سيدة بن جازية - بقعة حمراء على كفّ عفريت

غمست يدي في البركةاغتسل،ماء رقراق لُجيّ صاف مُغرٍ بسباحة في العمق و سياحة في الخاطر ، دقات قلبي يتسارع خفقانها، دبيب نمل يتسرب إلى أحشائي يتحالف للتمزيق، ومض بريق لامع لمحته أو تراءى لي كالسيف الحسام يقطع العالم نصفين ،الصورة ضبابية تهتز على وقع أنين لم أفهم ما القصة، لذلك غرفت منها كوكبا عشوائيا ، نفضته مما علق به من شوائب ثم وضعته في الصحن الفضي و هممت بتقشيره قشرة قشرة بكل تؤدة حتى بانت عوراته عورة عورة منتهكة ذليلة .
قهقهت عاليا لفظاعة المشهد اللقيط، والتمعت فكرة جهنمية.
ماذا لو... وهم نيام... لا يعون ما يحدث كعادتهم... صه...

بحثت عن خنجر حاد و شرعت في ذبح القربان ، غاصت في العمق،قطّعت أوردة و أودية و شلالات و أراض خصبة وسهول وحقول النفط والحنطة والشعير...لكن لم يكن الأمر بسيطا كما توقعت ، فالمكعّب الأسودُ الذي توسّط المكان عرقل مهمتي ، ضيّع البوصلة و قلب الموازين، سقطت آلتي الحادة في وضع السّجود مستقبلة القبلة . غيّرت المسار في دهاء واخترت المداهمة بقطع أوصال الجذور فانقلب خنجري الغبيّ راكعا بين القبتين... حاولت مرارا وتكرارا، استعنت ببعض الملاعين... استعصى الأمر، ولم أفهم كيف يعجز خنجري الفولاذيّ أمام كومة القش و التراب النديّ .
مرغما غيرت الخطة و استبد بي العناد الأبيّ، إمّا " أنا " و إمّا الفناء...

رميت القشور و اللحاء التي نجرتها من الكويكب في القمامة المنصهرة، امتزجت دموعهم بدمائهم و اختلط شرفهم بالعار ال... لم أبال... ولن أبالي.
استشاطوا غضبا واستشطت استعذابا للمزيج المتجانس..
استنكرت أطرافي المشهد، وخزتني و ثار دمي حاميا مستعرا، اللعنة ، ما الذي دفع بحميّتكم لهذه الثورة؟! وجدتني مدفوعا إلى خارج الميدان، صحت كالمعتوه في حركات دائرية :
ما علاقتكم بهم ؟ سأقطعكم طرفا طرفا دون رحمة يا...

استعدت هدوئي وسكينتي على مضض ، و انكفأت استمتع بصنيعي ولو للحظة. يا للروعة! كبرياء مغموس بالطمع ، و ذلّ نكّس الرؤوس وحنى الرقاب، يكفينا فخرا لدهور ، أليس كذلك؟ أجبني أيها الساعد العميل تكلمي أيّتها السيقان الخائنة العطوف، مثلهم تعشقون الانبطاح و الخذلان، خمس سأقطعكم بعد إتمام الوعد و الوعيد.

بدا المشهد غريبا،اختلطت في الصيحات بالتكبير والتهليل والزغاريد و التهاني، سيمفونية أصمّت الآذان و أجحظت الأعين و شنفت الأنوف ... أخذت عدستي المكبرة ٱتفحّص سرّهم فلفحني نور ساطع وهاج .
اقتحم جند المكان، انتزعوا من يدي آلتي و لفّوا عينيّ بعصابة سوداء ثم ألجموني بطوق ناريّ، لم أشعر بشيء إلا وقع آلاف الجياد تقتحم المكان ، افتكّ قائدهم الكوكب الدريّ ثم رفرفوا بأجنحة قوية متصاعدين نحو الأفق، تابعت المشهد حتى غاب عنّي الصوت تماما.
في هلع، استعدت وعيي وأقمت ظهري متّكئا إلى سند طريّ هشّ.
- تتساءل من أنا أتريد أن تعرف ؟ أنا جدّكم ابراهيم نسل عاق ، ثم وشوش لي تعويذة وطلب منّي أن ألقِّنها إلى كل من يعترضني، نهضت مسرعا نحو الشرق بعد أن فكّ رباطي وأنا أصرخ في البركة :
- النصر قريب، و الرب رقيب...
فاضت تلك البركة دماء حمراء قانية كحدائق الجبوري و شقائق النعمان في ربيع العرب، انتفضت منها أجنة نورانية تتراقص و تعالت زغاريد تقصف المكان فتفتّقت الأكفان و استحالت أجنحة رفرافة، و وجوه مألوفة خبرتها ذات قصف محموم غبشني نورها الوهّاج .
هرعت خلف الجدار المتداعي أواري سوءتي وأسترق النظر فلمحت بأم عيني أجسادا تنهض من قمامتي قد علقت بها حمم بركانية... و تلك الأجنة تنفخ فيها بأمان فتتفتح أزهارا.

أخذت أفرك كفّي لأزيل بقعة دم قانية عالقة به منذ زمن لكن أبت الزّوال... قضمتها قصد التخلص منها والتبرؤ من أثرها لكن لم تُنتزع، عضضتها بكل ما فيّ من غريزتي الوحشية بيد أنها أخذت تتوسّع حتى كادت تغطي يدي، نظرت حينها إلى الخنجر القابع مبتهلا في محرابه ثم حاولت أخذه وهممت بقطع كل الذراع قبل حدوث المحذور، فتفطن الكل لوجودي.

تذكّرت حينها تعويذة جدّي ألقيتها فيهم، خانني الصوت ، ردّدتها في سرّي، يا إلاهي ، هدأ الجميع في خشوع.
سألني أحدهم مستعطفا : متى تكفّون عن صنيعكم يا ...؟
أجبت وكلي ثقة في النفس : إن تثوبوا إلى رشدكم نصالح.
- في بيتنا وأرضنا و تقدح فينا، تبّا لكم يا نسل الخنازير ؟
- ونحن كذلك في بيتنا وأرضنا يا ...
- لا دين لكم ، لا ميثاق، خسئتم....
قاطعتهم : الحياة تأبى الضعفاء و الحمقى وهذه الحياة جعلت لجنس واحد ودين واحد ، للأقوى فقط
في تلك اللحظة وضعت كل الاحتمالات عدا ما رأيت، انتفضت " القشور " نحوي حتى التهمتني وهي تردّد نحن الخنجر، نحن السكين، منذ سنين يذبحكم الأنين حتى أتاكم اليقين... جدنا وجدكم ابراهيم لا يرضى للظلم المكين...

انتفض الجميع يطوفون بالبركة الزاهية و عبق شذيّ قد غطّى رائحة الشواء بعد أن اصطبغ كل شيء بحمرة قانية.

سيدة بن جازية تونس
31/12/2023 مساء


من وحي صورة قابلتني فغبشت ورودها نظري خلتها لوهلة جثثا ممددة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى