أدب السجون هداية شمعون - إلى الأسيرات جميعا: ما أجملهن حين يضحكن..!

وجدت نفسي دون مقدمات أمام عيونهن الدافئة القاسية في آن معا، تتراقص كلماتهن، تعابيرهن، وجوههن بأيام كن فيها فتيات جرئيات جميلات، أيام خلت بعد أن رحلت سنوات عمرهن خلف السجون الإسرائيلية، وجدت نفسي في نهر من الذكريات المتدفقة الموجوعة والنازفة، بالكاد تلمح بسمتهن رغم كل الألم وتهدهد وجعك المفاجئ ضحكاتهن، ما أجملهن حين يضحكن!!..

وجدت نفسي مدربة لثمانية أسيرات في عمر أمي وأخواتي، كم شعرت أني صغيرة لحد التلاشي بينهن، كم فاجأني الشوق والشغف لأسمع تفاصيل حكاياتهن، تلك الأيام القاحلة التي كن فيها وحدهن، لم أكن حينها معهن ربما كنت في رحم أمي، ربما كنت أمام باب بيتي في حارتنا الصغيرة، أدركت غبار الزمن في وجه أمي وأبي لأنهم جاءوا راحلين من بلدتهم تل الترمس، بينما ولدت في المخيم لم اشهد الرحيل والحرب والموت والقهر، واجهت في صباي الانتفاضتين، وهؤلاء هن بطلات تلك الأزمنة وما قبلها، وجدت نفسي أمام عمالقة النضال الفلسطيني ذلك الكنز المدفون في غزة، تلك الجواهر التي ذاقت الأمرين وعانت وتحدت وصمدت دون أن تقترب منهن عدسات الكاميرا وبوتقة الإعلام، تحسست خطوط وجوههن القديمة، وتفقدت عذابات أيامهن خلف أسوار السجون هنالك في تلك الصحراء كن يقبعن زهرات جميلة كانت ترنو للحب والحياة لكنهن اخترن حب فلسطين، وتقدمن على الأشواك ودماؤهن تسيل، كن يدا واحدة، وجدت نفسي فخورة كل الفخر أن أكون بينهن أصغي لحكاياتهن، لوجعهن، لشريط الذكريات، بينما الدموع والبكاء لم ينقطع ورغم ذلك كانت بسماتهن وقوتهن تعلو رغم كل شيء.

أم أحمد تلك المرأة الجميلة التي انتزعوا طفلها الذي لم يتجاوز الثلاث وعشرون يوما من حضنها، ليبقوها في التحقيق والعزل، بكت كثيرا حتى ابتلت الأرض من دموعها، كانت كالعطشى التي لم ترويها أنهار الأرض، كانت أمامي تروي حكايتها ..لم أكن أصغي كنت أذوب في اشتياقها لرضيعها، ينفطر قلبي لشعوري باني هنا في التعذيب والتحقيق لا أعلم شيئا عن وليدي، كنت أسحب نفسي من الذوبان في بركان غضبها على صغيرها، وأنقذ نفسي من التضامن مع لوعتها حينذاك، خشيت أن أتورط في حبهن وحاولت ألا أسرد حكاياتهن لكل من أراه.

أسمع الآن صوت أزهار تقول ( تلك المرأة التي أحبتهن): .. ليس لي من حديث أو حوار في عائلي إلا عنهن وعن حكاياتهن الحبلى بالأسرار، بالحب لفلسطين، بالعذابات لأمهات أسيرات وأطفال اسري.. لم أعد أتمكن من الفصل بين حياتي الخاصة وبينهن.. أحببتهن حتى الوجع .. كانت كلمات أزهار صادقة ولم يكن بوسعها غير التورط في حبهن، وتورط كل من يقترب منهن..

أم علي بصوتها المبحوح وخمارها الرمادي صوتها يأتيني كمن هو بعيد مسافر ويقترب ويقترب، فأجدني مشدوهة بذلك الصوت الجميل إلى نفسي، أقترب أكثر من حياتها، من كلماتها الناضجة، احتضنت ابني بعد ستة عشرة عاما عرفني وعرفته، والأسر كان بداية الحكاية.. كانت تتكلم بوجعها بألمها وكنت احلق في الأفق أعود بالزمن إلى الوراء أتيه في سحابات حياتها، في رحيل صغيرها مع أبيه وهو لم يتجاوز العامين، في انفصال زوجها عنها بعدما عرف بأنها أسيرة، وقعت فجأة من موكب عال رفيع على ارض الواقع .. وصوتي المكلوم لم يعد يصل لباقي الحكايات..

أي ألم يجب أن يحتمل المرء ألم السجن والجدران أم ألم سجن النفس.. إنها هناك أول من بدأ الحكاية كانت لمعة أم رائد أول من ألقت بصخرة الكلام بعيدا وتاهت وتهنا معها في تفاصيل الاعتقال والسجن، في ألمها على أحفادها وأولادها.. كانت عيناها الواسعتين تتألقان والدمع يسقط عزيزا ..كنت قد أخفقت في احتضانها وأخفقت في مسح دمعها أردتها أن تبكي وتبكي وتبكي لأنا جميعا بكينا.. ربما أزاح البكاء صخرة الكلام الثانية المتبقية.

وقفزت فتحية بوجهها الأسمر وتلقائتها لتصف صمودهن في وجه التعذيب وما حاول السجان أن يدوسه من كرامة فلسطينية لكنهن كن الأقوى وكن الأمل لغيرهن من فتيات وظل صوتها يرن في الذاكرة الخجولة لم نعرف الخوف حينها إما نكون أولا نكون..

وتقتحم مخيلتي صبحة ببسمتها الجميلة، تمد يديها لأرى معالم لدغات السيجار في جسدها، كانت الأكثر صمتا في بادئ الأمر ثم أصغيت لوجهها المشرق، كانت الأكثر علما بما كان يوما في غياهب الذاكرة لكنها كانت راضية وسعيدة رغم ذلك الموت الذي واجهته تشعرك أنها تحتمل أكثر وأكثر..

وكانت ريا، وأم محمود .. وو كانت كل منهن حكاية وكل منهن وجع خاص لكنهن جميعا دون استثناء كن الأجمل والأرقى والأنقى، شرف كل الشرف والفخر لمن يعيش معهن لمن يقترب من أيامهن وواجب على هذا الوطن أن يقدم لمسة حب وحنان لهؤلاء الرائعات، أثمن على يد الدكتورة مريم أبو دقة عاليا لأنها كشفت عن هذا الكنز وبحثت عنه رغم كل العفن ورغم المتطفلين وحملتهن جوهرة بعد أخرى وجمعتهن في مكان يشبه الوطن.. وأثمن اليونيفام لحسن اختياره فئة مميزة من النساء الفلسطينيات والتواصل معهن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتبة وإعلامية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى