للمكانة الرفيعة التي كان يحظى بها المدرسُ في المجتمع. كان هذا الأخيرُ، إلى جانب دورِه في التَّعليم والتَّعلُّم، مربِّيا بما للكلمة من معنى. كان له حضورٌ وازنٌ، بالطبع داخل القسم والمدرسة، لكن كذلك خارجَ المدرسة وخصوصا في علاقاته مع الأسر. اليوم، اضمحلَّ الجِسرُ الرابط بين المدرس والأسر و تلاشت، بجكم اضمحلال هذا الجسر، التَّنشئة الاجتماعية للمتعلمين. لقد تخلَّت المدرسةُ عن هذا الدور وتركته للصدفة والظروف تتجكَّم فيه. اليوم، المدرسة ركَّزت اهتمامَها على تبليغ المعرفة لكن على حساب بناء شخصية المتعلمين. التنشئة الاجتماعية ليست فقط إغناء الرصيد المعرفي للمتعلمين. إنها، أولا وقبل كل شيء، أخلاقٌ وسلوكٌ وفكرٌ وتكيُّفٌ مع الظروف والواقع واندماجٌ في الحياة الاجتماعية والعملية وتفتُّحٌ وتنويرٌ وتوعية conscientisation…

4.مدرسة التَّعلُّم قبل التعليم

يجب أن يُدركَ الجميعُ، وبصفة نهائية، أن المتعلِّمَ هو الذي يتعلَّم والمدرس ليس إلا وسيلة لتسهيلِ هذا التَّعلُّم. التَّعلُّم ينطلق من المتعلِّم. ولهذا، من المهم بمكان أن تتوفَّرَ لدى المتعلِّم الرغبةُ في التَّعلُّم le plaisir d'apprendre. وهذه الرغبة، المدرس هو الذي يوفِّرها بنوعية تعامله المهني مع المتعلمين. ولهذا، يجب أن تُعتَبَرَ المدرسةُ وسطا يتعلَّم فيه المتعلِّم كيف يتعلَّم وليس آلةً ميكانيكيةً لحشو رؤوس المتعلمين بمعارف غالبا ما تكون بعيدة عن ما يجري في محيطهم الاجتماعي، الاقتصادي والبيئي. والتعلُّم apprentissage يعني أن تعتني المدرسة ببناء شخصية المتعلِّم (تربيته)، أي أن تكرِّس جهودَها ليتعلَّم، أولا وقبل كل شيءٍ، ما هي المواطنة وحب الوطن وما هي المسئولية التي يجب أن يتربَّى عليها المتعلِّمُ، مند نعومة الأظافر، وأن يستقل بذاته تدريجيا وأن تكون له القدرة على التكيُّف مع ما يجري في محيطه وأن يتعوَّدَ على الفكر النقدي esprit critique ومتفتِّحا épanoui ومتحررا فكريا émancipé intellectuellement ومبدعا créatif ومتعودا على حل المشكلات hanitué à la résolution des problèmes، الخ. أي أن يتوفَّرَ على كل ما يجعل منه فعلا رافعةً مستقبليةً للتنمية levier potentiel du développement ومُنْتِجا لقيمات مُضافة producteur de valeurs ajoutées، الخ.

5.أكبر إنزلاق في المنظومة التربوية : الفشل المدرسي

مفهوم الفشل المدرسي échec scolaire يجب أن يختفي نهائيا من قاموس المنظومة التربوية، على الأقل في مرحلة التعليم الأساسي. لأنه في الوقت الراهن، المدرسة متناقضة مع دستور البلاد الذي كرس مفهوم تكافؤ الفرص، أي أن المدرسة خُلقت من أجل نجاح الجميع وليس من أجل تكريس مفهوم الانتقائية sélectivité. أكثر من هذا، الفشلُ المدرسي أصبح سِلعةً يُتاجِر بها بعض المدرسين سامحهم الله. وما يُسميه البعضُ فشلاً مدرسياً لحاجات في نفس يعقوب، هو في الحقيقة تفاوتٌ في القدرة على التَّعلُّم différences des capacités d'apprentissage. وأسبابُ تفاوتِ القدرة على التَّعلُّم كثيرة أخصُّ منها بالذكر الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمتعلمين. للتَّصدي لهذا التَّفاوت، كان ويكون من المفروض أن تقومَ المدرسة بتذويبه من خلال ما يجب أن يبدلَه المدرسون من جُهدٍ داخل الأقسام. لكن لا أحد يبدل هذا الجهد. ما يحدث هو استغلالُ هذا التَّفاوت من طرف بعض المدرسين لحثِّ المتعلمين على الخضوع لدروس خصوصية مؤدى عنها.

6.تكوين المدرسين هو حجرُ الزاوية في أداء المنظومة التربوية مهامها بجودةٍ عالية

يجب أن يُعاد النظر في تكوين المدرسين بكيفية جذرية. وفي هذا الصدد، يجب أن لا يبقى المدرسُ عبارةً عن واسطة تنقل المعرفة من الكتب المدرسية إلى المتعلمين. وأن لا يُعتبرَ المدرسُ كمالك للمعرفة لأنه بكل بساطة ليس هو الذي أنتجها. بل يجب أن يُعتَبَرَ كمتعاملٍ مع هذه المعرفة بطريقة تجعل نقلَها إلى المتعلمين سهلا ومفيدا. بالطبع ومما لا شك فيه، يجب أن يكون متمكنا من مادة تدريسه لكن ليس لتراكم معارفها لدى المتعلم، ولكن لتساهم في بناء شخصيته ومستقبله. ولهذا، فعلى المدرس أن يعتنيَ، أولا وقبل كل شيء، بهذا البناء. وفي هذا الصدد، فلن يكفيه أن يكون متمكِّنا من مادة تدريسه. فعليه أن ِيكون مسهِّلاً facilitateur، مُرشدا guide، موجِّها orientateur، منشِّطا activateur، مربِّيا éducateur، مساعِدا assistant، مصاحِبا accompagnateur، محفِّزا motivateur، منظِّما organisateur، الخ. كل هذه الضفات يجب أن تكونَ مُتصمَّنةً في تكوين المدرسين. ولهذا، فتكوين هؤلاء المدرسين يجب أن يكون من مستوى عالي تأخذ فيه علوم التربية حيزا مهما : بيداغوجيا، ديداكتيك، فلسفة وسوسيولوجيا التربية، تاريخ العلوم، إبيستيمولوجيا، علم النفس التربوي، اقتصاد التربية، الخ. إضافة إلى الإلمام بالسياسات التربوية والقوانين المنظمة لها وعلم التواصل science de la communication ولغة التدريس langue d'enseignement، الخ. إلى حد الآن، تكوين المدرسين لا يحظى بما يستحقه من اهتمام.

7.جودة المنظومة التربوية لها علاقة وطيدة بالعناية بالمدرسين

وهذه العناية يجب أن تشملَ على الخصوص وضعَه الاجتماعي والمادي. ما نلاحظه اليوم، هو أن المدرسَ لم تعد له تلك المكانة التي كان يحظى بها في المجتمع من حيث الاحترام respect والتقدير estime considération والتثمين valorisation. وهذا الاحترام والتقدير ناتجان عن كونه كان يُساهم فعليا، كما سبق الذكرُ، في التَّنشئة الاجتماعية للمتعلمين. ولعل خير وسيلة لاسترداد هذا الاعتبار تكمن في إعادة النظر في وضعه المادي. يجب أن يكون مرتَّب المدرس من أعلى مُرتَّبات الدولة لأن العديد من الدراسات بينتْ بوضوح أن البلدان التي يتقاضى مدرسوها مرتَّبات عالية، تكون منظوماتها التربوية ذات جودة عالية وتحصل على أعلى النتائج في البرنامج الدولي لتقييم مكتسبات التلاميذ PISA. فرنسا التي مُرتَّبات مدرسيها ضعيفة بالمقارنة مع دول أوروبية أخرى، مُرتَّبة وراء البلدان الاسكندنافية pays scandinaves وألمانيا Allemagne ولكسمبورغ Luxembourg والمملكة المتحدة Royaume uni، الخ.

8.ما هو مهمٌّ في أداء المنظومة التربوية لمهامها : بناءُ مستقبل المتعلِّمين أم استعلاءُ بعض المفتِّشين وبعض رؤساء المؤسسات التعليمية؟

بعض المفتشين وبعض رؤساء المؤسسات التعليمية، سامحهم الله، يتعاملون مع المدرسين والمتعلمين باستعلاءٍ وكبرياء ويعتبرون أنفسَهم أسيادَ العارفين. أنا شخصيا، حينما أسمع هذه الكلمة، "مفتش"، وحتى باللغة الفرنسية inspecteur، أحِس بنوع من الاشمئزاز لأنها ليست في محلها عندما يتعلق الأمر بالتعليم. فبمجرد ما تُسْمَعُ، تذكِّر ب"تَبوليسيتْ والحضيان". وهذا هو ما يحدث فعلا عندما يدخل بعضُ المفتشين إلى قسمٍ من الأقسام. يدخل بفكرة أنه الشرطي المتعالي على المعلِّم أو الأستاذ وأن هذا الأخير متَّهمٌ حتى تثبتَ براءتُه، بمعنى إنه هو العارف والمعلم أقل منه عرفانا. ولهذا، نرى بعضَ المفتشين يحضرون الدروس ويغادرون القسم دون أن يتناقشوا مع المعني بالأمر. لأنهم يعتبرون النقاش مع هذا المعني بالأمر تنقيص وحط من قيمتهم. بينما الغاية من التفتيش ليس هو القمع والاستبداد، بل النصح والمساعدة والتنوير والإضافة في جو يجعل مَن خضع للتفتيش مطمئنا ومتقبلا للملاحظات. ولهذا، يُلاحظُ أن تقاريرَ بعض المفتشين ليست محاضرَ لمجريات الدرس ولكن انتقاما من المعلم الذي أبان عن كفاءته أمام مفتش أبان عن جهله. ولهذا، أصبحت بعض التقارير عبارة عن إنشاء للحط من قيمة المدرسين عوضَ أن تكونَ نُصحا وتكميلا للنقائص التي لا ينجو منها أمهر المدرسين. أما بعض رؤساء المؤسسات التعليمية، فعوض أن يكونوا من الداعمين لإنجاح المهام السامية لمؤسساتهم، فإنهم يتصرفون مع المدرسين والمتعلمين بعجرفة وجبروت يجعلونهم يحسون بأن هناك رئيسا ومرؤوسا.

9.المتعلِّم هو المُسخَّر للتَّعليم و ليس العكس

عادةً، التَّعليم هو الذي يجب أن يتكيَّفَ مع الوضع النفسي والاجتماعي للمتعلِّم وليس العكس. لأن الطفلَ، عندما يذهب إلى المدرسة، فإن هدفَه الأول و الأخير هو أن يتعلَّمَ ليفهمَ apprendre pour comprendre. وكي يتعلَّم ويفهم، يجب أن يجدَ مُتعةً فيما هو بصدد تعلُّمِه. وكي يجد مُتعةً فيما هو بصدد تعلُّمِه، يجب أن تُعطى قيمةٌ لشخصِه نفسيا واجتماعيا. وهنا بيتُ القصيد.

فعندما يذهب الطفلُ إلى المدرسة، فإنه لا يذهب إليها بدماغٍ فارغة أو بدماغٍ بِكر مستعد لتلقِّي كل أنواع المعارف المدرسية. إن هذا الطفل، عندما يتردَّدُ على المدرسة، فإنه يكون قد كوَّن مسبقا نظرةً عن العالم المحيط به، أو بعبارة أخرى، هذا الطفلُ يدرك العالمَ المحيطَ به بطريقة تخصُّه هو. و في غالب الأحيان، تكون هذه النظرةُ مقترْنةً باللعب أو بكل ما له علاقة بهدا اللعب.
بكل أسف، المدرسة لا تُعيرُ أي اهتمام لهذه النظرة التي كوَّنها الطفلُ عن العالم المحيط به أثناء طفولته. بل المدرسةُ تعتبر الطفلَ ناضجا لتلقِّي معارفها بدون عناء. في الحقيقة، المدرسة لا تقوم بأي شيءٍ سوى أنها تضع معارفَها فوق معارف الطفل التي هي تلقائية spontanées ولكن، في نفس الوقت، عنيدة tenaces. معارف الطفل التلقائية هي التي يعتمد عليها هذا الطفلُ للتَّعامل مع العالم المحيط به. والمدرسة، عوضَ أن تسعى لتعويض معارف الطفل التلقائية بمعارفها المنظمة، من خلال أساليب بيداغوجية ونفسية ملائمة، فإنها تُحدِثُ عند هذا الطفل صراعا conflit بين هذين النوعين من المعارف. وفي آخِرِ المطاف، ليست المدرسة هي المتضرٍّرة من هذا الصراع، لكن الطفل الذي قد يجرُّ وراءه معارفَه التلقائية على امتداد مدة طويلة.
فهل المتعلِّم هو الذي يجب أن يكونَ مسخَّراً للتَّعليم أم التَّعليم هو الذي يجب أن يكونَ مسخَّراً للمتعلِّم؟ المدرسة اختارت البديلَ الأول!

10.الحِفظ و ما أدراك ما الحِفظ!

غريب أمر منظومتنا التَّربوبة التي تُنفَق الأموالَ الطائلةَ من أجل تحويل المتعلمين إلى آلات للحفظ والاستظهار. وكأن القائمين على هذه المنظومة التَّربوية ليسوا على علمٍ بأن الحفظَ وحده لا فائدة منه. بل إنه يكبح الطاقات الفكرية والنقدية. فما هو مهمٌّ ومفيد بالنسبة للطفل الذي يتردَّدُ على المدرسة؟ هل اعتمادُه فقط وحصريا على ملكة الحفظ ليتعلَّم أم على ملكات التفكير والنقد والاستقراء والاستنتاج والمقارنة والبَرهنة والتَّجريب… ليتعلَّمَ كيف يتعلَّم؟ وما هو كذلك مهمٌّ بالنسبة للطفل الذي يتردَّد على المدرسة؟ هل حِفظُه للدروس عن ظهر قلبٍ تحت الضغط sous pression والإكراه contrainte ثم نسيانُها بمجرد زوال هذين الضغط والإكراه؟ أم فَهمُ هذه الدروس واستبطان ما تنقله من مفاهيم ومعارف، والقدرة على الربط فيما بينها فكريا كلما دعت الضرورة إلى ذلك؟ ثم ما هو مفيد بالنسبة للطفل الذي يتردَّد على المدرسة؟ هل الحفظ والاستظهارُ سيساعدان الطفلَ على بناء شخصيته؟ أم بناء شخصيته يحتاج إلى إعمال ملكاته الفكرية ليجعلَه هذا البناءُ قادرا على الربط بين ما يتلقاه من معارف وما يجري في حياته اليومية الاجتماعية من أحداثٍ وظواهر؟ المدرسة اختارت ما يُبرِّرُ ويرسِّخ وجودَها : شحنُ دماغ الطفل بالمعارف الجافة وإرغامُه على حِفظها، في غالب الأحيان، تحت الإكراه و الضغط.
هذه فقط نماذج من أسباب فشل المدرسة في أداء مهامها. أما الباقي، فحدِّث ولا حرج! وفشل المدرسة هو، في نفس الوقت، فشل المنظومة التَّربوية!

***

15- ماذا عن جودة أداءِ المدرسة والتعليم والمدرِّس

يُعتَبَر دخول طفلٍ، لأول مرة، إلى المدرسة حدَثٌ يرسم، بالنسبة له، منعطفا في حياته الشخصية. منعطفٌ يتميَّز ليس فقط بولوجِه إلى عالم المعرفة والثقافة والتربية والتهذيب والعلم...، ولكن كذلك لولوجه إلى مجال الاعتبار considération (من طرف والديه ومحيطه والمجتمع) وإلى ميدان التَّفتُّح épanouissement والتَّحرُّر émancipation.

إن التعليمَ هو الذي، من خلال خدماته، يجعل هذا الوافدَ الجديدَ يستفيد من هذه المزايا.

إذا وضعنا الذهابَ إلى المدرسة وما توفِّره هذه الأخيرة من تعليم في إطار هذه المزايا، فإن التَّردُّدَ على مؤسسة التعليم يُعدُّ متعةٌ un plaisir ليس فقط بالنسبة للوافدين الجُدد ولكن كذلك بالنسبة لأولياء أمورهم.
غير أن هذه المُتعة لا يجب أن تقترنَ فقط وحصريا بتخطِّي عتبة المدرسة من طرف الطفل. بل إن هذا الأخيرَ يجب أن تواكبَه هذه المتعةُ ويستمتعَ بها طيلة فترة تمدرسِه. فعلى المدرسة أن توفِّرَ الشروطَ والظروفَ الملائمة لاستمرارها ودوامها.

فما هي الأمورُ التي على المدرسة أن تقومَ بها لتكونَ مكانا يحسُّ فيه الطفلُ والمراهقُ، باستمرارٍ بمتعة التَّعلُّم le plaisir d'apprendre؟

الجواب على هذا السؤال بسيط : أن توفِّرَ هذه المدرسةُ تعليماً ذا جودة في مدرسة ذي جودة ومن طرف مدرسين ذوي جودة. الجودةُ la qualité، كلمة نجدها في اللغة المتداولة، في النقاشات، في الشعارات، في الاستراتيجيات والسياسات التَّعليمية… علما أنها تُعتبرُ عاملا حاسما في المسار التَّعليمي للمتعلِّم وفي تكوينه تربويا، علميا، معرفيا...

بالفعل، إن جودةَ العرض التَّعليمي، البيداغوجي والتَّربوي للمدرسة هو الذي يمكِّن من رسمِ المستقبل الاجتماعي والمهني للمتعلِّم أو، بعبارةٍ أخرى، من اندماجه التَّدريجي والبنَّاء في المجتمع. وحتى يكونَ هذا الاندماجُ متوَّجاً بالنجاح، من الضروري أن تكونَ متعةُ وجوده بالمدرسة هي منشِّطُه ومحفِّزه للتَّعلُّم باستمرار. عكسَ ذلك، فإن المتعلِّمَ يخضعُ للتَّعليم subit l'enseignement عوض أن يُحبَّه.

فما هي إذن متعةُ التَّعلُّم؟

إنها بكل بساطة، الوضعُ الذي، من خلاله، المتعلِّمُ يُحسُّ ويُظهِر إراديا وعن طيب خاطرٍ (بدون إكراهٍ) رغبتَه، وبالأخص، طموحَه في التَّعلُّم. وحينما نتحدَّث عن متعة التَّعلُّم، فكأننا نقول : "يريد أن يتعلَّمَ" il veut apprendre. وما معنى "يريد أن يتعلَّمَ"؟ بكل بساطةٍ، معناها "البحث عن الفهم" chercher à comprendre. وهذا أمرٌ مختلفٌ جذريا عن الأوضاع التي هي مقترنةٌ بابتلاع المعارف ingurgiter le savoir وملء وحشو الأدمغة remplissage des cerveaux. ولا داعيَ للقول أن تحريفَ عملية "يريد أن يتعلَّم" من اتجاهها البنَّاء، هي بمثابة كبحِ وضعية "البحث عن الفهم". إنه كذلك (التحريف) وضعُ المتعلِّم في حالة خضوعٍ وإحباطٍ وخيبة أمل. إن التَّعليمَ والمدرسةَ والمدرِّسَ موجودون للاستجابة لرغبات المتعلِّم وخصوصا ميولُه إلى "البحث عن الفهم". إن "البحث عن الفهم" يجب أن يكونَ هو الخيط الناظم والمحرِّك الأسأسيان لجودة الممارسة التَّعليمية.

فما هي الجودة؟

إنها بكل بساطةٍ إعدادُ تعليمٍ وبِناءُ مدارسَ وتكوينُ مدرِّسين قاسمهم المشترك هو الاستجابة لطموحات المتعلِّم المتمثلة أساسا في "يريد أن يتعلَّم" و "البحث عن الفهم".

فما هو تعليم ذو جودة؟

إنه تعليم (دون الدخول في التفاصيل) يكون :

-مُعَداًّ من أجل المتعلِّم وليس العكس.
-منصفا وعادلا يكون فيه تكافؤ الفرص حقيقةً ملموسةً وليس حُلما.
-فيه المتعلِّمُ شخصا مستعدا نفسيا وبيداغوجيا ليتعلَّمَ و يفهمَ.
-فيه نمو قدرة المعرفة développement cognitif للمتعلِّم وتفتُّحُه الفكري اهتمامين مركزين من ضمن انشغالات هذا التَّعليم.
-هدفُه ليس فقط التثقيف وإغناء المعارف بما فيه فائدة ولكن كذلك تعليم يُربِّي وفي نفس الوقت، يكوِّن شخصيةَ المتعلِّم.
-هدفُه بناء رأسٍ جيِّدةَ التركيب une tête bien faite و ليس رأس مملوءة بدون فائدة.
-هدفُه تجنُّب تراكم المعارف الجافة، المُشَيَّئة chosifiées (مُحوَّلة إلى أشياء)، لا رائحةَ ولا لونَ ولا طعمَ لها.
-هدفُه تنمية الفكر النقدي لدى المتعلِّم وتعويدُه على أخذ مسافة بالنسبة للمعرفة (المعرفة = تفسيرٌ وتأويلٌ وليس حقيقة نهائية).
-موجَّها نحو استقلالية التَّعلُّم autoapprentissage والقدرة على التَّكيُّف capacité d'adaptation.
-متبنِّيا لتقويم بنَّاء و مكوِّنٍ…

فما هي مدرسةٌ ذات جودةٍ؟

إنها مدرسةٌ (دون الدخول في التفاصيل) تكون :

-متجذِّرةً في المجتمع بمعنى أنها نتاجٌ لهذا المجتمع، و في نفس الوقت، مُنتِجةٌ له.
-فيها المواطنة وحب الصالح العام والأخلاق وأخلاقيات المهنة قيماً أساسية.
-مكانا يسود فيه الاحترام بين جميع مُكوِّنات المجتمع المدرسي.
-مالكةً لمشروع بيداغوجي projet pédagogique اجتماعيا وتربويا (قليلة هي المدارس العمومية و الخاصة التي تتوفَّر على هذا المشروع).
-تميِّز بين فعل "علَّمَ" و فعل "ربى".
-مُنفتِحةً على الحياة لأنها، في نهاية المطاف، تُهيّئ المتعلِّمَ ليندمجَ مستقبلا في الحياة الاجتماعية والنَّشِطة.
-بمثابة رافعة للتنمية.
- أداةً لتكوين مواطنين مسئولين و مُنتِجين.
-مٌوليةً اهتماما بالغا للرأسمال البشري وتعتبره كاستثمار هدفُه تجديد قدرات المجتمع بمختلف أصنافها.
-متوفِّرةً على بنيةٍ تحتيةٍ جيِّدةٍ وعلى بيئةٍ جذابةٍ ليس فقط من الناحية البيداغوجية و لكن كذلك البيئية والثقافية (الأنشطة الاجتماعية، الثقافية والرياضية تشكِّل بالنسبة للمتعلِّم فرصةً ونوعاً من التعبير الجسدي، الحركي والتواصلي).
-منفتحةً على التغييرات التي تحدث في المجتمع اقتصاديا، ثقافيا، علميا، تكنولوجياً… (في اتجاه إعادة النظر في توجُّهها بالأخذ بعين الاعتبار هذه التغييرات لدمجها في مشروعها البيدأغوجي، الاجتماعي التَّربوي..
فما هو مدرِّسٌ ذو جودةٍ؟
المدرِّسُ الذي يتَّسم أداءُه بالجودة يكون أولا وقبل كل شيء حاملاً للتغيير.

كعضوٍ في المجتمع الذي ينتظر الكثيرَ من المدرسة، المدرِّسُ هو :

-أولا و قبل كل شيء، مواطنٌ تتخلَّلُه نبرةٌ من حب الوطن والصالح العام.
-رافعةٌ للتنمية (لأن النشاطَ والعمل البشريين هما اللذان يكونان وراء التنمية - فليبدأ هذا الأمر من المدرسة)
-ناقلٌ للثقافة والقِيم.
-قدوةٌ يُحتدى بها.

كعضو في المنظومة التَّربوية، على المدرس أن يعرفَ :

-أن مهنتَه هي، بكل تأكيد، نتيجةٌ لتكوينٍ ولكن كذلك للموهبة.
-ما هي المنظومة التربوية وخصوصا ما هو تنظيمُها وما هي النصوص التي تنظِّمها.
-ما هي السياسة التعليمية والتربوية لبلده.
-ما هي الوظائف الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية للتعليم والتربية.
-كيف تشتغل المؤسسة التعليمية.
-أنه جزءٌ مهمٌٌّ في تطبيق السياسة التعليمية إداريا و تربويا.
-أن له دورا أساسيا في قيادة المتعلِّم إلى النجاح وإلى اندماجه مستقبلا في الحياة الاجتماعية والمهنية.
-أن مهنتَه لها ارتباط وثيق بأخلاقيات المهنة والمسئولية.
-التداخل القائم بين المدرسة والأسرة وبين المدرسة والمجتمع.
-ما توفِّره علوم التربية من أجل تحسين وتطوير مهنته…

داخلَ القسم، المدرس هو :

-المتخصصُ في تدريس مادة أو عدة مواد.
-مُثقِّفٌ ومُربِّي بمعنى أنه يساهم في بناء شخصية المتتلِّم.
-مُلِمٌّ بالبيداغوجيا pédagogie وبالديداكتيك didactique.
-يعرف كيف يمزج بين البيداغوجيا وعلم نفس الطفل والمراهق psychopédagogue.
-يُتقِن فن التواصل communicateur ومتمكِّنٌ من لغة التَّد يس والتواصل.
-العنصر المنشِّط activateur، المبتكِر innovateur، الممتحِن examinateur، المقوِّم évaluateur، المؤمن بمبدأ تكافؤ الفرص.
-الواعي بالفوارق الاجتماعية والثقافية الموجودة بين المتعلِّمين ويملك القدرة لتكييف ممارسته التعليمية التربوية مع هذه الفوارق.
-الذي تكون دائما من بين أهداف ممارستِه داخل القسم التَّحرُّرُ والتَّفتُّح الفكريان émancipation et épanouissement intellectuels، التَّعوُّد على الفكر النقدي esprit critique، استقلالية التَّعلُّم autoapprentissage، أخذ المبادرة prise d'initiative، اتخاذ القرارات prise de décisions، التدرُّبُ على حل المشكلات résolution des problèmes …
خارج القسم، المدرِّسُ مدعوٌ :
-لأخذ مسافة بالنسبة لمهنته، لتعليمه، لممارستِه داخلَ القسم… و بعبارة أخرى، أن يُخضِعَ مهامَّه لتقويم ذاتي auto évaluation ليتمكَّنَ من تحسين أدائه باستمرار.
-لتحسين صورتِه علميا، تربويا، اجتماعيا وأخلاقيا.
-للإطلاع على ما استجدَّ من أبحاث ومن معارف في مجال تخصُّصِه.
-للتَّعوُّد على استعمال تكنولوجيات الإعلام والتَّواصل، وبالأخص، تلك التي قد تساعده على الرفع من جودة ونجاعة الممارسة التَّعليمية التربوية…

عندما نتحدث عن الجودة فيما يخصُّ الممارسة التَّعليمية، من المؤكَّد أن صانعَ هذه الجودة، إلى حدٍّ كبيرٍ، هو المدرس. غير أن هذا الأخير لا يمكن أن يصنعَ هذه الجودة من فراغ. جودة الممارسة التَّعليمية مرتبطةٌ ارتباطا وثيقا بتكوين المدرِّسين تكوينا عالي المستوى ومتعدِّد التخصُّصات. لا يكفي، على الإطلاق، أن يكونَ المدرِّسُ متمكِّنا من مادَّة تخصُّصِه. ما يهم هو كيفية التعامل مع المعارف لتصبحَ دعامةً وأداةً لبناء الإنسان المغربي المتحرِّر فكريا واجتماعيا والقادر على إنتاج القبمات المضافة التي تساهم في تقدُّم البلاد وازدهارها والرفع من شأنها بين الأمم.

***

16- وضعُ المعرفة في الوسط المدرسي

هناك أسئلة لها علاقة بالمعرفة التي تُبلِّغها المدرسة للمتعلِّمين والتي أعتبرُها، أنا شخصيا، أسئلة أساسية ومن الضروري أن يطرحَها على نفسِه كلُّ مَن يمارسُ مهنةَ التَّدريسِ والتَّعليم. وأعني بالمعرفة المُبلَّغة للمتعلمين ما يُصطلحُ عليه ب"المعرفة المدرسية" savoir scolaire. من بين هذه الأسئلة، أخصُّ بالذكر ما يلي :

1.ما هي المعرفة المدرسية أو، بعبارة أخرى، ما هي طبيعة المعرفة المدرسية؟
2.لماذا يتمُّ تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلِّمين؟
3.هل هناك فرقٌ بين المعرفة المدرسية والمعرفة التي تُنتِجُها مختبرات البحث؟
4.ما هو موقف المدرس من المعرفة المدرسية ومن المعرفة بصفة عامة؟
5.ما هو موقف المتعلِّم من المعرفة المدرسية؟…

أكاذ أكون، بحكم التَّجربة، متأكِّدا أن فئةً قليلةً من المدرسين هم الذين تشغلُهم مثلُ هذه الأسئلة. ما يشغلُ السَّوادَ الأعظم من المدرسين هو تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلمين. وما هو مؤكَّدٌ كذلك هو أن الإجابةَ عن هذه الأسئلة تستلزم من المُجيبِ أن يكونَ مُلِمّاً بقدر كافي من علوم التَّربية. ولكن هذا لا يمنع من أن يتساءلَ المدرسون عن وضعِ ما ينقلونه من معارف للمتعلمين وأن يقوموا ببحثٍ شخصي يجعلهم متموقعين فكريا بالنسبة لهذه المعارف.

1.ما هي المعرفة المدرسية أو، بعبارة أخرى، ما هي طبيعة المعرفة المدرسية؟

أولا وقبل كل شيء، تجب الإشارةُ إلى أن المدرسةَ لا تُنتِج المعرفةَ. إنها فقط تستهلكها. وهذا شيءٌ مهمٌّ للغاية حيث أن المدرسةَ، بحكم عدم إنتاجِها للمعرفة وبحكم السرعة التي تُنتَجُ بها المعرفة في المختبرات، مطالبةٌ، نظريا، بأن تُجدِّدَ باستمرار ما تنقلُه من معارف للمتعلمين. غير أن هذا التَّجديدَ لا يحدثُ وإن حدث، فبعد مرور سنوات طوالٍ، وبالتالي، يكون دائما تفاوتٌ بين ما تنقله المدرسةُ من معارف والمستوى الذي وصل إليه إنتاجُ المعرفة في المختبرات في عدة مجالات اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، صناعية، زراعية، تكنولوجية…
وهذا شيءٌ طبيعي لأن المدرسةَ ليست مكانا لمواكبة ما يستجدُّ من معارف في مختلف مجالات البحث. المدرسة تنقل المعارف من أجل تثقيف المتعلمين، ولكن كذلك وبالأخص، من أجل مساهمة هذه المعارف في بناء شخصية هؤلاء المتعلمين. حينها، يصبح تبليغُ المعرفة للمتعلمين ليس هدفا في حد ذاته ولكن وسيلة لنقلِ شخصية المتعلمين من حسن إلى أحسن. وبكل أسف، في مؤسساتِنا التَّعليمية، أصبح تبليغُ النعرفة للمتعلمين هدفا أساسيا ورئيسيا بينما بناءُ شخصية المتعلمين طاله ويطالُه الإهمال.

والمعرفة، بصفة عامة، لها طبيعة، أي لها طعمٌ ومذاقٌ ولونٌ ورائحةٌ. لماذا؟ لأن المعرفةَ لا تُمطرها السماء. المعرفة مصدرُها فكر الإنسان، وبالأخص، فكرُ الإنسان الباحث. والإنسان المنتِج للمعرفة كائن اجتماعي وتاريخي sujet socio-historique. كائن اجتماعي لأنه يعيش في وسط اجتماعي يتأثَّر به و يؤثِّر عليه. وكائن تاريخي لأنه يجرُّ وراءه تجربةً أو تجارب راكمها من خلال التعامل مع الواقع والأحداث والظواهر…

وباختصار، الشخص الذي يُنتِج المعرفةَ، سواءً كان باحثا أو غير باحث، له خلفية فكرية وثقافية un background intellectuel et culturel هي التي تمكِّنه من إنتاج المعرفة. والخلفية الفكرية والثقافية أنواع، أو بعبارة أخرى، التيارات الفكرية les courants de pensée أنواع.

فهناك التيار الفكري الذي يعتبر المعرفة تفسيرا وفيّاً fidèle للواقع réalité، وبالتالي، فهي معرفة تُعتَبَر صحيحة وغير قابلة للنقاش indiscutable.
وهناك تيار فكري لا يعترف إلا بالمعرفة التي يبنيها فكرُ الإنسان لكن الإنسان الذي يتأثَّر بظروف الزمان والمكان، وبالتالي، فهي معرفة نسبية relative وقابلة للنقاش discutable.
وهناك تيار فكري لا يؤمن إلا بالمعرفة الناتجة عن التَّجربة والملاحظة، وبالتالي، قابلة للتَّحقُّق vérification…

هذه هي طبيعة المعرفة التي تستحق أن يكونَ المدرسون مُلمِّين بها. لماذا؟ لأن طبيعةَ المعرفة هي التي نتجت عنها نظريات التَّعلُّم théories d'apprentissage.

2.لماذا يتمُّ تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلِّمين؟

بالطبع، تبليغَ المعرفة للمتعلمين له عدة أهداف. تثقيف المتعلمين واحدٌ من هذه الأهداف. وتثقيف المتعلمين عاملٌ له دورٌ في اندماج هؤلاء المتعلمين في الحياة الاجتماعية والعملية. واندماج المتعلمين في الحياة الاجتماعية والعملية ضروري لاستمرار التنمية بجميع أشكالها.

لكن الهدفَ الأساسي لتبليغ المعرفة للمتعلمين هو استغلالُها استغلالاً عقلانياً، بيداغوجياً، تربوياً وعلمياً من أجل بناء شخصية المتعلمين. لأن المعرفةَ قد يتم نسيانُها أو قد تصبح متجاوزةً. بينما صقل شخصية المتعلمين وتعويدُهم على الفكر النقدي والتَّفتُّح والتَّحرُّر الفكريين والاجتماعيين أمورٌ تصاحبهم طيلةَ حياتهم الاجتماعية والعملية.

3.هل هناك فرقٌ بين المعرفة المدرسية والمعرفة التي تُنتِجُها مختبرات البحث؟

بالطبع، هناك فرق كبير بين المعرفة المدرسية والمعرفة التي تُنتْجها مختبراتُ البحث. أولا وللتذكير، ليست المدرسةُ هي التي أنتجت وتُنتِج المعارفَ التي تنقلها للمتعلمين. ثانيا، المعرفةُ المدرسية مقتبسة من المعرفة التي تُنتَجُ في المختبرات بعد إخضاعها لعدة عمليات. أول هذه العمليات هي التَّبسيط simplification، أي تحويل المعارف المختبرية أو العلمية من معارف قد تكون معقَّدة إلى معارف مبسَّطة. أما العملية الموالية، فتتمثَّل في تكييف المعارف مع النمو النفسي والمعرفي للمتعلمين développement psychologique et cognitif. ثم تأتي مرحلةُ صياغة المعارف على شكل برامج مدرسية programmes scolaires، أي بشكل آخر، المضمون المُصاغ على شكل عناوين ورؤوس أقلام têtes de chapitres. ثم في آخِر المطاف، تفصيل المضامين العامة لتحويلها إلى مضامين مفصَّلة والتي ستُتقَلُ فعليا إلى المتعلمين. وهي المضامين التي تحملها المراجع المدرسية.

غير أن الفرقَ الكبيرَ والأساسي بين هذين النوعين من المعارف هو أن المعارف المختبرية تم إنتاجُها في ظروف اجتماعية، اقتصادية وثقافية معيَّنة ومن طرف أشخاص اجتماعيين وتارخيين كما سبق الذكرُ. وبالتالي، فالمعارف المنتجة قابلة للتَّغيير حسب ما تجود به ظروف الزمان والمكان.
أما المعرفة المدرسية، فقد تمَّ تجريدُها من كل هذه الظروف عند القيام بعملية تبسيطها، وبالتالي، لم يعد هناك شيءٌ يوحي بأنها نسبية أو قابلة للنقاش. وهذا هو ما يحدثُ عند انتقالها من المراجع المدرسية إلى المدرسين ومن هؤلاء المدرسين إلى المتعلمين. لا أحدَ يتساءل عن طبيعتِها ولا عن ظروف إنتاجها ولا عن نِسبيتها relativité ولا عن أي تيار فكري courant de pensée تندرج فيه…

وما يؤسفُ له هو أن المتعلمين يعتبرون ما يتلقونه من معارف، معارف ثابتة invariables وغير قابلة للنقاش indiscutables…
إن هذه الطبيعة الجامدة التي تفرضها المدرسةُ على المعرفة المدرسية تحولُ دون نموِّ الفكرُ النقدي عند المتعلمين. كما تحول دون استقلالهم التَّعلُّمي leur autonomie d'apprentissage ونموِّ فضولُهم للاكتشاف و التَّنقيب curiosité de découverte et d'investigation…

4.ما هو موقف المدرس من المعرفة المدرسية ومن المعرفة بصفة عامة؟

المدرس لا يجب أن يُعتبَرَ فقط كوسيلة لنقل المعارف. فإذا كان هذا المدرسُ ناقلاً للمعرفة من أجل التَّثقيف، فهو، في نفس الوقت، مربِّي وعنصر أساسي يساهم في التَّنشئة الاجتماعية للمتعلمين. غير أن القيامَ بدور المربِّي والمساهمِ في التنشئة الاجتماعية، يتطلَّب منه أن يكونَ مُلمّا بمُلزمات مهنة التدريس والتربية. وبعبارة أخرى، أن يكونَ المدرسُ على علمٍ بما توفِّره له علوم التربية من معطيات في هذين المجالين، أي التدريس والتربية. وأضعف الإيمان، هو أن يكون له موقفٌ علمي ومستنير فيما يخصُّ المعرفة التي ينقلها للمتعلمين. وهذا يعني أن تكوينَ المدرسين يجب أن يكونَ تكوينا شاملا يأخذ بعين الاعتبار ليس فقط مهنةَ التدريس ولكن كذلك الدورَ التربوي المُناط بالمدرسين.

ما يؤسفُ له هو أن المدرسين، بحكم تكوينهم الذي يكون أحيانا غير مكتمل أو بحكم وقوعهم في رتابة المهنة، يهملون كل ما له علاقة بالتربية ويكرسون جهودَهم للتَّبليغ الجاف للمعارف. والنتيجة الحتمية هي حشو أدمغة المتعلمين بمعارف قد لا تصلُح إلا للامتحانات. والنتيجة الحتمية الأخرى، هي تحويلُ المدرسة من مؤسسة للتَّنشئة الاجتماعية إلى معملٍ لإنتاج أدمغة منمَّطة، وفي نفس الوقت، غريبة عن ما يجري داخلَ المجتمع.

5.ما هو موقف المتعلِّم من المعرفة المدرسية؟

إن أكبرَ ضحايا هذا الوضع هم المتعلمون الذين هم صورة طِبق الأصل لنوعية العلاقات البيداغوجية والتربوية التي يُقيمُها معهم المدرسون أثناء ممارستهم للأنشطة التعليمية التعلُّمية. فإذا كانت هذه العلاقات مبنيةً على التَّبليغ المحض للمعرفة، فالمتعلمون هم الخاسرون. خاسرون لأنهم، في أحسن الظروف، يُعتَبَرون أوعية يجب ملؤها بمعارف لا يعرفون، خارجَ الامتحانات، لماذا تُنقَلُ إليهم. والطامة الكبرى هي أن كل ما يجري داخلَ الأقسام يجعل المتعلمين يعتقدون أن كلَّ ما يُنقَلُ لهم من معارف هي معارف عبارة عن حقائق لا تقبل النقاشَ. بل دعونا نقول بأنهم يؤمنون إيمانا راسخا بأن ما يُنقل لهم من معارف، هي معارف لا تقبل النقاشَ.
لهذا، فلا يمكن، على الإطلاق، أن يكونَ للمتعلمين موقفٌ من المعرفة المدرسية لأنها، أولا، مفروضة عليهم. ثانيا، المدرسة لا تستهدف من شخصِهم إلا قدرتَه على الحِفظ والاستظهار، وفي نفس الوقت، تُهمِّشُ قدرتَهم على التَّحليل والنقد والتركيب والاستقراء والاستدلال والمقارنة والبرهنة والاستنتاج…

ما يجب أن أختمَ به هذه المقالةَ، هو أن الأسُسَ النظرية التي تستمد منها مدرستُنا وجودَها يجب أن تخضعَ لتغييرٍ جذري. و لتلخيص هذا التَّغيير، أقول : ما دام سِرُّ وجود المنظومة التربوية هو تعليمُ وتعلُّمُ المتعلمين، فأي نوع من المتعلِّمين يريد المحتمع المغربي؟ هل متعلِّمون أدمغتُهم محشوةٌ بالمعارف التي، في أحسن الأحوال، لا تصلح إلا للامتحانات أو متعلمون مشبَّعون بالفكر النقدي، متفتِّخون ومتحرٍّرون فكريا واجتماعيا وقادرون على المساهمة في تقدم البلاد وتطوُّرها وتنميتِها بشريا، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، علميا، تكنولوجيا، صناعيا…؟ كل مجتمع يطمح أن يرى بلادَه في أسمى مرتبات الرقي والازدهار والتقدم، سيختار، بالطبع، البديلَ الثاني.

***

17- عندما تُهينُ المدرسةُ المتعلمين

إذا كان هناك مكانُ يجب أن يحظى فيه المتعلِّمُ بالاحترام respect و التّقدير considération والتثمين valorisation والكرامة dignité، إنه المدرسة. الاحترام والتّقدير والتثمين والكرامة أمورٌ تقوِّي رغبةَ هذا المتعلِّم على التَّعلُّم وتحفِّزه على حب المدرسة وما توفره له من ظروف للتًَّنويرِ وبناء شخصيته. المتعلِّم، طفلا كان أم مراهقا أم شابا، كإنسان، له الحق في أن يُحتَرَمَ شخصُه وتُصانُ كرامتُه وشرفُه. غير أن هذا التَّقديرَ والاحترامَ والتَّثمين والكرامةَ، إنْ كانوا مضمونين قانونيا، اجتماعيا وأخلاقيا، قد يتعرَّضون أحيانا لتجاوزات تقود إلى إهانة المتعلِّم والنقصِ من عزَّتِه وكرامته. ولا داعيَ للقول أن مثل هذه الممارسات المُهِينة للمتعلِّم لا تزال قائمةً وكثيرة ومعمولٌ بها في الوسط المدرسي من طرف بعض المدرسين عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ. من بين هذه الإهانات، أذكر على سبيل المثال :

1.أن يقولَ المدرس للمتعلِّم، أمامَ رفاقه التَّلاميذ الآخرين : أنتَ سيء أو ضعيف أو بليد أو كسول… أولا، مثل هذا القول لا يجوز أن يتفوَّهَ به المدرس سواءً أمامَ المتعلِّمين أو على انفرادٍ مع المتعلِّم. لا يجوز قانونيا، نفسيا، أخلاقيا واجتماعيا. قد يكون هذا النوع من الإهانة بمثابة الضربة النفسية القاضية التي قد لا يتخلَّص منها هذا المتعلِّم إلا بعد انقضاء وقت طويل. ثانيا، المدرس لا يملك أيَّ دليل دامغ يبيِّن أن المتعلِّمَ فعلا سيء أو ضعيف أو كسول… وخصوصا أن النَّقطَ التي حصَّلَ عليها المتعلِّم لا تدلُّ، على الإطلاق، أن المتعلِّم المعني هو فعلا كسولٌ أو ضعيفٌ…

مثل هذه التَّصرُّفات يجب أن تختفيَ من الممارسة التَّعليمية لأنها تجرح العواطف وتُهين كرامة المتعلِّم. وإذا كان بعض المدرسين يظنون أن تصرُّفَهم هذا سيخفِّز المتعلِّم على بدل مزيد من الجهد للخروج من وضع الكسل والضعف…، فهذا خطأ فادح يتنافى مع المعطيات التربوية éducatives وكذلك مع المُعطيات البيذاغوجية/النفسية psychopédagogiques ولا مع المعطيات الإنسانية.

2.أن يُدلِيَ المدرسُ بالنُّقط المحصَّل عليها مقابل التَّمارين أو الواجبات المدرسية علناً وجهراً داخل القسم. إن هذا التَّصرُّفَ يُعد بمثابة ضربة قاضية لمبدأ "تكافؤ الفرص" الذي، من أجل تكريسه على أرض الواقع، أنشِئت المنظومات التربوية والتَّعليم العمومي. إنه تصرُّف يكرِّس التَّفاوتات التَّعلُّمية التي هي شيء طبيعي داخلَ القسم الواحد.

كل متعلِّمٌ له إيقاعٌ خاص به في عملية التَّعلُّم. وهذا الإيقاع يجب على المدرسة أن تحترمَه وتوفِّر كل الظروف لإزالته عملاً بمبدأ تكافؤ الفرص.

دور المدرس ليس هو إهانة المتعلِّم أمام أنداده بترتيب التلاميذ إلى فئتين متناقضتين : فئة المجتهدين وفئة الكسلاء. دورُه هو بدل الجهود لإلحاق فئة ما يسميه هو الكسلاء بفئة المجتهدين. كل متعلِّم له ظروفُه الاجتماعية، المادية والاقتصادية التي، إما تساعده على التَّعلم وإما تكبح رغبتَه في إنجاح هذا التعلُّم. ما يُؤسف له هو أن المدرسةَ، إلى حد الآن، تبنَّت مبذأ الانتقائية عوض مبدأ تكافؤ الفرص.

3. أن يلجأَ المدرسُ إلى العنف الكلامي أو الجسدي أثناء ممارسته التعليمية التَّعلُّمية اعتقادا منه على أن هذا التَّصرفَ سيساعده على تحفيز المتعلمين على الانحراط قلبا وقالبا في عملية التَّعلم. عادةً، المدرس، من خلال تكوينه التربوي، يعرف جيدا أنه لا شيءَ يدخل دماغَ المتعلم تحت الضغط pression والإكراه contrainte والعنف violence. وحتى إنْ دخلت أشياءٌ للدماغ، فسُرعان ما تتبخَّر لأنها ليست ناتجة عن رغبة المتعلم في التعلُّم. وخير مثال يمكن الاستشهادُ به في هذا الصدد، حفظ القرآن الكريم في الكتاتيب. حِفظٌ سرعان ما يتلاشى لأنه، في غالب الأحيان، تمَّ تحت الإكراه، وبالأخص، تحت شتى أنواع العقاب الجسدي.

4.أن يلجأَ المدرسُ بغير حق إلى الأحكام المسبقة دون التَّوفُّر على ما يثبت صحةَ هذه الأحكام. كأن يقولَ المدرسُ مثلاً : "هذا المتعلِّم لا يريد أن يتعلَّم" أو "غير قادر على التَّعلُّم" أو كأن يقول المدرس "هذا المتعلم محكوم عليه بالفشل" بمعنى أنه لا داعيَ لضياع الوقت معه. المشكل كل المشكل هو أن بعضَ المدرسين يؤمنون إيمانا راسخا بأن هذه الأحكام المسبقة حقيقة و واقع لا يمكن تغييرُه.

بل منهم مَن يعتقد أن هذا الوضعَ موروث، وبالتالي، مرسَّخٌ بيولوجيا في ذات المتعلِّم. بينما هذا النوع من المتعلِّمين المصنَّفين خطأً في خانة الفاشلين هم في الحقيقة ضحايا ظروف نفسية، اجتماعية، اقتصادية، عائلية… إنه وضعٌ خطيرٌ قد تكون له تداعيات مقلقة على الحياة المدرسية للمتعلِّم، وحتى على حياته خارجَ المدرسة. ما لا يجب إغفالُه هو أن المدرسَ له دورٌ مهم في التَّصدِّي لمثل هذا الوضع من خلال إبداعه البيداغوجي والتربوي.

5.أن يلجاَ بعض المدرسين إلى احتقار المتعلمين الذين تصدرُ عنهم أجوبة خاطئة عن الأسئلة التي يطرحُها أثناء إلقائه الدروس. وقد يتمُّ هذا الاحتقار عن طريق كلامٍ جارحٍ أو عن طريق حركة مُهينة. إنه تصرُّفٌ لا يليق بمدرسٍ يُعتبَر مربِّيا ومساهِما في التنشئة الاجتماعية للمتعلِّمين. من الأخطاء يتعلَّم الناس. بل إن الخطأَ كان ولا يزال عنصرا أساسيا في نظريات التَّعلُّم التي تعتمد على الاستفادة من الأخطاء pédagogie de l'erreur.

فعوضَ أن يعتبِرَ المدرسُ الخطأَ مصدرا أو فرصةً للتَّعلُّم، فإنه يعاقِب المتعلِّمَ عليه. وعوضَ أن يُحتقرَ المتعلِّمُ، من الأفيد أن يتمَّ البحثُ عن سبب الخطأ والتَّأكُّد من أن المتعلِّمَ أدركَ ما يجعله يجتنب هذا الخطأ لاحقا. ولهذا، فإن المدرسَ مطالبٌ بأن يُظهرَ للمتعلِّم أنه مهتمٌّ بجواب المتعلِّم ولو كان خاطئا. وقد يكون من المفيد جدا أن يقودَ المدرسُ المتعلِّمَ لتصحيح الخطأ بنفسِه… والائحة طويلة.

وللتوضيح، هذه التَّصرُّفات ليست حكرا على منظومة تربوية دون أخرى. إنها موجودة في العديد من المدارس، سواءً عندنا أو عند غيرنا. إنها ظاهرة كونية تعاني منها المنظومات التربوية على الصعيد العالمي. غير أنه، بالنسبة لمنظومتنا التربوية، أسبابُها كثيرة أذكرُ منها على سبيل المثال :

1.نقصٌ في القوانين المنظِّمة للحياة المدرسية،

2.نقصٌ في التَّكوين التَّربوي للمدرسين علما أن هذا التَّكوين الذي كان في الماضي تدور أطوارُه في المدارس العليا للأساتذة أو في المراكز التَّربوية الجهوية أو حتى في كلية علوم التَّربية كان يُعطي أهميةً كبرى لمواد التّدريس ويُهملُ إلى حدٍّ كبير الجانب البيداغوجي، التَّربوي، النفسي/ التربوي، و بالأخص، سوسيولوجيا التربية التي، من خلالِها، تتمُّ دراسةُ العلاقات التي تربط المدرسَ بالمتعلمين.

3.جزء لا يُستهانُ به من المدرسين اختاروا مهنةَ التَّدريس للإفلات من البطالة ولضمان لقمة عيشهم وليس عن حبٍّ لمهنة التَّدريس والميول إليها بهواية و شغف.

4.مهنة التَّدريس، بحكم ضُعف الأجور التي يتقاضاها المدرسون، لا تجلُب أحسنَ وأجودَ الأطر المتخرِّجة من الجامعات ومن المدارس والمعاهد العليا كالمهندسين و الدكاترة.

5.عددٌ لا يستهان به من المدرسين ليس لهم أي تكوين أو إذا خضعوا لتكوينٍ، فإنه غالبا ما يكون تكوينا قصير المدة، أي لا يسمن ولا يغني من جوع.

6.إذا قمنا بدراسة للوقوف على مستوى تكوين المدرسين العاملين بميدان التَّعليم، على الأقل منذ السبعينيات، فسنجد أن هناك خليطاً غريبا من التَّكوينات التي خضع لها المدرِّسون قبل الالتحاق بالأقسام، فضلا عن وجود فئة لا يُستهانُ بها من المدرسين لم يخضعوا، على الأطلاق، لأي تكوين.

و هذا دليل قاطع على أن مَن بيدهم أمرُ تسيير وتدبير شؤون المنظومة التربوية، إما ليس لهم أية نظرة، على المدى البعيد، لإنجاح هذين التسييرَ والتدبيرَ، وإما كانت المناصبُ وإهمالُ المسئولية، بالنسبة لهم، أولى من بناء مستقبل المتعلمين علما أن جزأً لا يُستهان به منهم يبعثون فلدات أكبادهم لمدارس البعثات الأجنبية أو للمدارس الخصوصية ذات الجودة العالية أو يبعثونهم للدراسة بالخارج.

إن هذا التَّفاوتَ في التَّكوينات ينعكس حتما على أداء المدرسين داخل الأقسام علما أن فشلَ أو نجاحَ المنظومة التربوية في أداء مهامها مرتبطٌ، إلى حدٍّ كبيرٍ، بما يجري داخل الأقسام. وبعبارة أخرى، كلما كان تكوينُ المدرسين عاليا وجيدا، كلما انعكست جودةُ هذا التكوين على أداء المتعلمين تعليماً، تعلُّماً، تربيةً، تهذيباً، تفكيراً، نفتُّحاً، تنويراً، تحرُّراً…

***

18 - خلط كبير بين المفاهيم الثلاثة : التّعليم، التّربية والتَّعلُّم

ثلاثة مفاهيم، لا تقل أهمية عن بعضها البعض، يتم الخلط التام بينها استعمالا ومعنى. والأمر يتعلّق هنا بمفاهيم "التربية" و"التعليم" و"التَّعلُّم" علما أن هذه الظاهرة (ظاهرة الخلط) تُلاحظ على جميع مستويات الممارسة التربوية.

وفي هذا الصدد، المدرسةُ، بحكم مقاومتِها للتغيير résistance au changement، وبحكم الجمود immobilisme الذي أصابها بكيفية مُزمنة، لم تعد قادرةً على التّمييز بين التربية والتعليم والتَّعلُّم أو، بعبارة أخرى، بين فعل "ربى"، فعل "علَّمَ" و"فعل تعلَّم".

لتصل إلى هذا الخلط، نسِيت المدرسةُ، وبالتدريج، المهمّة التي أُنشِئت من أجلها ألا وهي: التربية من خلال التعليم والتّعلم. وقد وصل هذا الخلط إلى درجةٍ أصبح معها الفعل التربوي مقتصرا على مجموعة من الطقوس المُتكرِّرة (نمطية) متوَّجة، بكيفية أو أخرى، بتبليغٍ للمعرفة. إنها مشكلة من المشاكل التي تُعاني منها حاليا منظوماتٌ تربويةٌ عديدةٌ بما في ذلك المنظومة التربوية المغربية.

"علَّم" و"ربّى" مفهومان متلازمان غير أن المدرسة استطاعت أن تفصلَ بينهما. بالفعل، من الممكن أن نعلِّم ونربِّي في آن واحد، لكن من الممكن كذلك أن نعلِّم دون أن نُربِّي. إنه من المؤسف أن يُلاحظ أن البديل الثاني هو السائد في الكثير من المؤسسات التعليمية حيث يطغى تبليغُ المعرفة من أجل المعرفة على التّربية التي تساهم قي بناء شخصية المُتعلِّمين.

التعليم، بمعناه الضيق، يهدف إلى تبليغ المعرفة. ولكن، عندما تُستغلُّ المعرفةُ لتمكين المتعلِّم من إدراك ما يجري في حياته اليومية وتفسير الظواهر والأشياء التي تحيط به، آنذاك، يؤدي التعليم إلى التربية. هذه الأخيرة عبارةٌ عن سياق processus يهدف، قبل كل شيء، إلى تطوير شخصية المتعلم من حسن إلى أحسن.

ولا داعي للقول أن المجتمعَ ليس في حاجة إلى أشخاص رؤوسُهم مملوءة، لكن لأشخاص رؤوسُهم قد تكون مملوءة ولكن، في نفس الوقت، يجب أن تكونَ جيِّدةُ التَّركيب. إن التربيةَ هي التي تصنع الرأسَ الجيِّدةَ التَّركيب. وإذا كان التعليمُ يتوجّه إلى قدرات فهمٍ وتسجيلٍ وحفظٍ (تخزين المعارف) واستظهار المعرفة، فالتَّربية تتوجّه لقدرات المُتعلِّمين على دمج هذه المعرفة في سلوكهم (سلوك مهاري، سلوك نفسي-اجتماعي، الخ.)، أو إن صحَّ القولُ، ما هي انعكاسات المعرفة السَّالفة الذِّكر على شخصية المتعلِّم، على نشأته الاجتماعية، على إدراكه للعالم المحيط به، الخ. وباختصار، التعليم يُثقِّف المتعلِّمَين، بينما التربية تُكوِّنهم (طاقات aptitudes، قدرات capacités، كفاءات compétences، مهارات habiletés، سلوك نفسي-اجتماعي comportement psychosocial، استقلالية autonomie، تكيُّف adaptation، الخ.).

يجب أن يختفي الخلط بين "التّربية" و"التّعليم" من المنظومة التربوية نظرا لانعكاساته السِّلبية على الممارسة التربوية والمتعلِّم حيث أن فاعِلي هذه الممارسة، أي المدرسين، أصبح الكثير منهم لا يعير أي اهتمام لهذا الخلط.
بالنسبة لهؤلاء المدرسين، يُعدُّ تبليغُ المعرفةِ فعلاً مُربِّياً ضِمْنيا وافتراضيا شرطَ أن يبذلَ المتعلِّمُ الجهدَ المطلوبَ. ولو افترضنا أن المتعلِّمَ قام بالمجهود المطلوب، فإن ما يُطْلب منه يوم الامتحان، وبكل غرابة، هو استظهار هذه المعرفة وليس أيةَ تغييرات أحدثتها هذه الأخيرة على مستوى شخصيته.

ومن جهة أخرى، إن هذا الخلط ليس حكرا على المدرسين. إنه متداول حتى في الأوساط الخبيرة، في الوثائق الرسمية، في المراجع التربوية و وسائل الإعلام. فيما يخص المدرسين، لا يأتي هذا الخلط من فراغ. إنه مُتَرَتِّبٌ عن تكوينهم الذي، مسبقا، لا يعطي أهمِّيةً للتمييز بين هذين المفهومين.

يختلف التّعلُّم عن التعليم بكونه يذهب إلى أبعد من مجرد تبليغ المعرفة. الحديث عن التّعلُّم يجرنا إلى الحديث عن تملّك، ليس فقط المعارف، لكن، كذلك، المهارات والقدرات وغالبا كذلك عن سلوكات نفسية-اجتماعية.

التّعلُّم، كنشاط دراسي يتقارب مع التربية. ولهذا، فإن أي فعل تعليم acte d'enseignement، إن لم يكن حاملاً لبعد تربوي، فإنه يتحوَّل بكل بساطة، عاجلا أو آجلا، إلى مُجرد تبليغٍ للمعرفة وتراكمها لدى المتعلِّمين. وليكونَ للتعليم وقعٌ على شخصية المتعلِّم وعلى سلوكه، يجب أن يُدمج فيه بعد تربوي من خلال التَّعلُّم. التعليم، كوظيفة اجتماعية، يجب أن يُقْرَنَ بالتَّعلُّم. وهو ما توحيه عبارة "تعليم-تعلم" المتداولة في الوسط المدرسي.رسي. هذان الأخيران مرتبطان ارتباطا وثيقا بمعنى أن التعليم دعامة طبيعية للتَّعلُّم.

عندما يتعلق الأمر بعملية التعليم والتَّعلُّم acte d’enseignement-apprentissage، يغادرُ (يتخلَّى عن) التلميذُ صفةَ (وضعَ) "الفرد الذي يتلقَّى" récepteur، ليتقمَّص صفةَ "المُتَعَلِّم" apprenant، أي إنسان يرغب في التَّعلُّم أو يريد أن يتعلَّم. "التّعلُّم" هو السّعي إلى الفهم والإدراك.

التّدقيق هنا في المعنى أساسي ومن المفترض أن يقودَ، من جهة، إلى وضع المتعلِّم في "حالة تُؤَهِّبُهُ للفهم"، أي أن يكون بكل بساطة هذا الأخيرُ على وعي بأن كل ما يجري داخل القسم مُسَخَّرٌ لمساعدتِه على الفهم. ومن جهة أخرى، من المفترض أن يقودَ أيضا التّدقيق إلى الحد من اعتبار المدرِّس كمالكٍ للمعرفة أو "ذلك الذي يعرف". بل بالعكس، يجب أن يصبحَ ذلك الشخص الذي يُسهِّل بناءَ هذه المعرفة أو إعادةَ بنائها وتملُّكِها من طرف المُتعلِّم. وفعل "يُسَهِّلُ" يعني هنا أن المدرِّس يُركِّز على كل ما يجعل التّعلُّمَ فعلياً (علاقة مدرس-متعلم).

وعليه، عندما يُدَرِّسُ المدرِّسُ، لا يجب أن يكون هدفُه حصريا إغناءَ معارف المتعلِّم ولكن كذلك وبالأخص، حَثُّهُ على إتباث رغبة هذا المتعلِّم في التَّعلُّم (رغبة في الفهم) والاستفادة منها. وبعبارة أخرى، فعلى المدرِّس أن يبذل الجهدَ الضروري ليفهمَ بدوره كيف يَتَعَلَّمُ المتعلِّم. وهنا، تجدر الإشارةُ إلى أن البيداغوجيا والديداكتيك (علم تدريس المواد) تصبحان أداتين لا غنى عنهما لوضع المدرِّس والمتعلِّم في حالة فهمٍ متبادلٍ.

وتأكيدا لما سبق، هناك كلمات غالبا ما تُستعمل كمرادفات synonymes لمفهوم "التَّعلُّمِ" من بينها على سبيل المثال : تربية éducation (سلوك نفسي-اجتماعي)، تجربة expérience (مهارات، قدرات)، تكوين formation (بناء الشخصية على المستوى الفكري من خلال معارف وقدرات وسلوك نفسي-اجتماعي)، بيداغوجيا pédagogie (أداة لإنْحَاحِ التَّعلُّم)، ممارسة pratique (قدرات، مهارات، كفاءات)، الخ. وهذا يعني أن التَّعلُّمَ لا يُخْتَزَلُ في تبليغ المعرفة بل يهدف إلى تحسين شخصية المتعلِّم بمعنى أنه يساعد على تنمية (بناء) الكفاءات compétences، المهارات habiletés ، القدرات capacités ، الخ. أوبكيفية أخرى، على التَّفتُّح الفكري épanouissement intellectuel.

***


19- الاستعمال الروتيني لبعض العبارات في الممارسة التعليمية، "غَرَزَ في الذهن" كمثال

ليس من النادر أن نسمع في الوسط المدرسي، أثناء المحادثات المألوفة أو في الممارسة التعليمية عبارة expression "غَرَزَ المعرفة في ذهنٍ ما" inculquer le savoir dans la tête de quelqu'un أو "غرس" أو "جذَّرَ" المعرفةَ في فكرٍ ما. حسب المعاجم المعروفة، "غرزَ في الذهن" تعني أدخل، طَبَعَ في الذهن، نقش، أقحم في ذهن المتعلم (تلميذ). وهذا يفترِض أن الذي يريد أن يغرِزَ في الذهن، أي المدرس، له القدرة، بطريقة أو أخرى، على الولوج إلى دماغ المتعلِّم ليغرز فيه المعرفة.

تفترض عمليةُ "غَرَزَ في الذهن" أنه من الممكن أن نُجْبِرَ contraindre/forcer دماغَ المتعلِّم ليتشرَّب absorber بالمعارف. هذا، بالطبع، شيءٌ غير ممكن ومضادٌّ ل"رغبة التَّعلُّم" le plaisir d'apprendre، التي، بدونها، لا شيءَ ينفذ إلى دماغ المتعلِّم. وبالتالي، فإن إرغامَ ذهن المتعلِّم على التَّشرُّب بالمعارف، خارجَ رغبتِه في التَّعلُّم، هو، في الحقيقة، بمثابة إدخال المتعلِّم في وضع مُهِينٍ offensant، مُحْبطٍ décevant ومُنَفِّرٍ repoussant، بمعنى أن هذا المتعلم يُعْتَبر، من جهة، كمكان يمكن أن تُجَذَّرَ enraciner به المعرفة، ومن جهة أخرى، كآلة قادرة، بقدرة قادر، أن تقبضَ capturer، تنزعَ arracher أو تجدَ trouver المعرفة بدون أدنى استعمال للقدرات الفكرية. وهذا يعني أن المتعلِّمَ يتعلَّم تحت الضغط pression والإكراه contrainte، الشيءُ الذي يتنافى كليا وجوهريا مع ما تفرضه البيداغوجيا وعلم النفس التَّربوي psychopédagogie.

بالفعل واستنادا للمعطيات البيداغوجية والنفسية-البيداغوجية والإبيستيمولوجية، لا يمكن، على الإطلاق، أن نغرزَ أي شيء في ذهن أي كان. كل ما يمكن فعلُه هو مساعدة وتحضير شخص ما ليُكوِّن فكرة ما عن الشيء الذي يرغب في معرفته. وهنا، يكمن دورُ المدرس في مساعدة المتعلِّم على بناء المعرفة أو إعادة بنائها.

وعلى سبيل المثال، إن مفهوم البيئة مثلاً يبقى شيئا مُبهما بالنسبة للعديد من المتعلِّمين. وإذا تمكَّن متعلمون من إعطاء معنى لهذا المفهوم، فذلك يكون دائما انطلاقا من خلفية فكرية وثقافية أو من إطار مرجعي (الواقع المعاش) cadre de référence. والحال هذه أن هذا المرجع لا يكون متشابها بالنسبة لجميع المتعلمين. كل متعلِّم له فكرة عن مفهوم البيئة استنادا إلى إطار مرجعي يخصه. بالنسبة لمتعلِّمين ما، البيئة هي كل ما يحيط بهم. وبالنسبة لآخرين، هي التلوث وبالنسبة لآخرين، ليس هناك فرق بين البيئة وعلم البيئة، الخ.

إنها كلها تصورات تلقائية (تمثُّلات) représentations spontanées لمفهوم البيئة، مستمَدَّة من الواقع المعاش، لكنها تشكِّل، في نفس الوقت، عقباتٍ أو عراقيلَ تحُول دون امتلاك المعارف المدرسية المنظَّمة. ومن هذا المنطلق، دورُ المدرس هو إزالة هذه التمثُّلات التلقائية وتعويضها بتعريف للبيئة متعارفٌ علية، أي، بصفة عامة، تعويض المعارف التِّلقائية بمعارف منظَّمة (مدرسية). وهنا، تكمن براعةُ المدرس في المزج بين التَّعليم والتَّربية والتَّعلُّم.

وبعبارة أخرى، إن المتعلِّمين، بحكم تفاعلٍ اجتماعي-لغوي، لهم تصوراتُهم الخاصة لمفهوم البيئة أو لأي مفهوم آخر، وذلك قبل أن تطأ أقدامُهم عتبةَ المدرسة. فدور هذه الأخيرة ليس هو وضع معرفتها ورَكْمُها فوق suprposer تلك التي يمتلكونها مسبقا. بل بالعكس، عليها أن تُوجِدَ الظروفَ الملائمةَ التي تمكِّن المتعلمين من إيجاد حل للصراع conflit القائم بين هذين النوعين من المعارف، وبالتالي، استبدال تصوراتهم العفوية بالمعارف التي تُدَاوِلُها المدرسة، أي المعارف المنظَّمة.

من هذا المنطلق، لا يمكن غرزُ المعرفة في ذهن المتعلِّمين. بل بالعكس، إنهم يبنونها قطعة قطعة مستعملين قدراتهم الفكرية أو، بمنظور آخر، إنهم يستبطِنون المعارفَ باستعمالهم سياقات بناء المعرفة (Processus cognitifs). المتعلِّمون عبارة عن كائنات تفكِّر، تَسْتَدِلُّ، تحلِّلُ، تحكم، تتخيل، الخ. فعلى الممارسة التعليمية أن تتجند لتسهيل تحرُّرهم الفكري.

فالحديث عن "غرز في الذهن" هو بمثابة فرض معارف على المتعلمين من خلال تعليم قهري coercitif مرادف للتلقين المذهبي endoctrinement. في هذه الحالة، يُعْتَبَرُ المتعلِّم ليس ككائن يفكِّر ولكن كعجين تُنَمْذِجُهُ (تُشَكِّلُهُ) façonner الممارسة التربوية كما يحلو لها.

بكل أسف، إن هذه المقاربة البيداغوجية التي تتلخّص بكل بساطة في مجرد تبليغ جاف للمعرفة، لا تزال منتشرةً في مؤسساتنا التعليمية. فعوض أن تنشغلَ هذه الأخيرة بالارتقاء بنمو قدرة بناء المعرفة cognition عند المتعلمين، فإنها تولي أهمية مبالغا فيها إلى تراكم المعرفة عند هؤلاء المتعلمين (الرأس المملوءة عوض الرأس الجيدة التركيب tête bien pleine au lieu de tête bien faite).

إن منظورا للتعليم كهذا يندرج، من الناحية الديداكتيكية والبيداغوجية-النفسية، في التيار البيهافيوري courant behavioriste الذي يُغيِّبُ الملكات الفكرية للمتعلِّمَ ويعتبر دماغَه فارغا من أية معارف، أوبعبارة أخرى، يعتبر المتعلِّمَ صفحةً بيضاء يمكن شحنُها، بكل سهولة، بالمعارف المدرسية، في تجاهل تام لِما قد راكمه هذا المتعلِّمُ من معارف تلقائية بحكم تفاعلِه مع الوسط الطبيعي والبشري الذي ترعرع فيه، قبل التحاقه بالمدرسة.

فهذا النوع من التَّعليم الذي يدَّعي "غرزَ المعرفة في الذهن" يهمِّش المتعلِّمَ كإنسانٍ يفكِّر، يرغب في التَّعلُّم ويريد أن يفهمَ. كما يهمِّش قدرةَ المتعلِّم على الإبداع وأخذ المبادرة وعلى ممارسة الفكر النَّقدي. تعليمٌ يُنتِج فقط أشخاصا منمَّطين، إن لم نقل آلاتٍ لترديد psittacisme ما فُرِضَ عليهم من معارف!

***

20- البيداغوجيا، فن التدريس

أولا، لا بد هنا من توضيحٍ من الأهمِّية بمكان. هناك مَن يُفسِّر كلمة "بيداغوجيا" pédagogie بمفردة "تربية" éducation. وهذا، في نظري، غير ملائم لأن أصل الكلمة يوناني وكان يعني مرافقة واصطحاب الطفل إلى المدرسة ومتابعة مساره الدراسي من طرف خادم مملوك.

تطوَّر هذا المعنى وأصبحت كلمة بيداغوجيا مرادفةً ل"تربية"، "تعليم"، تعلُّم"، "طريقة"، الخ. بينما التَّربية، التي لها علاقة ببناء الشخصية، ليست حكرا على الأطفال حيث لا تتوقف عند عمر محدَّد، بمعنى أن بناء الشخصية مستمر طول الحياة. ولهذا، أفَضِّلُ إستعمالَ كلمة "بيداغوجيا" عندما يتعلَّق الأمر بالممارسة التَّعليمية وأترك كلمة "تربية" للاستعمال الواسع المعنى. وهذا لا يعني أن البيداغوجيا لا تساهم في بناء الشخصية الذي من المفروض أن يكون هدفاً من أهدافها الأساسية.

البيداغوجيا عبارة عن مجموعة من الأدوات outils والوسائل moyens والسِّياقات processus التي يلجأ لها المدرس لإنجاح العملية التعليمية-التعلُّمية. يمكن أن تكون هذه الأدوات والوسائل والسِّياقات غير ملموسة كالخطاب (لغة، كلام)، التواصل، الإشارات، الخ. ويمكن كذلك أن تكون ملموسة (مُعينات auxiliaires) كالمعدَّات الديداكتيكية matériel didactique، المعدات العلمية matériel scientifique، الوثائق documents، المراجع المدرسية manuels scolaires، التجارب expériences، المكتبات bibliothèques، معدات البرهنة matériel de démonstration، الحواسيب ordinateurs، الخ.

التعليم هو إغناء المعارف والتثقيف من خلال تبليغ المعرفة. التعلُّم يقترب من التربية من حيث الهدف. التَّعلُّم مركزُه المتعلِّم بينما التَّربيةُ، من المفروض، أن تصاحبَ التَّعليم ليستفيدَ منها المتعلِّمُ من خلال التَّعلُّم.

البيداغوجيا هي إذن مجموع التدخلات interventions التي يقوم بها المدرس داخل القسم، معنويا أو ماديا أو هما معا، ليجعل التعليمَ يلعب ليس فقط دورَه التثقيفي، ولكن كذلك، وبالأخص، دورَه التربوي. البيداغوجيا تهمّ المدرسَ كمثقِّف ومربي من جهة، ومن جهة أخرى، تهمّ كذلك الطفلَ والمراهقَ كمتعلِّمين. إنها تهتم إذن بنوعية العلاقة التي تربط المدرسين بالمتعلمين.

يتمثل دورُ البيداغوجيا إذن في جعل هذه العلاقة، أولا، أكثر نجاعة بالنسبة للمدرس، و ذلك من خلال إعداد طرائق بيداغوجية méthodes pédagogiques ملائمة، وثانيا، أكثر نفعاً واستفادةً بالنسبة للمتعلِّمين، وذلك من أجل استبطانٍ (تملُّكٍ) سهلٍ للمعرفة ولكن كذلك من أجل بناء كفاءات عملية (مهارات، قدرات، تفجير طاقات...) وسلوكيات اجتماعيو-وِجداني socio-affectifs (التصرف في المجتمع، رد الفعل أمام ظروف وحالات معينة...).

وما يجب الانتباهُ إليه، هو عدمُ الخلطِ بين البيداغوجبا والديداكتيك didactique التي تهتم بتنظيم وتعليم مضامين التَّخصُّصات (المواد) disciplines. والبيداغوجيا ليست التربية بالمعنى الضيق. لكن التعليم قد يفقد دوره التربوي بدون بيداغوجيا ملائمة. في غياب ببداغوجيا ملائمة للعملية التَّعليميو-التَّعلُّمية، يصبح التعليم عملا آليا acte mécanique لحشو الأدمغة بالمعارف لا أفق فيه للتفتُّح épanouissement.

فكل ما يقوم به المدرس داخلَ القسم من أعمال وأفعال وحركات وتفسير وتوضيح وشرح وتواصل… يدخل في نطاق البيداغوجيا. علما أن كل التَّدخلات التواصلية، الملموسة وغير الملموسة، لها هدفٌ واحدٌ، رئيسي، أساسي وأخير : تسهيل التَّعلُّم من طرف المتعلِّم.

وفي نهاية المطاف، البيداغوجيا عبارة عن مجموعة من النظريات التي يجسِّدها ويحوِّلها المدرس إلى أعمال ملموسة داخل القسم ليجعل التعليم عذبا، جذَّابا، مثقِّفا ومربِّيا. من هذا المنطلق، تُنعَت البيداغوجيا أحيانا ب"فن التدريس" l'art d'enseigner، بمعنى أن المدرس يتحوَّل إلى فنان قادر على تحويل البيداغوجيا، كنظريات، إلى أوضاع ملموسة، محسوسة و واقعية يتم إدراكها، بسهولة، من طرف المتعلِّمين.

وإذا اقترن فن التَّدريس بالموهبة وبتكوينٍ رفيعِ المستوى للمدرس، وبالأخص، في مختلف مجالات علوم التربية، فإن هذا الفنَّ يستطيع أن يحوِّلَ التَّعليمَ والتَّعلُّم إلى تربية تساهم في بناء شخصية المتعلِّمين.

وأمهر المدرسين هم الذين يجعلون من فن التَّدريس وسيلةً لتأجيج رغبة التَّعلُّم عند المتعلِّمين وجعلهم يُساهمون في تنشيطِ القسم. حينها، يصبح فن التَّدريس عبارة عن بيداغوجيا نَشِيطَة pédagogie active.

واليداغوجيا النشيطة هي أسلوب في التّدريس يكون فيه المتعلِّمون شركاء في تنشيط العملية التعليمية-التعلُّمية، وبالتالي، يتعلَّمون بأنفسهم، لكن بمساعدة المدرس الذي، في هذه الحالة، يلعب دور الوسيط intermédiaire بينهم وبين المعرفة. لكن وسيطٌ هو، في نفس الوقت، منشِّط، محفِّز، مساعِد، مرافق، مشجِّع… دوره الأساسي هو تمكين المتعلِّمين من بناء المعرفة أو إعادة بنائها.

والبيداغوجيا النشيطة تتنافى مع البيداغوجيا التَّوجيهية pédagogie directive التي يتم فيها التركيزُُ على تبليغ المعرفة، وبالتالي، يكون فيها المدرسُ هو الأكثر تدخُّلا في العملية التعليمية-التعلُّمية. المدرس هو الذي يشرح، يفسِّر، يُخبر، يكتب على السبورة، يُبيِّن، يفرض… ويبلِّغ المعرفةَ للمتعلِّمين، أي من الذي يعرف إلى الذين يتعلَّمون.

***

21- الديداكتيك، تنظيم وتدريس مضامين تخصُّصية

الديداكتيك didactique فرع من فروع علوم التربية. وبمعنى آخر، يمكن أن نعرِّفَها كعلم تدريس التخصصات (المواد) science de l'enseignement des disciplines. لا يجب الخلط بينها وبين البيداغوجيا pédagogie وعلم النفس التربوي psychopédagogie.
الأولى، أي البيداغوجيا، عبارة عن مجموعة من الأدوات والمعينات والوسائل يعتمد عليها المدرس لضمان تبليغٍ وبناءٍ جيدين للمعارف. الثاني، أي علمُ النفس التَّربوي، هو نتيجة لتكاملٍ بين البيداغوجيا وعلم نفس الطفل والمراهق psychologie de l'enfant et de l'adolescent. يُعدُّ علمُ نفس الطفل والمراهق عنصرا حاسما يمكِّن من تكييف العملية البيداغوجية أو التعليمية-التعلمية مع المعطيات والمميزات النفسية للطفل والمراهق بصفتهما متعلمين.

ورغم أن البيداغوجيا وعلم النفس التربوي مكونات لا يمكن الاستغناء عنهما في مقاربات الديداكتيك، فإن هذه الأخيرة تهتم بالتعليم كمضمون له وظيفة اجتماعية، ثقافية وتربوية. هدفُها الرئيسي هو تعبئة المعارف والمفاهيم الضرورية لفهم هذه الوظيفة وإدراك نجاعتها.

يقوم المتخصِّصُ في الديداكتيك بتوغلات داخل المعرفة (مضامين التعليم) ليعرف وضعََها، ملاءمَتَها وأسسَها النظرية. إنه يهتم بطبيعة المعارف (المضمون الصالح للتعليم) حيث أن هذه الطبيعة لها تأثير واضح على العلاقة مدرس/متعلمون، أي على إعداد الطرائق البيداغوجية les méthodes pédagogiques.

وتبسيطا لما سبق، يمكن القول بأن البيداغوجيا هي الأداة التي يلجأ لها المدرس ليبلِّغَ المعارف ويُربي. وليعلِّمَ ويُربي بنجاعة وبشكل مُتمِر، عليه أن يأخذ بعين الاعتبار النموَّ والتطورَ النفسيين (علم النفس التربوي) للمتعلم (طفل، مراهق). وبما أن التثقيف والتربية يتمان من خلال المعرفة المدرَّسَة، فعلى المدرس أن يتوفَّر كذلك على معطيات عن طبيعة هذه المعرفة.

وللإشارة، إن المعرفةَ التي لها ارتباطٌ بالزمان والمكان، أي تم توضيحُها اجتماعيا وتاريخيا وفلسفيا، تكون سهلة الإدراك compréhension والاستبطان appropriation، خلافا لمعرفةٍ مفصولةٍ عن واقعها ومثالية idéale. الديداكتيك هي التي تبين طبيعةَ المعرفة المدرَّسة وذلك بالاستعانة بمعطيات données الإبيمستولوجيا épistémologie، وفلسفة المعارف والتَّربية philosophie des connaissances et de l'éducation، وتاريخ المعرفة والعلوم histoire des connaissances et des sciences، بصفة عامة. كما تستعين كذلك بمعطيات علم اجتماع العلوم sociologie des sciences. وهذه الطبيعة تختلف من تخصص إلى آخر حيث أصبح لكل تخصص ديداكتيك خاص به، أي ديداكتيك تتلاءم والطبيعة السالفة الذكر. وهكذا، حينما نتحدث عن ديداكتيك العلوم، فالأمر يتعلق، مثلا، بديداكتيك الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات، أو العلوم الطبيعية أو علوم الحياة...

في نهاية المطاف، توضيح طبيعة المعرفة هو، في الحقيقة، توضيحٌ لعلاقة المدرس والمتعلمين بهذه المعرفة. بدون هذه العلاقة، تظل العملية التعليمية-التعلمية مجردَ عملية آلية acte mécanique، أي عملية محصورٌ هدفُها في نقل طقوسي rituel للمعارف في أفق مدرسي محض dans un contexte exclusivement scolaire.

إنه وضعٌ يتنافى مع غايات التعليم التي، في نهاية المطاف، تسعى إلى تثقيف وتربية المتعلِّمين. في حالة وجود هذا التَّنافي، تصبح المعارف أشياء بدون هوية، لا طعم لها، لا رائحة لها ولا لون. إنها تُفرض على المتعلمين تحت تأثير بيداغوجيا ظاهريا مقبولة pédagogie apparemment acceptable وأساسا دكتاتورية pédagogie fondamentalement dictatoriale.

ولهذا، فعندما نتحدث عن طبيعة المعارف، من الضروري أن يطرحَ المدرس على نفسه بعض الأسئلة، منها على الخصوص :

-لماذا سينقل مجموعة معيَّنة من المعارف للمتعلِّمين؟
-هل هذه المعارف معقدة بالنسبة لهؤلاء المتعلِّمين؟
-ماذا ينتظر من تغييرات في السلوك وفي التفكير بعد تبليغه لهم هذه المعارف؟
-ماذا سينهج من تدخُّلات بيداغوجية ونفسية تربوية لإحداث هذه التغييرات عند المتعلَّمين بعد تلقِّيهم هذه المعارف؟...

وهذا يعني بوضوح أن مهارةَ المدرس تكمن في قدرته على مزجٍ مدروسٍ بين البيداغوجيا وعلم النفس التَّربي والديداكتيك علما أنه من الضروري بمكان أن يُميِّزَ هذا المدرس بين البيداغوجيا وعلم النفس التربوي وذالديداكتيك.
و لتبسيط الأمور :

الديداكتيك تهتم بمضامين (المعارف وطبيعتُها فكريا واجتماعيا) التعليم وتبليغها للمتعلمين.

علم النفس التربوي يهتم بقدرات المتعلمين على المعرفة والإدراك cognition حسب أعمارهم.
البيداغوجيا تهتم بكل ما يجري داخل القسم من علاقات، من جهة، بين المتعلمين أنفسهم، ومن جهة أخرى، بين المدرس والمتعلمين علما أن الهدف الأساسي لهذه العلاقات هو تهييء هؤلاء المتعلمين نفسيا، فكريا وسلوكيا للاستفادة من عملية التعليم والتعلًّم خصوصا على المستوى التَّربوي.

***

22 - إصلاح بعد إصلاح بدون فلاح!

لقد سئم الشعب المغربي من إصلاحات المنظومة التربوية. شأنها شأن بعض الحشرات التي تُعتَبر ضارةً في منطق الإنسان، والتي في نهاية المطاف، تتكيَّف مع المبيدات pesticides التي لم تعد تقضي عليها. وهذا هو ما حدث ويحدث للمنظومة التربوية التي لم تعد الإصلاحات المتكرِّرة والمتتالية تغيِّر فيها شيئا. وخصوصا إذا كانت الإصلاحات انتقائية بمعنى أنها لا تتصدى للمنظومة ككل متكامل وغير قابل للتجزيء.

وفي هذا الصدد، يا ما تم مثلا تغيير وتحيين المقرَّرات والبرامج الدراسية بدون جدوى بما يتبع ذلك من تغيير في الكتب المدرسية وما يُكلفه هذا التغيير من موارد مالية. غير أن دارَ لقمان بقيت على حالها.

إن دل هذا على شيء، إنما يدل على قِصَرِ نظر مَن يقومون بإصلاح المنظومة التربوية. المشكل ليس في تغيير مُكوِّنٍ من مُكوِّنات هذه المنظومة. المشكل في المنظومة التربوية يرُمَّتها منظورا، مضمونا، تدريسا، تكوينا، تسييرا، تدبيراً، جودةً وعلاقةً بالمجتمع وسيرورته.

يتعلق الأمر بإعادة النظر جذريا في النموذج النظري paradigme الذي ارتكزت عليه إلى حد الآن سياسة التعليم والتربية والتكوين. وبعبارة أخرى، إعادة النظر في الأسس النظرية لتستجيب لمُتطلبات البلاد إنسانيا، اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا، علميا، تكنولوجياً، صناعيا، إنتاجيا،... وكذلك للتغييرات التي تحدث في العالم.

وفي هذا الصدد، يجب القطع نهائيا مع تراكم المعرفة من أجل المعرفة التي يجب تسخيرُها أولا وقبل كل شيء لتمكين المُتعلمين من الفكر النقدي esprit critique وحِس المبادرة prise d'initiative والتَّحرُّر émancipation والتفتُّح épanouissement الفكريين والاجتماعيين. كما يجب القطع نهائيا مع الببغائية psittacisme والعمل على تسخير المدرسة لإنتاج مواطنين حاملين لقيمات مضافة يستفيدون منها ويُفيدون بها بلدَهم.

المدرسة المغربية، إن لم تساهم في بناء الإنسان المغربي الحر فكريا واجتماعيا والمُنتج اقتصاديا، علميا وثقافيا، فهي عبء على المجتمع وعلى الدولة. فهي فقط غول يبتلع الأموالَ بدون جدوى. في بلد كالمغرب، المحدود الإمكانيات المادية، إنه بكل بساطة، إهدار للمال العام.

مدرستنا اليوم بعيدة كل البعد عن هذه التطلُّعات ونجحت فقط في إنتاج مواطنين غير قادرين على التكلُّف حتى بأنفسهم، مواطنين يعتمدون على الغير في كل شيء. و بعبارة أخرى، أميين من نوع جديد.

مشكل التعليم في بلادنا ليس، على الإطلاق، مشكل ميزانية أو موارد مالية. إنه مشكل حكامة، وبالأخص، مشكل جودة لها علاقة وطيدة بتكوين المدرسين. والجودة لا تمطرها السماء. إنها تُبنى، وخصوصا، من خلال تكوينٍ رفيعِ المستوى علميا وتربويا لمن تقع على عاتِقهم تكوينُ الأجيال المتعاقبة على المدرسة.

و في الختام و كما أقول دائما : "المجتمع صورة لمدرسته والمدرسة صورة لمجتمعها".

***

23- ماذا عن المتعلم، كعنصرٍ في طور الإعداد الاجتماعي وكفاعلٍ لاحقٍ في التنمية؟

قبل أن أحاول الجواب عن السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة، أي "ماذا عن المتعلم، كعنصر في طور الإعداد الاجتماعي وكفاعلٍ لاحقٍ في التنمية؟"، يبدو لي من المفيد أن نرجع إلى الوراء بحوالي 60 إلى 70 سنة، وذلك للوقوف على مواصفات هذا المتعلم في تلك الفترة وما آلت إليه في الوقت الراهن.
في تلك الفترة، عندما يتم تسجيل طفلٍ، لأول مرة للإلتحاق بالمدرسة، فإنه يدخل مرحلةً من حياته يكون فيها موضوعَ احترام وتقدير من طرف أسرته، ومحيطه والمجتمع. وَضْعُ الرِّجل الأولى بالمدرسة كان يساوي وضعَ قدم أولى في عالم المعرفة وكذلك نحو عالم الشغل. بل أكثر من هذا، كانت المدرسة تُعتَبر كفضاء ثاني بعد الأسرة حيث الطفلُ مدعوٌّ لتقوية التربية التي تلقاها ويتلقاها في المنزل.

غير أنه، رغم هذا الاعتراف الأسري والاجتماعي، كانت تربيةُ الطفلِ الأُسرية مقترنةً، في غالب الأحيان، بالقَسر contrainte ou coercition إلى حد أن هذا الأخير لا حقَّ له في الخطأ وإلا سيتعرَّض للعقوبات وعلى رأسها، العقاب الجسدي.

بكل بساطة، إنه نموذج تربيةٍ تم استنساخُه من طرف المدرسة، أي أن تَعلُّمَ الطفل وتربيتَه يتمان تحت تأثير العقاب châtiment ou punition. يُعاقَبُ إذا لم "يُجِد حفظَ دروسه" وكذلك إذا كان مشاغبا ومضطربا بفصل الدراسة. فعليه أن يلعبَ دورَ الطفل الطيِّع malléable، المنصاع docile والمطيع obéissant. لا يجب أن يتكلم إلا إذا طُلِب منه ذلك. مساهمتُه في تَعلُّمه الشخصي تكاد تكون منعدمة. معارفه، كيفية فهمه وإدراكه للعالم، لمحيطه وللأشياء، شأنٌ لا تولي له المدرسةُ أي اهتمام، بل هو شأنٌ يخصه هو وحده. من أول وهلة، كل هذه العناصر تُعتَبر خاطئة لأنها صادرة عن طفلٍ. إنجازاتُه البيداغوجية تُخْتَزَلُ في تسجيل وحفظ واستظهار المعرفة المفروضة عليه من طرف راشد adulte.

وخلاصة القول، يمكن أن نقولَ إن الطفلَ يُعتبر كورقة بيضاء جاهزة للملإ من طرف الأسرة والمدرسة (المدرس). وقد لا يكون من المبالَغ فيه إذا قلتُ ليس التعليم هو الذي يجب أن يتكيَّف مع نفسية المتعلم psychologie de l'enfant، بل بالعكس، إن هذا الأخير هو الذي يجب عليه أن ينصاع se soumet لمتطلبات هذا التعليم. والدليل على ذلك أنه في حالة رسوبه، فالمسؤولية لا تُلقى أبدا على الآخرين. إنه، غالبا، ما يُعتَبَر المسؤولُ الشخصي الوحيد على رسوبه لأن المدرس والمعرفة التي يلقِّنها يعتبران أشياء لا جدال فيهما.

إن هذا الوضع ليس، إطلاقا، مفاجئا وذلك لعدة اعتبارات.

أولا، كان المدرس يُعتبر مالكا للمعرفة، ليست أية معرفة، معرفة يُنظر إليها كمعرفة صحيحة، أي صورة طبق الأصل للواقع réalité، بمعنى أنها تعكس الحقيقة. ماذا بقي إذن للمتعلم؟ إلا أن يَقبلها، يُسجلها في ذاكرته ويحفظها عن ظهر قلب.

ثانيا، إن الأبحاث في مجال البيداغوجيا وعلم النفس التربوي والتعلُّم لم تكن متطوِّرةً، كما هو الشأن اليوم. يمكن القول بأن البيداغوجيات البيهافيورية behavioristes، التي يكون فيها النَّصيبُ الأكبر، داخلَ القسم، للمعرفة وللمدرس الذي ينقلها كانت هي السائدة في الوسط المدرسي. ومن جهة أخرى، كانت هذه الأخيرة تظهر بجلاء في تكوين المدرسين. وباختصار، في تقديري الشخصي، يتعلق الأمر بوضع منطقي لأن تكوينَ المدرس، من منظور إبيستيمولوجي d'un point de vue épistémologique يؤثر على وضعِ المتعلم النفسي-التَّربوي psychopédagogique ويُوجِّهه نحو الصفات المشار إليها أعلاه.

وللتوضيح، إن الأقوالَ والأفكارَ الواردة أعلاه لا تهدف بتاتا إلى تبخيس قيمة مدرسة تلك الفترة. إن خريجي هذه المدرسة (وأنا منهم) نجحوا فعلا في الاندماج في المجتمع وفي وسط الشغل. العديد منهم تقلَّدوا فعلا ولا يزالوا يتقلدون مسئوليات عليا. بل بالعكس، إن هذه المدرسة لعبت دورَها بجِدِّيةٍ في مجال تبليغ المعارف والتربية المدنية للمتعلمين. ما يمكن أن يُعابَ عليها هو تبنِّي تعليم يهدف إلى الحصول على الرأس المملوءة وإهمال شيئا ما الرأس الجيدة التكوين حيث أن تَحَرُّر وتَفَتُّحَ شخصية المتعلم لم تُشكِّلا الاهتمام الأول للعملية التعليمية-التعلُّمية التي للمدرس فيها تدخل كبير. لكن هذا التَّوجُّه البيداغوجي الذي سارت عليه مدرسةُ الأمس، فرضه الزمان والمكان اللذان كانت تشتغل فيهما هذه المدرسةُ. ومع ذلك، فإن خريجي مدرسةِ الأمس استطاعوا أن يبنوا شخضيتَهم بما وفَّرته لهم هذه المدرسة من معارف وسلوكيات. لكل زمان مدرستُه.

اليوم، نظرا لما يعرفه البحث في مجال علوم التربية من تقدم، أصبح للتعليم والبيداغوجيا وعلم النفس التربوي والديداكتيك تطوُّرٌ واضح. إن الأمر يتعلق بتغيير مثال مرجعي paradigme يترتب عنه تغييرُ مواصفات statut ou profil المدرس والمتعلم والمعرفة. أصبح المدرس ذلك الشخص الذي يوجِّه oriente، يخفف adoucit، يشجع encourage، يحفِّز motive، يحث incite... بينما أصبح المتعلم هو مركزُ العملية التعليمية-التعلمية وأصبحت المعرفة تُبنى أو يُعاد بنائها في تكامل تامٍّ بين المدرس والمتعلم. كل ما يتم القيام به يسير في اتجاه دعوة المتعلم لاستعمال قدراته الفكرية capacités intellectuelles.

ومع ذلك، يبدو أن تغيير المثال المرجعي paradigme لم يكن له الوقع والنتائج المنتظرة بالنظر للجمود immobilisme والخمول léthargie اللذان يطبعان المنظومة التربوية حاليا. هذا ليس هو الهدف من مقالتي الآن. لنتذكر فقط أنه في إطار المثال المرجعي الجديد le nouveau paradigme، أصبح المتعلم هو مركز العملية التعليمية-التعلمية.

ومحاولةً لإيجاد جواب عن السؤال المطروح في بداية هذه المقالة، يمكن أن أقول، حسب رأيي الشخصي، أنه إذا وضعنا المتعلم في إطار المثال المرجعي الجديد، من المفترض أن يتوفر على المواصفات التالية :

بصفته عضو في المجتمع الذي أنشأ المدرسة لتساهم في استمرار نشاطه ودينامياته وتنميته، المتعلم هو:

1.مبرِّر وجود المنظومة التربوية؛
2.كائن يرى، يسمع، يفكِّر، يفهم، لا يفهم، يحس، يشعر، يتصرف، يتفاعل، يحب، لا يحب، يؤثر، يتأثر... باختصار، كائن يُحْسَبُ له حسابٌ لأن له حاجياتٍ على المستوى النفسي، الاجتماعي والفكري؛
3.كائن في بحث مستمر عن الاستقلال بذاته؛
4.كائن في حاجة إلى تعليم وتربية يتَّسمان بالجودة ليتفتح اجتماعيا وفكريا؛
5.كائن له الحق في التعبير عن أفكاره واقتسامها؛
6.كائن له الحق في الترفيه (ألعاب، رياضة، تسلية، مرح...)؛
7.مواطن في طور النشأة؛
8.رافعة مستقبلية للتنمية.

كمركزِ اهتمامِ المنظومة التربوية، يجب أن يستفيد المتعلم من تعليم :

1.عادل، منصف (تكافؤ الفرص) ومرادف للنجاح؛
2.حامل وناقل لقيم المواطنة والمصلحة العامة؛
3.ذي معنى، مُحَرِّر libérateur، مُحفِّز motivant وجاذب attractif لاهتمامه ورغبته في التعلم son désir d'apprendre؛
4.مبدع ومنفتح على الحياة والمجتمع، أي يهيئ للحياة النشطة والاجتماعية؛
5.يأخذ بعين الاعتبار إيقاعَه التَّعَلُّمي son rythme d'apprentissage وخصوصيته (بمعنى اختلافه بالنسبة للآخرين)؛
6.يعطي أولويةً لطرق التفكير وليس لتراكم المعارف؛
7.يُسهِّل استعمالَ و نموَّ المَلَكات الفكرية (تحليل، تركيب، فكر نقدي، اكتشاف، استقراء، استنتاج، مقارنة، حل المشكلات، مَفْهَمَة، إثبات، الخ.)؛
8.يعطي أهمية لوسائل التعلُّم، للمهارات، للسلوكات، للكفاءات وليس لوسائل الحفظ والاستظهار moyens de mémorisation et de restitution.

داخل الفصل (في وضعية تعليم-تعلم)، يجب أن يُعتَبرَ المتعلم :

1.كمركزٍ لنشاط التعليم-التعلم؛
2.قبل كل نشاط بيداغوجي، كشخص يُدرك العالمَ ومحيطَه المادي، الاجتماعي والثقافي بطريقته الخاصة؛
3.كشخص متكامل يستحق الإنصاتَ l'écoute والاحترامَ le respect والتقدير considération؛
4.ككائن مفكِّرٍ un être pensant الذي هو محرِّك وسيِّد تَعلُّمه الذاتي moteur et maître de son apprentissage (تعلم كيف تتعلم)؛
5.كشخصٍ مدعوٍّ لبناء المعرفة أو إعادة بنائها في جو تعاون بينه وبين المدرس وزملائه اعتمادا على معينات بيداغوجية مناسبة؛
6.ليس كفردٍ ما يُرَادُ ملأه بمعارف بكيفية آلية mécanique ولكن كشخصٍ يجب تكوينُه وتربيتُه أخذا بعين الاعتبار استعداداته aptitudes و قدراته capacités؛
7.كشخص له الحق في الخطأ.

السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : "هل مدرستُنا تحترم مواصفات المتعلٍِّم التي يفرضها البحثُ الحديثُ في مختلف مجالات علوم التَّربية؟". الجواب على هذا السؤال تجدونه في نتائج البرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التَّلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA.

***

24- أية مواصفات للمدرس من أجل جودة التعليم

في الماضي (خصوصا أثناء الخمسينيات والستينيات)، كانت مهنةُ مدرس profession d'enseignant تعني التَّمَتُّع بوضع اجتماعي يتساكن فيه الاحترام والاعتبار والكرامة dignité. كان المدرس، فضلا عن دوره في التعليم والتَّربية والتَّعلُّم، مرجعا أخلاقيا une référence morale، أي كان له نصيب في تربية المتعلم. وكان هذا المرجع لا يقتصر مفعولُه على مجرَّد الممارسة التعليمية، أي عملُه داخلَ القسم. كان له امتدادٌ إلى ما بعد الفصل تَتَبُّعاُ للمتعلم خارج الفضاء المدرسي وحتى داخل الأسرة. كان المدرس، في نفس الوقت، مربيا من خلال تعليمه ومن خلال تصرفه وسلوكه داخل وخارج القسم. ورغم محدودية الوسائل البيداغوجية الموضوعة رهن إشارته (هيمنة السبورة والطباشير والكتاب المدرسي)، استطاع أن ينجحَ في الجمع بين وظيفة التعليم ومهمة التربية. كان، بكل بساطة، مواطنا مُشبَّعا بخُلُق المصلحة العامة.

ما يُلاحَظ اليوم هو أن هذه المواصفات statut ou profil تتَّجه نحو الاضمحلال إن لم نقل نحو الزوال لتترك المكان لمواصفات حيث يَحُلُّ محل المصلحة العامة فردانيةٌ individualisme مبالغ فيها، أو بالأحرى، تحُلُّ محلَّ المصلحة العامة الأنانيةُ. وما يثير الاستغرابَ، هو أنه، في زمان غَزَتْ فيه تكنولوجياتُ الإعلام والاتصال جميعَ مظاهر الحياة وحيث عرفت تكنولوجيات التربية تقدما صارخا، فإننا نشاهد بالتدريج فصلاً séparation (تفكيكا décomposition) بين وظيفة التعليم ومهمة التربية.
تَصَلَّبت وظيفة التعليم تحت تأثير الرتابة routine والتَّنميط stéréotypie وتبوأت مهمةُ التربية مرتبات دنيا جاعلةً من المدرسة مصنعا يُداوِل معرفة لا تصلح إلا للامتحانات ومتجاهلةً المجتمعَ وحاجياته.

بالفعل، لقد عرف المجتمعُ تقلُّباتٍ كبرى نتيجةَ تأثير تكنولوجيات متعددة الأنواع. من المفروض أن تتكيَّف المدرسةُ مع هذه التَّقلُّبات وتأخذها بعين الاعتبار لتجديد القيام بمهمتها التي اُنشئت من أجلها من طرف، في ولصالح المجتمع. في غياب كل هذه الاعتبارات، فإنها تصبح عبارةً عن جسم غريب داخل هذا المجتمع. حينها، قد تتحوَّل إلى عبء وهُوةً مالية gouffre financier عوض أن تكون رافعة للتنمية levier de développement.

أكثر من أي وقت مضى، يجب أن تتغير مهمة المدرسة. وأول الفاعلين الذين سيكونون وراء هذا التغيير هم المدرسون علما أن هذا الأخير يجب أن يتحقق حتما من خلال تكوين من مستوى عالي يخضع له هؤلاء المدرسون. وهذا التكوينُ يجب أن يؤدي إلى تعليم ذي جودة يُسهِّل تساكن التعليم والتربية والتَّعلم خدمةً لمصلحة المتعلم والأسرة والمجتمع والبلاد.

وحسب تقديري، من المفترض أن يَتوفَّر المدرسُ، الحامل للتغيير والمصدر الأول والأخير لجودة التَّعليم، على المواصفات التالية :

كعضو في مجتمع ينتظر الكثيرَ من المدرسة، المدرس هو:

-أولا وقبل كل شيء مواطن تتخلَّله أحاسيسُ حب الوطن والمصلحة العامة؛
-رافعة للتنمية (لأن النشاطَ والفعلَ البشريين هما اللذان يكونان وراء التنمية - إنه شيء يجب أن يبدأ من المدرسة)؛
-ناقل ثقافةٍ و قيمٍ؛
-مثال يُحتذى…
كعضو في المنظومة التربوية، على المدرِّس أن يعرفَ :
-أن مهنتَه هي حقا مترتِّبة عن تكوين formation ولكن كذلك عن موهبة vocation؛
-ماهيةَ المنظومة التربوية وبالأخص تركيبتَها والنصوص القانونية التي تنظمها؛
-المنظومة التربوية لبلده وسياستَه التربوية؛
-الوظيفة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للتعليم والتربية؛
-كيفية اشتغالِ mode de fonctionnement مؤسسة مدرسية؛
-أنه عنصر مُهمٌّ في تنفيذ السياسة التربوية؛
-أن له دورا حاسما : الذهاب بالمتعلم إلى النجاح وإلى الاندماج الاجتماعي والمهني؛
-علاقةَ مهنته بالآداب déontologie وبالأخلاقيات éthique والمسؤولية؛
-تفاعلَ المدرسة والأسرة؛
-تفاعلَ المدرسة والمجتمع؛
-إسهاماتِ علوم التربية في تحسين وتطوير مهنته.

داخل الفصل، المدرس هو :

1.متخصص في مادة أو عدة مواد؛
2.مُثقِّف instructeur؛
3.مربى éducateur (يساهم في بناء شخصية المتعلم)؛
4.بيداغوجي pédagogue (البيداغوجيا كفن للتدريس)؛
5.مُلمّ بالديداكتيك initié en didactique؛
6.ملم بعلم النفس التربوي initié en psychopédagogie؛
7.مُحاور interlocuteur (بمعنى حلقة وصل)؛
8.خطيب orateur(بمعنى محيط باللغة)؛
9.مُنشِّط activateur؛
10.مُبدع créatif؛
11مُمْتَحِنٌ examinateur؛
12.ملم بالتقييم كوسيلة وليس كغاية initié à l'évaluation comme moyen et non pas comme finalité؛
13.نصير لتكافؤ الفرص défenseur du principe de l'égalité des chances ؛
14.واعٍ بالاختلاف الاجتماعي والثقافي للمتعلمين؛
15.عنصر يسعى لارتقاء الجودة في تعليمه (تحرُّر، تفتُّح فكري، حِس نقدي، استقلال، اتخاذ القرار، الخ.).

خارج الفصل، هو مَدْعُو :

1.بأن ينظرَ لمهنته وتعليمه وتدخلاته داخل الفصل من زوايا مختلفة (إعادة النظر فيما يقوم به، تقييم ذاتي auto évaluation)؛
2.للبحث باستمرار عن تحسين تعليمه وسُمعته؛
3.لتحديث معارفه المرتبطة بتخصصه؛
4.للتأقلم مع تكنولوجيات الإعلام والاتصال، وبالأخص، تلك التي تُساهم في تقوية جودة ونجاعة الممارسة التعليمية التربوية.

***

- الاحترام بالوسط المدرسي

ما هو الاحترام؟
بكل بساطة وبصفة عامة، الاحترام هو إِعطاء الشخص الاعتبارَ لنفسه وللآخرين. من هذا المنطلق، يُعدُّ الاحترامُ في الوسط المدرسي قيمة أساسية وأفقية، بمعنى أنها تنطبق بكيفية متبادلة على جميع فاعلي وفاعلات الحياة المدرسية. إنه (أي الاحترام) شيئا ما هيكلُ هذه الأخيرة وضامنٌ لجودة عملها. إنه كذلك ضامنٌ لتطبيق مبادئ الأخلاقيات éthique التي تسمح بتعايش coexistence وتساكن cohabitation الفاعلين والفاعلات السالفي الذكر.

من هذا المنطلق، يمكننا القولُ إن صفةَ الاحترام تعني، في نفس الوقت، التَّحلِّي بالمسؤولية. فالشخصُ المسئولُ له فعلا وعيٌ بأهمية قيمة "الاحترام" في إقامة علاقات طيبة بين أعضاء جماعة ما.

فيما يتعلق بالوسط المدرسي، أعضاء الجماعة المسماة "مدرسة"، هم المسؤولون التربويون، الجهاز الإداري، المدرسون والمتعلمون. إنهم، بكيفية أو أخرى، في حالة تفاعل دائم. إذا لم يَسُد بينهم الاحترامُ، تفقد الجماعةُ مبررَ وجودها وصحةَ أساسها. حينها، يُفتح الطريقُ للفوضى إن لم نقل لاختلال الوظائف.

بكل أسف، في أغلب الحالات وفي الوقت الراهن، بدأ الاحترامُ يفقد قيمتَه الاجتماعية في الوسط المدرسي، إذ غالبا ما نلاحظُ تجاوزا وخرقا لمبادئ الأخلاقيات ليس فقط من طرف المراهقين، ولكن كذلك، من طرف الراشدين.

ولكن لماذا بالفعل لم يعد للاحترامِ الوزنُ الذي كان يميزه سابقا، علما أنه يشكِّل قيمةً اجتماعيةً أساسيةً وضروريةً لتواصلٍ سليمٍ ومثمرٍ بين أعضاء الجماعة المدرسية؟

في نظري، الجواب على هذا السؤال بسيط : لقد مررنا من مثال مرجعي Paradigme كان يُكَنُّ الاحترامُ فيه لمؤسسةٍ إلى مثال مرجعي يُكَنُّ فيه الاحترامُ للأشخاص. وللتوضيح، عندما نقول إن على المتعلِّم احترامُ المدرِّس، فالاحترام ليس موجها لشخص هذا المدرس ولكن للمؤسسة التي يجسِّدها هذا الشخص. هذا إن كان المدرّس فعلا يجسِّد بحق هذه المؤسسة! فلهذه الأخيرة إذن قيمةٌ أخلاقيةٌ واجتماعيةٌ.

أخلاقية، لأنها أُنشِئت للإضطلاع بمهام سامية تتمثل في التعليم والتربية. اجتماعية، لأنها أُنشِئت من طرف، في و من أجل المجتمع. احترام المؤسسة هو إذن شرطٌ لا محيدَ عنه ومُسبَق لسَنِّ احترامٍ بين أعضاء الجماعة المدرسية.

والاحترام لا يجب أن يكون وحيدَ الاتِّجاه، وبالخصوص، من المتعلِّم إلى الراشد. لا قيمةَ له إلا إذا تمّت ممارستُه بكيفية متبادلة مع صون كرامة الطَّرفين، علما أن هذه الأخيرةَ لا سِنَّ لها. وبعبارة أخرى، يجب أن لا يُدرَكَ الاحترامُ كاستعلاء لشخص على آخر. حينها، يتحوَّل إلى خضوع وطاعةٍ عمياء. وفي هذه الحالة، لم تعدْ المؤسسةُ المدرسيةُ فضاءً للتربية والتَّعايش والتَّساكن ولكن فضاءً لممارسة الدغمائية dogmatisme.

لا ذكرَ للاحترام إلا إذا كان متبادلاً، و بدونه، تصبح التراتبية hiérarchie قضيةَ مُسيطِرين ومُسَيطرٌ عليهم dominants et dominés، أي السلطة بالمعنى الضيق للكلمة. المؤسسة المدرسية، كوسطٍ للتَّربية والتَّعليم، بمعناها السامي، يجب أن تكون بعيدةً كل البعد عن هذه الصورة.

عندما قلتُ أعلاه إن أعضاءَ الجماعة المدرسية في حالة تفاعل دائم، أقصد تفاعلا حول قضية سامية تتمثَّل في : تثقيف وتربية الأجيال الصاعدة لتسهيل اندماجها في الحياة الاجتماعية والنشيطة. بغضِّ النظر عن السِّن، كل سلوك وكل تصرّف صدر عن هذا أو ذاك من هؤلاء الأعضاء ويسيء للقضية السامية المذكورة، يجب وضعُه في خانة عدم احترام المؤسسة التعليمية.

وهكذا، إنه لا يحِقّ للمسئول التربوي وللمدرِّس وللمتعلِّم أن يُسَيِّدُوا قانونَهم الخاص ولكن قانونَ المؤسسة التعليمية، المعترفَ به والمقبولَ من الجميع. يجب عليهم أن يغادروا أنانيتَهم ليجسِّدوا، كما سبق الذكر، المؤسسة التعليمية. الحق في الاحترام لأي فرد، راشدا كان أم شابا أم طفلا، يجب أن يُمارَسَ في إطار احترام المؤسسة التعليمية.

انطلاقا من هذه الاعتبارات، ما هو وضع الاحترام، كقيمة، ليس فقط في الوسط المدرسي ولكن في المنظومة التربوية بشموليتِها؟

كيف يجب أن يُعَاشَ الاحترامُ في الوسط المدرسي؟

-الاحترام ميزةٌ (رمز) للمؤسسة كوسط عيشٍ جماعي وليس وسط عيش أفراد؛
-إنه واجبٌ على كل فردٍ ينشط ويتحرَّك في هذا الوسط؛
-لا معنى له إذا لم يكن متبادلا؛
-يجب أن يكونَ الاحترامُ مرادِفا للتَّسامح والاعتراف بالآخر؛
-على الأشخاص الذين ينشطون في الوسط المدرسي أن يُجسِّدوا المؤسسة التي لها قواعد سلوك code de déontologie؛
-عليهم أن يقبلوا هذه القواعد وأن يعملوا بها أثناءَ تفاعلهم مع الآخرين تاركين جانبا قواننَهم الشخصية؛
-احترام الآخر يتمُّ من خلال لغة لبِقة، مظهر لائق وسلوك ملائم؛
-الاحترامُ لا يأتي نتيجةً للقهر répression، إنه يُستَحق؛
-لا يجب الخلطُ بين الاحترام وقانون الأقوى؛
-الاحترام لا يتناقض مع السلطة التَّراتُبية autorité hiérarchique شريطةَ أن يتمَّ إدراكُ هذه الأخيرة كضامنٍ لنظامٍ وتناسُقٍ وسطَ الحياة المدرسية وليس كأداةٍ للتَّعسُّف oppression والإكراه contrainte.

ما يجب احترامه في الوسط المدرسي؟ يجب احترام :
-الأشخاص بغض النظر عن سنهم؛
-قواعد السلوك الجماعية؛
-الممتلكات (سيارات، أثاث، معدات، كتب، الخ)؛
-المرافق (أقسام، ساحات، ملاعب، حدائق، مراحيض، الخ).

ماذا على المؤسسة التعليمية أن تفعلَه للنهوض بثقافة الاحترام؟

عليها، من بين أشياء أخرى، أن :

-تُعْتبرَ كمكان للتثقيف، ولكن كذلك وبالأخص، مكان للتربية، للتّحرر، للتّفتّح وتَعلُّم المواطنة وروح المصلحة العامة؛
-تُعِدَّ مساطر سلوك واضحة تستجيبُ لحاجات تواصل سليم و مثمر؛
-تعملَ على سمو فكرة الحقوق والواجبات؛
-تستمعَ لجميع أعضائها؛
-تُشجِّعَ على الحوار؛
-تُرَوِّجَ للتَّسامح في اتجاه قبول الفوارق؛
-تعملَ على أن لا يكون الاحترام مستحقا حصريا للكبار ولكن كذلك، وبالأخص، للأطفال والمراهقين؛
-تعملَ على ارتقاء التربية الوطنية ليس كمادة دراسية ولكن كوسيلة للتّفتّح الاجتماعي؛
-تعطي أهميةً للفنون، وبالأخص، المسرح، من خلال تقمُّص الأدوار والمحاكاة simulation ...؛
-تُشجِّعَ الأطفالَ والمراهقين على الانخراط في مبادرات اجتماعية (جمعيات، تدبير الشأن العام، التَّطوُّع، الخ.).

ماذا يمكن أن تفعله السلطة الوصية على المنظومة التربوية للارتقاء بثقافة الاحترام في الوسط المدرسي؟

حسبَ رأيي الشخصي، ما يمكن فعلُه هو التّدخّل على مستوى تكوين المدرِّسين. في الوقت الراهن، أصبح غير كافي تكوينُ مدرسين يحيطون جيدا بتخصصهم و البيداغوجيا. لا يجب أن نكُفَّ عن القول بأن المدرِّسَ هو في نفس الوقت مُربّي. لا يمكن الاستغناء عن هذه المهمة بحكم أن الطفلَ والمراهقَ يقضيان جزأ مهما من حياتهم في الوسط المدرسي بعيدا عن رقابة أوليائهم وأسَرِهم. أليس لهم الحق في أن ينموا ويتفتَّحوا على المستوى الجسماني، الاجتماعي، الفكري، النفسي، المعرفي... أثناء هذه الفترة؟ للمدرِّس فعلا دورٌ في هذا الاتِّجاه. التربية على الاحترام تندرجُ في هذا السياق.

من أجل هذا، المدرِّسُ الجيد التكوين وكمواطن، من المُفترض أن يكون ملِمًّا ب :

-الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛
-الاتفاقية العالمية لحقوق الطفل؛
-حقوقه و واجباته كمواطن و مدرس؛
-كيفية تدبير الحياة الاجتماعية والصراعات؛
-كيفية التواصل مع الآخرين بطريقة ناجعة وسليمة.

***

26- حوارٌ بين وليِّ أمرٍ ومدرسٍ حول مسار ابنه في الدراسة

كثيرون هم آباء وأمهات المتعلِّمين أو أولياء أمورهم، الذين يتردَّدون على المدرسة، وبالأخص، على المدرِّسين لتتبُّع المسار الدراسي لبناتهم وأبنائهم. وحينما يتعلَّق الأمرُ بتراجع المستوى الدراسي لهؤلاء البنات والأبناء، فغالبا ما يدور حوارٌ بين المدرس وأولياء المتعلِّمين حول نقط ضُعف المتعلِّمين وحول الحلول الممكنة لتجاوز هذا الضعف. وحتى نبقى وفيِّين لمحتوى هذا النوع من الحوار، سأقدٍِمه، فيما يلي، باللهجة الدارجة. إليكم الحوارَ :

وليُّ الأمر : لَاحَظْتْ هَادْ لِيَامْ الوَلْدْ ضْعِيفْ فالدِّرَاسَ دْيَالُو
المدرس : خَاصُو يبْدا إركّز في القسم، وبالأخص، يَحْفَظْ الدًّرُوسْ دْيَالُو
وليُّ الأمر : ولكن راه كنظن راه ماشي هذا هو المشكل. المشكل راه كيركّز ولكن ماكيفهمش مزيان
المدرس : آشْ بْغَيْتِنِي نْدِيرْ لِيهْ إِلَا مَا كَيْفْهَمْشْ؟
وليُّ الأمر : كِيفَاشْ أًأُسْتَاذْ؟ ساعْدُو باش يفهم!
المدرس : رَانِي كَنْشْرَحْ لِهُمْ الدُّرُوسْ كَامْلِينْ إلَا مَا كَيْفْهَمْشْ مَا عَنْدِى مَا نْدِيرْ لِيهْ
وليُّ الأمر : حتى أنا راني كنعيا معاه باش يحْفظْ الدروس ديالو في المنزل. دابا أشنو المعمول أَأُستاذ؟
المدرس : دِيرْ لِيهْ اسْوَايْعْ الإِضَافِيَ!
وليُّ الأمر : إلا غيتحل المشكل، ندير ليهْ السوايع الإضافيَ!

تحليل الحوار

استنتاج عام
إن هذا الحوار، رغم قِصره، يُلخِّص وحده أزمةَ المدرسة المغربية. وباختصار، سواءً تعلَّق الأمرُ بوليِّ الأمر أو بالمدرس، بالنسبة لهما، المدرسة هي مدرسةُ الحِفظ mémorisation والاستظهار restitution. وهذا شيءٌ يلاحَظ فيما تتداوله الأسرُ والمجتمعُ من أحاديث حول المدرسة. من بين هذه الأحاديث، نسمع مثلا، على مستوى الأسَر، جملاً من قبيل : "واش حْفَظتِ دروسك"، نوض تحفظ"، "بَرَكَ من اللعْبْ ونوض تحفظ"...

بصفة عامة، الأسرُ والمجتمع يتمثَّلون se représentent المدرسةَ كمكان سرُّ وجوده هو الحِفظ والاستظهار. والدليل على ذلك أن وليَّ الأمر، عندما أراد أن يستفسرَ عن مسار ابنه في الدراسة، كان رد فعل المدرس التلقائي أنه يجب على ابنه أن يحفظ دروسَه. وحتى وليُّ الأمر، الذي اهتم بمشكل ابنه في مجال الفهم، قال، في آخر المطاف، إنه تَعِبَ من حَثِّ ابنِه على حفظ دروسه. يُستنتجُ من كل هذا أن مُهمة ابنه (المتعلم) الأساسية ، خارج القسم وقبل أن يعود إليه، هي الحفظ والاستظهار.

الاستنتاجات الأخرى
1.مهمة المدرس هي التعليم enseignement وليس مساعدة المتعلم على التَّعلُّم apprentissage علما أن التُّعلم هو الطريق الذي يؤدي للفهم والإدراك. وإذا كانت مهمة المدرس هي التعليم، فهذا يعني أنه فقط يبلغ المعرفة. غير أن التعليم، إن لم يكن وسيلةً تربويةً moyen éducatif لتقوية قدرة التَّعلم، فإنه يُرْغِمُ المتعلمَ على اللجوء إلى الحفظ في غياب الفهم والإدراك.

2.أولا، حين قال المدرس "مَا عَنْدِي ما ندير ليه"، فإنه بتصرفه هذا، يضرب عرض الحائط مبدأ تكافؤ الفرص égalité des chances الذي هو قيمة أساسية ترتكز عليها المنظومة التربوية. عملا بهذا المبدأ، من المفروض أن يسعى المدرسُ، من خلال تدريسه، إلى المساواة بين المتعلمين لسدِّ ما بينهم من تفاوتات من حيث التَّعلُّم بالخصوص. غير أن المدرسَ أبدى استعدادَه بكيفية غير مباشرة لتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص ولكن خارج المدرسة وبمقابل. ثانيا، المدرس لا يأخذ بعين الاعتبار التَّفاوتات الموجودة بين المتعلِّمين من حيث التَّعلُّم حينما يكون منهمِكا في شرح الدَّرس. وهذا يعني، بالنسبة للمدرس، أن قدرةَ التَّعلُّم capacité d'apprentissage متساوية لدى جميع المتعلِّمين. وهذا خطأٌ لأن قدرةَ التَّعلُّم لها ارتباطٌ بالظروف الاجتماعية والاقتصادية التي ترعرع ويترعرع فيها المتعلِّمُ.

3.لم يفكر المدرس ولو هنيهة واحدة في أن الإبنَ (المتعلِّم) يعاني من مشكل في التَّعلم، وإن لم يفلح هذا المدرسُ في اكتشاف هذا المشكل، فالإبن وحده هو المسئول وليس قطعا طريقة تدريس المدرس وبيداغوجيتُه وتواصلُه مع المتعلمين، ولا كيفية شرحِه وتبليغه للمعرفة وتكوينه... وهذا يعني أن المدرس دائما على صواب حينما يكون مُنْهَمِكا في العملية التعليمية التعلمية.

4.ما يبدو مهما من خلال هذا الحوار هو هيمنة المدرس والمعرفة داخل الفصل. أما المتعلم فمهمتُه الأساسية هي الإنصاتُ والخضوعُ لتعليمٍ يُتوَّجُ، في أحسن الظروف، بالحفظ والاستظهار. إنه تعليمٌ، أقل ما يمكن أن يقال عنه هو أنه قهري contraignant، أو بعبارة أخرى، المتعلِّم هو الذي يجد نفسَه مسخَّرا للتعليم وليس العكس.

5.ولي الأمر مُستعد للتضحية ليضمنَ تَفَوُّقَ ابنه في الدراسة. وهذا يعني أنه لا حولَ ولا قوَّةَ له إلا قبول الأمر الواقع، أو بعبارة أخرى، قبول واقع التعليم الذي أصبح موضوعَ متاجرةٍ واتِّجارٍ، أي أصبح عبارةً عن سلعة تُباعُ وتُشترى.

وبكلام أوضح، البيع يجد مصدرَه داخل المنظومة التربوية نفسها، الشيء الذي أدى إلى تكاثر البائعين، أفرادا وجماعات. أما المشترون، فهم الميسورون، أي القادرون على أداء ما يفرضه البائعون من أسعار.

وبصفة عامة، فإن هذا الحوار يفرض علينا طرحَ أسئلة كثيرة منها على سبيل المثال :

-أين دور المدرسة في التعليم والتعلم والتربية؟
-إين روح المواطنة والقيام بالواجب؟
-أين المدرس الذي تحدث عنه أحمد شوقي؟
-أين هي المِهَنية professionnalisme؟
-أين أخلاق المهنة déontologie ou éthique de la profession؟
-أين القيم؟ (تكافؤ الفرص، حق المتعلم في الفهم والإدراك وإلا لماذا يتردَّدُ على المدرسة؟)
-ماذا يريد المجتمع : مدرسة التَّفتُّح والتَّحرُّر أم مدرسة البَبْغَائِيَةِ Psittacisme!
-ما هو موقع المدرسة من المجتمع؟
-أهو ظلم حينما تُرَتَّبُ المدرسة المغربية عالميا في آخر المراتب؟
-هل المدرسة تُكَرِّسُ فعلا مبدأ تكافؤ الفرص أم أنها تُعَمِّقُ فوارق التَّعلُّم différences d'apprentissage؟
-هل المدرسة تتفاعل مع الأسر لتلعبَ دورها كاملا؟
-هل الذين يبعثون أبناءهم للمدارس الخاصة مخطئون أم أنهم أدركوا فعلا عدم جدوى المدرسة العمومية في أداء مهام التَّعَلُّمِ والتَّرْبِيَةِ؟
-أين الجودة؟
-أين، ماذا، ما، هل...

***
ـــــــــــــــــــــــــــــ

الجزء الأول


الجزء الثاني

12- إضراب نساء ورجال التَّربية والتَّعليم، إضرابٌ له مُبرِّراتُه
13- مآلُ مُرتكزات السياسة التَّعليمية مباشرةً بعد الاستقلال
14- من أسباب فشل المدرسة العمومية
15- ماذا عن جودة أداءِ المدرسة والتعليم والمدرِّس
16- وضعُ المعرفة في الوسط المدرسي
17- عندما تُهينُ المدرسةُ المتعلمين
18- خلط كبير بين المفاهيم الثلاثة : التّعليم، التّربية والتَّعلُّم
19- الاستعمال الروتيني لبعض العبارات في الممارسة التعليمية، "غَرَزَ في الذهن" كمثال
20- البيداغوجيا، فن التدريس
21- الديداكتيك، تنظيم وتدريس مضامين تخصُّصية
22- إصلاح بعد إصلاح بدون فلاح!
23- ماذا عن المتعلم، كعنصرٍ في طور الإعداد الاجتماعي وكفاعلٍ لاحقٍ في التنمية؟
24- أية مواصفات للمدرس من أجل جودة التعليم
25- الاحترام بالوسط المدرسي
26- حوارٌ بين وليِّ أمرٍ ومدرسٍ حول مسار ابنه في الدراسة



/

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى