محمد سهيل احمد - المانـيكـان

على النقيض مما اعتاده أصحاب محلات بيع الملابس النسائية ، فإن فوزي وجد نفسه مضطرا لاستئجار محل في زقاق منزو من أزقة ( البجاري ) تفلقه طوليا ساقية متعرجة آسنة المياه وتنتشرعلى جانبيه محلات متنافرة اللافتات فقبالة محله ثمة مقهى بمصاطب متراعدة الأرجل فرشتْ بحصران مستلة الأعواد ، وهناك خياط توقف بحكم تبدل الموضات عن خياطة بدلات المناسبات مكتفيا بريافة وترقيع البناطيل في حين تتسرب رائحة بائع الفلافل من أقصى الزقاق مختلطة مع روائح المخللات المندفعة من محل البائع المجاور؛ يتسلل معها شذى معتق لنبيذ محلي . ولعل من حسن حظه ان اغلب رواد ذلك المقهى المتداعي اعتادوا شرب شايهم المكرر ونارجيلاتهم داخل المقهى المعتم ، ما يتيح لفوزي إمكانية تعليق الدشاديش النسائية والقمصان الداخلية خارج المحل بينما يحتل الواجهة الزجاجية مانيكان ألبسَ ثوبا شفافا على جلباب زبرجدي اللون في حين يشرئب عاليا عنق أهيف يعلوه رأس انثوي صغير لأنثى بقسمات مستدقة وعينين ملونتين بجفنين مسبولين بينما يستقر سلسال فضي في النحر متوسطا نهدين نافرين . أما الوجه فتعكس ملامحه براءة ممزوجة بسحر انثوي جاذب يأسر الناظر اليه فلا فكاك !
تستغرق رحلته شبه اليومية الى المحل ما يقارب الساعة ،يجتاز فوزي خلالها شارع المطاعم المزدحم بباعة من جميع الأصناف مرورا بالصناديق الزجاجية لمصلّحي ساعات اليد منعطفا صوب محله . يدس مفتاحه في القفل الصدئ الجاثم على أرضية العتبة رافعا بابه المتعرج الاسطوانات الذي يملأ الزقاق بصريره الحاد .

*
قحطان .. ذلك الشاب الطويل القامة الناحل الذي ما انْ لفظه باص الكوستر بجوار الرصيف الذي تشغل ركنه منضدة بائع الصحف ، حتى توقف أمام المطعم وأخذ يحملق في أطباق المعروض من الباذنجان والبطاطس المقلية وكرات الفلافل الناقعة بالزيوت المتلامعة.وكان في نيته ان يدخل المطعم غير انه وبعد ان دسّ يديه في جيوب بنطاله الجينز ، قام بتأجيل تلك الرغبة ، دالفا لسوق المطاعم متشبثا بحقيبته السوداء التي غزَتها التقشرات منعطفا يسارا الى الزقاق . أسرع بالسير بضع خطى قبل ان يلمح اللافتة ( مخزن الأميرات للألبسة النسائية ) لكنه لم يجد صاحب المخزن كما ان بابه الزجاجي كان موصدا . وحين سأل ساقي الشاي في المقهى المقابل رد الأخير باقتضاب :
ــ مشوار قصير ويعود ..
توقف قحطان واجما مطلا على واجهة المحل الزجاجية حتى أمكنه ان يتعرف عليه عن كثب . هو نفسه الكائن المصنوع من لحم النايلون والذي غاصت فردتا حذائه في رمل الأرضية . لمح المصباح البرتقالي اللون الذي اعتاد أنْ يسكب نوره على الجسد المحنط ومن ثم انحدرت عيناه الى الأرضية التي احتشدت بالبرغش والذباب المتهاوي من جذوة المصباح . لحظتئذ شعر بيد تلامس كتفه فاستدار ليبصر فوزي . تعانقا فسأله الأخير : ــ اين كنت طيلة هذه المدة ؟ !
ــ كنت مشغولا بالبحث عن عمل .. وأيضا بهذا الكتاب ..
انصرف بناظريه الى حقيبة يد القادم مستطردا :
ــ مجموعتك القصصية ؟
ــ اجل ..
ــ وهل اكتملت ؟
ــ النص الأخير الذي رويتَه لي يبدو لي غير مقنع ..
انبرى فوزي هاتفا :
ــ غير معقول ! كل هذه الشهور ومازلت حائرا في اختيار الخاتمة ؟ ! دعنا نراجعها معا ونحن نشرب الشاي ..
رد قحطان وهو يدفع بحقيبته ، وبصوت مرهق معلقا :
ــ كلا يا صاحبي .. انها ليست لعبة دومينو ..!
ضحك فوزي معقبا : ــ براحتك !
كانت سنوات الكساد تتسكع طولا وعرضا وسط الزقاق ولكن ومع مرور الوقت انتعشت مبيعات المحل . صارت تفدُ على المحل نسوة بأعمار شتى ومن مناطق متعددة : قرويات ، معلمات ، موظفات مصارف ، صغيرات في السن ، متسولات وبائعات جسد وأخريات ودّعن شرخ الشباب .لكن المحل ، وفي الوقت نفسه ، اجتذب اليه عددا من الكائنات التي لم تزره من اجل الشراء بل لأهداف أخرى . ثمة متسولون من كلا الجنسين ، ما أن يلتفتوا الى المانيكان حتى يتوقفون من اجل تأمل هيئته لوقت يطول او يقصر .وجوه تلتصق بالزجاج البارد كيما تحملق في دمية المطاط بحثا عن شيء قد لا يكون مرتسما على الوجه او في ثنايا الجسد ؛ ومن ثم يواصلون السير متلفتين الى الوراء وسرعان ما يذوبون متوارين فيما بعد المنعطف . وكان قحطان واحدا منهم حتى ان فوزي ضاق ، في البدء ، بتحديقته الطويلة في المانيكان ، لكنه ، ومع مرور الأيام كسب ودَ فوزي بعفويته وثقافته ، قبل ان يغيب ثانية .
ــ هل وجدت عملا ؟
رفع القادم كتفيه ومط شفتيه :
ــ ومن يجد عملا هذه الأيام ؟ لا في قريتي ولا هنا .. في قلب العشار !
اخرج فوزي جيبه ثلاثة دنانير وناولها له :
ــ اذهب وتناول سندويجة وبعدها لكل سؤال جواب ..
انتزع الشاب النحيل حقيبته من براثن كتفيه تاركا اياها على الطاولة التي تتوسط المخزن :
ــ سأفعل .. فقط عليك ان تفتح الحقيبة وتقرأ نص ( المانيكان ) وهو آخر نصوص المجموعة ..سأعود لأستمع لرأيك في النص الموجود في آخر الكراس ..
ثم غادر متجها الى محل الفلافل القريب .
أخرج دفتر الحكايات فاتحا اياه على آخر النصوص ليقرأ العنوان ( المانيكان ـــ قصة قصيرة ) وجعل يقرأ : " في الواجهة الزجاجية التي تصدرت المخزن تتشابك الأضواء الباهتة المنبعثة من قرص النيون المعلق في سقف الواجهة مع أنوار المخزن الفاقعة الصفرة . في بهرجة الصمت استلقت ثلاثة نماذج من الأقمشة على جدار من النايلون المشجر. كان الفتى داخل الواجهة الزجاجية وقد أمال كتفه اليسرى وألقى بثقل جسده على عكاز ملطخ بالوحل المتيبس وقد تدلت ساقه المشلولة من جلبابه المنقط كغصن شجرة قصمته عاصفة فظل يتأرجح . أخرج خرقة تقطر بالماء وطفق يمسح الزجاج . وعبر الزجاج ، في الخارج .. عبر الذيول المترجرجة بماء المطر ، بدت الأجساد العابرة مشوهة فاقدة لأشكالها الطبيعية .لا يستطيع الآن أن يراهم بشكل جيد . أصواتهم وحسب هي التي تخترق شقوق الواجهة نحوه .لكنهم كانوا يسبحون في أنوار السوق الشاحبة تحت مستطيل ضيق من السماء وينحدرون في تؤدة كخيوط من النمل . ان الأجساد لتنحدر في ظلمة الجسر وتنتشر في الطرقات كما يتسرب سائل من زجاجة مقلوبة .. يضحكون في عبث ويثرثرون تحت يافطات المخازن الملطخة وفي الممرات التي تندفع منها روائح زيوت القلي وأبخرة الأكباد المقلية . وخلف الفتى ينتصب الجسد الأهيف الذي انعدمت في جوانحه الروائح الأنثوية . كان الوجه دائري الشكل يتوسطه انف صغير الأرنبة وفم خضب بالأصباغ وكانت الوجنتان حمراوين والشعر أشقر. أما القلادة فكانت بحاجة للترتيب ــ كانت السلسلة المنحدرة الى ما تحت الصديري الأخضر تنتهي بقلب فضي اللون اخترقه سهم كيوبيد ــ لذا كان وضع القلادة بحاجة للتعديل . الصق شاب أصلع وجهه بزجاج الواجهة لحدّ الالتواء ملوحا بيده مشيرا للداخل ثم دنا من باب المحل الموارب هاتفا :
ــ ما الذي تفعله في هذا القفص أيها الولد ؟
أرجحت يد الفتى الخرقة . صاح :
ــ إنني سجين !
قهقه الأصلع :
ــ إنها نكتة رائعة .. هلّا غادرت ؟
أشار الفتى الى المانيكان :
ــ ليس قبل أن ..
ــ آه .. هذه الدمية ! أهي سجينة مثلك ؟
ــ لا اعرف .. لقد أهملت منذ فترة طويلة !
كانت شبكة مفاتيح تتأرجح بين أصابعه . وكانت الأقفال الثلاثة للمخزن متدلية كألسنة جثث منطرحة . كانت المفاتيح في عهدة صاحب المخزن فكيف أضحت بين يديه ؟ ! انه ــ كالسائر في نومه ــ ماثل أمام الواجهة الزجاجية تماما . وها هي الفتاة المانيكان : اليد الرشيقة ذاتها ، الثوب ذو الكسرات ، الصدر النافر ، القلادة . هتف الفتى في جذل :
ــ لعمري .. إنها امرأة .. امرأة .. امرأة !
احدث سقوط العكاز جلبة . تأوه الشاب الغض . أمام عينيه تأرجحت صورة لإنسان قديم كثّ اللحية يصارع نمرا أرقط بسكين قصيرة حادة النصل . التف حول المنضدة ملقيا بقصاصات الأقمشة الى الأرضية ، دافعا بالجسد الصامت لينطرح . . الى أرضية الواجهة .
ولقد مضى في عناق المانيكان بقوة ! "
---------------------
------------------
أخيرا أدرك فوزي أنّ نص ( المانيكان ) قد كتبته الأعين قبل الأقلام !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى