عبدالله عبدالإله باسلامه - الرب هناك.

خاب ظنه حين لم يجدها في مكانها المعتاد داخل مكتبته حيث يطيب لها الجلوس على كرسيها الجلدي الأسود تحت مينوارة الشمعدان سباعي الرؤوس تطالع الكتب وتراجع مؤلفاته وترتب أوراقه وكتاباته. شعر بالقلق وهو يفتش عنها في حجرات البيت وبالغرابة حين ناداها فتجيبه من حديقة البيت ليجدها كامنة بين شجرتي الغرقد ..خلع الطليس من فوق كتفيه ودثرها به، جلس بجانبها يحيطها بذراعه ليدفئها:

- آه .. يا ابنتي لوتعلمين كم كانت أياما صعبة.. كنت كالمجنون لم يغمض لي جفن وابنتي بين يدي مجرمين انتزعوا الرضع من أحضان امهاتهم، وقطعوا رؤوسهم وأحرقوهم واغتصبوا النساء و..

- أبي .. لا تردد كلاما لم يحدث.
- اااا... لقد حدث يا ابنتي أنت لا تعرفين ماذا فعلوا...
التفتت إليه بحدة
- لو كانوا اغتصبوا النساء عند هجومهم لكان الأحرى بهم أن يغتصبونا ونحن اسرى بين أيديهم في الأنفاق.. فكف عن الكذب.
- ح حسنا .. ما علينا ..المهم انك هنا محمية آمنة في بيتي .
- وهناك كنت محمية وآمنة .. أنتم من كان مصدر الخطر .

فتح فمه دهشة يحدق في وجهها على هزيل الضوء القادم من نافذة البيت العلوية، أخذ يتحسس رأسها يتلو تعاويذ ويعض على شفتيه قلقا وألما وحسرة لا تختلف عما كابده لحظة سماعه أخبار هجوم حماس على كريات شمونة ومستوطنات غلاف غزة صباح السبت الأسود وأن ابنته أسرت مع عشرات الجنود .

لم يقر له قرار، شعر بالتمزق لأول مرة على ما يجري من حرق وسحق للبشر والحجر في غزة خوفا من أن تصاب ابنته الوحيدة تحت رحى الآلة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة التي لطالما شجعها ودعاها إلى مهاجمة الغزاوزة، وعدم الرحمة أو الرأفة بهم، بل وسماها آلة الرب التي تمثل إرادته في تحقيق وعده لأحبابه وأوليائه باستخلاف الأرض ..كانت ابنته أكبر المؤمنين به وذراعه اليمنى وأمين سره، ومن يتولى عقد كل مؤتمراته واجتماعاته، وتنظيم زيارات مريديه، وتنشر له وتدافع عنه ضد الملحدين الذين يسمون أنفسهم جناح اليسار والاعتدال، والذين خشي على مكانته من أن تهتز أمامهم، وأن يستغلوا مصيبته لو خرج بنفسه وطالب بإيقاف الحرب من أجل إعادة الأسرى وإنقاذ ابنته، فأوعز إلى طلابه وخاصة مريديه بالاعتصام والتظاهر أمام مبنى الحكومة، وظل يتنقل كالمجنون يلاحق المسؤلين طوال شهر كامل إلى أن قامت كتائب القسام بمبادرة إنسانية عادت على إثرها ابنته ليمتلئ قلبه الشاغر .. لكنه شعر لحظة أن ضمها إلى صدره كأن صخرة عملاقة تدهسه حين أحس بها تتملص من بين ذراعيه وتغرق في صمتها وبرودها، وتنفر من حفلة استقبال أعدها فرحا بها، ثم انزعاجها من أسراب الطائرات التي تروح بطانا بالقنابل والصواريخ وتغدوا خماصا...لم يك يملك غير أن يبتلع مرارته وهواجسه ويطلق زفرات حرى متأوها:
- آه ..ماذا فعل بك المجرمون؟ هل سحروك؟

- لم يسحروني.. لقد كانوا أناس طبيعيين وليسوا وحوشا..كانوا يخافون علينا أكثر من خوفهم على أنفسهم ِ. كانوا في قمة الفداء لأرضهم والوفاء لرفاقهم في سجوننا.

- أولئك ليسوا بشرا.. بل حيوانات هم أعداء يهوه .
- دعك من يهوه فهو ليس هنا.
- حبا بالله .. هل صبأت؟

شهق الأب فزعا وهو يتراجع الى الوراء يحدق في ابنته كأنه يراها لأول مرة مالبث أن أطلق تنهيده وأعاد رأسها إلى صدره يجتر حسرته بصمت.

- أنا لست مريضة.. لم أصب بصدمة نفسية كما يحاول الأطباء أن يوهموك.

ارتعد جسده كأنما باغتته عاريا كعهده بها شديدة الذكاء قوية الشخصية، تقرأ أفكاره وتعرف نقاط ضعفه وحتى نواياه، وهاهي تقطع عليه آخر أمل له كان يعلل به نفسه.. بينما استطردت بغضب وحيرة:

- كيف لشعب الله المختار أن يكون مكروها؟ و من العالم كله؟! لماذا حشرنا الرب في مكان ليس لنا ؟ وعرضنا لهزيمة نكراء على يد جماعة مسحوقة.. أبي الرب ليس هنا .. الرب هناك .

- الرب !! أين هناك ؟
- تحت الأرض، في الأنفاق المطمورة بالتراب الغارقة بالماء والدماء، تحت الركام والأنقاض، رأيته يمدهم بالأكسجين والصبر والقوة ليعودوا أقوى مما كانوا.

نهض الأب كأنما لدغته عقربة وقبل أن يتحرك مغادرا دوت صفارات الإنذار وبدأت السماء تتوهج بانفجارات الصواريخ والصواريخ المضادة ..فمد إليها يده مذعورا:
- دعينا من هذا الكلام ..وهيا انهضي لنهرب إلى الملجأ بسرعة .

التقطت يده وبدلا من أن تجري استوقفته ممسكة به من كتفيه تحدق في بؤبؤي عينيه اللتين عكستا ألوان النار القادمة من السماء:
- إلى متى سنظل نهرب ونختبئ؟ أنت تعرف جيدا أن الملجأ الآمن لنا هو الحقيقة .

أظلم وجهه وارتجفت شفتاه فمسحت على ذقنه الكثيفة الشعثاء برفق، وتركته واقفا كالمصعوق، وحيدا بين شجرتي الغرقد .

عبدالله عبدالإله باسلامه
ذمار / اليمن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى